30/09/2020 - 13:25

بعد عشرين عامًا: هل بوسعنا استرداد معاني الهبة؟

لا يكاد يبقى إلا القليل من تلك المعاني والدروس. فرغم الوحدة الظاهرية التي تبثها فكرة القائمة المشتركة، فإن قيادات أحزابها متورطة في ثورة وعي مضادة، بعضها عن يفعل ذلك بوعي تام، وبعضها الآخر بلا وعي.

بعد عشرين عامًا: هل بوسعنا استرداد معاني الهبة؟

ليس المقصود بهذا التساؤل الإجابة بنعم أو لا، إنما الدعوة إلى بعث الأسئلة التي طرحتها تلك الهبة الشعبية المجيدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2000، في ظل الإجهاز على كل ما تبقى من معانٍ رمزية وثقافية ووطنية، واستبدال هذه المعاني بخطاب وسلوكيات ومفاهيم أسقطها فلسطينيو 48، عبر نخبهم الوطنية وحركاتهم الطلابية وعمالهم وفلاحيهم. وسيجد البعض في الانهيارات العربية الرسمية، أي الانتقال من التطبيع إلى التحالف المباشر والخيانة المكشوفة المبررة أيديولوجيًا، سيجدون مبررًا للتحلل مما تبقى من نفس وطني وفكر تحرري لا تزال طلائع في الشعب والأمة تتمسك بهما. ولذلك، فإن المعركة على الوعي وتأطيره باتت مهمة شاقة، وتحتاج إلى استثمار كل ما هو إيجابي في شعبنا وتاريخه وحاضره.

قبل عشرين عامًا، امتلأت الشوارع في كافة البلدات الفلسطينية، في الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل، بالناس الغاضبة من كافة الشرائح والأعمار، مع غلبة الجيل الشاب. واستمرت هذه الانتفاضة التي اتسمت بعنفوان غير مسبوق، لمدة ثمانية أيام، انتهت بتضحية بشرية كبيرة وصادمة تمثلت باستشهاد 13 من المنتفضين الشباب، إضافة إلى مئات الجرحى والمعتقلين.

كان انفجار الغضب الشعبي، وبهذا الاتساع، وبهذه الشمولية مفاجأة للمستعمر الذي رأى في المواطنين العرب عدوًا أسوة بـ"العدو الفلسطيني" المتواجد خارج "الخط الأخضر"، والحقيقة أنها كانت أيضًا مفاجئة، لنا جميعًا. وعندما كنا ننتقل من بلدة إلى أخرى في أتون الانتفاضة، كانت تعترينا رهبة وذهول إزاء ذلك الاندفاع الجماعي الشعبي المخول، غير المسلح، نحو المواجهة، وكأن الناس كانوا رجلًا واحدًا يتحكم بحركاته في نسق واحد وموحد، وبغياب قيادة ميدانية منظمة تدير المواجهات والتي كانت تتخذ شكل الكر والفرّ ساعات يوميًا، وحتى وقتٍ متأخر من الليل. ورغم أننا كأحزاب وهيئات تمثيلية، بدعوتنا للإضرابات والمظاهرات، كنا ندرك قدرة شعبنا في الداخل على الاحتجاج والتظاهر، إلا أنه لا أحد منا توقع أن شعبنا في الداخل، وخاصة الشباب، لديهم هذا القدر الهائل من الطاقة والعنفوان والمواجهة. وقد تساءل المستعمرون وهم يعبرون عن صدمتهم من هذا الحراك العارم، كيف أن هذا الجيل الذي لم يعاصر النكبة وعاش في ظروف المواطنة الإسرائيلية، وتحت مخططات الترويض أن ينقلب عل "دولته" في لحظات؟ غير أن الجواب على ذلك كله، كان كامنًا في عاملين أساسيين؛

الأول، سياسات نظام الأبرتهايد الاستعماري القمعية المعنوية والمادية والاقتصادية والثقافية، التي كرست هامشية وحرمان الناس، وخاصة الأجيال الشابة من الحقوق والكرامة؛

والعامل الثاني، تحولات الوعي الوطني التي مهدت لها استعادة الحركة الوطنية في الداخل قوتها بعد منتصف التسعينيات، بعد كسر احتكار الحزب الشيوعي للعمل السياسي، وظهور قوى وطنية جماهيرية ومؤثرة بخطابها وبأدائها، خصوصًا حزب التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية. كان للشيوعيين العرب، لا شك، حتى الثمانينيات الدور المركزي في حياة العرب السياسية، تحديدًا عشية وبعد يوم الأرض، غير أنه لم يدرك مركزية الهوية الوطنية الفلسطينية في الوعي العام.

والعودة إلى معاني هذه الهبة هي حاجة لنا، وحاجة أكثر للأجيال الشابة، وخاصة لطلائعها التي تسعى للتزود بالمعرفة وأدوات التحرر والبناء، وتشييد حاضر أفضل ومستقبل آمن.

أولى هذه المعاني هو اكتشاف الذات، والحاجة الإنسانية لرفض الأمر الواقع، والظلم، والقدرة على القيام بذلك إذا ما تحررت الذات من الخوف والقيود والمفاهيم البالية والقيود. فهذه الهبة الشعبية تعتبر مصدرًا من مصادر الثقافة الوطنية، وثقافة المقاومة الشعبية المتقدمة التي مارسها شعبنا منذ عشرينيات القرن الماضي.

المعنى الثاني، إعادة اكتشاف العلاقة التاريخية والمصيرية مع بقية أبناء شعبنا الذين يقبعون تحت حكم عسكري مباشر، في الأراضي المحتلة عام 1967، وأولئك الذين طُردوا وشُتتوا في المنافي على يد المستعمرين الصهاينة عام 1948. فقد جاءت هبة أكتوبر (هبة القدس والأقصى) كتفاعلٍ مباشر مع انفجار الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وقتل وجرح عشرات المصلين في 28 أيلول/ سبتمبر 2000، أي قبلها بثلاثة أيام. استمرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عموم الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة لعدة سنوات، أظهر فيها الشعب الفلسطيني استعداده منقطع النظير للتضحية والفداء. غير أن سوء إدارتها وغياب مركز قيادة واحدة وموحدة كما كان الحال عليه في الانتفاضة الأولى عام 1987، سهل البطش بها، وأعقبها انهيار للحركة الوطنية كحركة تحرر وطني، لتحل محلها أجهزة أمنية جرى تدريبها على يد المخابرات الأميركية (من خلال الجنرال دايتون).

المعنى الثالث، عززت الهبة الشعبية العارمة الخطاب الوطني الذي كان أعيد تأطيره وتحديثه في حزب سياسي جديد أقمناه بعد اتفاقية أوسلو الذي أقصى فلسطينيي 48 من الحل ومن الصراع العام، وحصر قضيتهم في إطار صراع إسرائيلي داخلي، يتمحور حول حقوق مدنية.

المعنى الرابع، أسقط القمع الإسرائيلي لهبة فلسطينيي 48، وإطلاق النار الحي على المتظاهرين وقتلهم، الأوهام عند الكثيرين بأنهم يمكن أن يكونوا متساوين في التعامل مع اليهودي الإسرائيلي، إذا تخلوا عن هويتهم الوطنية ومطالبهم الجماعية.

المعنى الخامس، كشفت هذه الهبة، وتحديدًا طريقة تعامل النظام مع فلسطينيي 48، والملاحقات والمخططات والقوانين العنصرية والعدوانية التي اعتمدت في السنوات اللاحقة، استحالة قبول هذا النظام مبدأ المساواة، أو المواطنة الديمقراطية. كما أكدت للواهمين استحالة إصلاح النظام من داخله، كون طابعه العنصري والكولونيالي بنيويًا. وليست ملاحقة التجمع ورئيسه السابق، عزمي بشارة، الذي طرح معادلة المواطنة الكاملة كتحدٍ للنظام والصهيونية وكخطاب تعبوي، إلا دليلًا على ذلك. ينضاف إلى ذلك حظر الحركة الإسلامية (الشمالية)، رغم كونها حركة سياسية، وملاحقة وسجن رئيسها الشيخ رائد صلاح. والأهم أن اعتماد هذه القوانين والمخططات الكولونيالية ضد المواطنين العرب ككل، وليس ضد القيادات العربية المصنفة عند المؤسسة الصهيونية متطرفة، أسقطت الأوهام لدى المصنفين كمعتدلين، وأدت إلى تقليص نفوذهم وتراجع التصويت للأحزاب الصهيونية بصورة حادة. كل ذلك أدى في المرحلة الأولى، التي امتدت لسنوات بعد الهبة، إلى تعزز الهوية الوطنية، وظهور عدة مبادرات فكرية ووثائق ترسم كيفية تنظيم فلسطينيي 48 كجماعة قومية، هي جزء من الشعب الفلسطيني وجزء من الصراع .

الهجمة الصهيونية والثورة المضادة

لا يكاد يبقى إلا القليل من تلك المعاني والدروس. فرغم الوحدة الظاهرية التي تبثها فكرة القائمة المشتركة، فإن قيادات أحزابها متورطة في ثورة وعي مضادة، بعضها يفعل ذلك بوعي تام، وبعضها الآخر بلا وعي. وتتجلى هذه الثورة المضادة، أو الردة، بفك الارتباط ليس بالقضية الفلسطينية فحسب، بل في فكّ الارتباط بخطاب تحدّي يهودية الدولة، وخطاب الحقوق الوطنية والجماعية، ومن ثم الانزلاق إلى خطاب الخدمات والتهافت. والأخطر هو التخلي كليًا عن الهدف الوطني المتمثل بإعادة بناء الهيئة التمثيلية العليا، لجنة المتابعة، وتجميدها لتتغول عليها قيادة القائمة المشتركة، بثورتها المضادة.

وهكذا ندخل في المسار الذي أدخلت فيه سلطة أوسلو شعبنا في الضفة الغربية، وهو مسار الانفكاك عن جوهر الصراع وثوابته، وتذرير المجتمع ونزع روحه الكفاحية وتجريده من حصانته الداخلية. كل ذلك يعيدنا إلى السؤال، الذي نحن عاجزون عن الإجابة عليه حتى الآن، عمليًا: ما العمل؟ ومن أين نبدأ؟ ومن هو المؤهل والمستعد للعمل؟ ما هو شبه مؤكد، هو أن من يقف على رأس هذه الأحزاب والحركات والهيئات، لا في داخل الخط الأخضر ولا في بقية فلسطين، ليسوا مؤهلين للاضطلاع بهذه المهمة التاريخية كما ظهر. سيواصل هؤلاء إدارة هذه الهيئات، ربما لفترة طويلة بالطريقة التقليدية المضرة، الى أن تنشأ قيادات جديدة خلاقة، وذات إرادة ومتحررة من قيود المرحلة الحالية. والبذور الواعدة لهذه المرحلة لا تموت بل تختزنها التربة التي نعيش عليها، وتحتاج ممن بقى صامدًا ومتماسكًا سياسيًا، لمزيد من الرعاية، والتحلي بالنفس الطويل وبالقدرة على التماسك الوطني والأخلاقي، والقدرة على قراءة التحولات الاجتماعية والثقافية العميقة التي تحدث في مجتمعنا، وفي بنية نظام الاستعمار وطرائق قمعه، لاستخلاص الإستراتيجيات المناسبة للبناء الداخلي، ولمجابهة نظام الأبرتهايد الكولونيالي.


> عشرينية هبة القدس والأقصى | مقالات

التعليقات