28/09/2020 - 21:42

هل تلوح بالأفق انتفاضة ثالثة بعد عقدين على الثانية؟

بعد مرور عشرين عاما على الانتفاضة، ليس بالإمكان القول إنها أدت إلى إحداث شرخ في المجتمع الإسرائيلي. بل أن المواقف التي يطرحها اليمين بقيادة نتنياهو، حول الاستيطان والقدس ومخطط الضم أيضا، تكاد تكون محل إجماع بين الإسرائيليين

هل تلوح بالأفق انتفاضة ثالثة بعد عقدين على الثانية؟

من مشاهد انتفاضة القدس والأقصى

اندلعت انتفاضة القدس والأقصى، التي تحل الآن الذكرى السنوية العشرين لبدايتها، كرد فعل فلسطيني على ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وفي أعقاب تنكر إسرائيل لتعهداتها، وبالأساس بسبب رفض جميع قادة إسرائيل، وبضمنهم يتسحاق رابين وشمعون بيرس، قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وتمثل هذا الرفض، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بامتناع إسرائيل عن تنفيذ باقي الخطوات التي نصت عليها اتفاقيات أوسلو وصولا إلى قيام الدولة الفلسطينية.

وكانت هذه الانتفاضة حدثا لم تشهد إسرائيل، ولا الصراع على فلسطين بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الصهيونية الاستعمارية، مثيلا لها في التاريخ. ورغم أنه يصعب الإشارة إلى تاريخ محدد لأفولها، إلا أنها دامت خمس سنوات تقريبا، نفذ الفلسطينيون خلالها عمليات مسلحة، شملت إطلاق نار وتفجير حافلات بواسطة زرع ألغام أو انتحاريين، في قلب المدن الإسرائيلية والمستوطنات في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. وفي المقابل، شن الجيش الإسرائيلي حربا شعواء ضد الفلسطينيين واجتاح الضفة الغربية، حيث ارتكب مجازر وجرائم حرب. وبلغ عدد الشهداء الفلسطينيين قرابة 4500، فيما قُتل ألف من الإسرائيليين. كذلك ارتكبت الشرطة الإسرائيلية مجزرة ضد المواطنين العرب في إسرائيل، عندما قتلت 13 مواطنا في بداية الانتفاضة، وواصلت قتل مواطنين خلال السنوات الماضية باتباعها سياسة "اليد الخفيفة على الزناد".

الانتفاضة لم تندلع من فراغ، وفي الوقت نفسه لم يتخذ الفلسطينيون قرارا بإشعالها، على الأقل بالشكل الذي تطورت فيه وبهذا الحجم. فقد سبقها قمة بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ورئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود باراك، عُقدت في منتجع كامب ديفيد، برعاية أميركية، في تموز/يوليو العام 2000. وطالب اليمين و"اليسار" في إسرائيل باراك بعدم عقد هذه القمة لأن إسرائيل ليست جاهزة لها، وحذر الكثيرون باراك من أن ما سيطرحه خلال القمة لن يوافق عرفات عليه. خاصة ما يتعلق بقضية القدس، التي يطالب الإسرائيليون بأن تبقى "موحدة" وعاصمة لإسرائيل فقط. وقد انتهت القمة بفشل ذريع، وعاد باراك منها ليعلن أنه "لا يوجد شريك فلسطيني للسلام".

اقتحام شارون للأقصى (أ.ب.)

وفي 28 أيلول/سبتمبر من العام نفسه، اقتحم رئيس المعارضة في حينه، أريئيل شارون، الحرم القدسي وتجول في ساحات المسجد الأقصى، بعد أن منحه باراك موافقة على ذلك. وكان هذا الاقتحام استفزازا من الدرجة الأولى. فشارون بنظر الفلسطينيين هو سفاح مجزرة صبرا وشاتيلا، وقائد العمليات الانتقامية التي نفذها الجيش الإسرائيلي، في الخمسينيات والستينيات، ضد الفدائيين الفلسطينيين الذين حاولوا التسلل إلى إسرائيل. كذلك كان رئيس حزب الليكود ومرشحه لرئاسة الحكومة، التي فاز بها في العام التالي.

اقتحام شارون للحرم القدسي كان الشرارة التي أشعلت الانتفاضة، في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الداخل أيضا. وبدأت الانتفاضة بمظاهرات ومواجهات مع القوات الإسرائيلية، تخللها إلقاء حجارة. وقابلتها القوات الإسرائيلية بإطلاق الرصاص الحي وقنابل الغاز والاغتيالات، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء الفلسطينيين في الأيام الأولى، وتطورت لاحقا إلى انتفاضة مسلحة.

وسعت إسرائيل طوال الوقت إلى تغذية الانتفاضة. فبعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق نار بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، في نهاية العام 2001، اغتال الجيش الإسرائيلي قائد كتائب شهداء الأقصى في طولكرم، رائد الكرمي، في مطلع العام 2002، ما أدى إلى انهيار وقف إطلاق النار. وكشف كتاب "سهم مرتد"، للصحافيين الإسرائيليين عوفر شيلح ورفيف دروكر، عن أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حينه، شاؤول موفاز، اجتمع مع ضباط إسرائيليين في الضفة الغربية، بعد تقسيمها إلى سبع مناطق، وطالب بإيقاف تسجيل أقواله، ثم أمر كل واحد منهم بقتل عشرة فلسطينيين يوميا في منطقته. وفي غضون ذلك، أخذت إسرائيل تعزز مزاعمها حول عدم وجود شريك فلسطيني. وهذه المزاعم لا تزال تتردد حتى اليوم.

ووفقا للمسؤول السابق في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، الدكتور يوسي بن آري ("هآرتس" – 26.9.2020)، فإنه كان مسؤولا عن الموضوع الفلسطيني في أحد أجهزة الاستخبارات المركزية، وأنهى عمله قبل سنتين من اندلاع الانتفاضة. وطولب من المسؤول الذي خلفه في العمل، أن يتقصى الحقائق حول الجهة التي بادرت إلى الانتفاضة في الجانب الفلسطيني، "وتحديدا إذا كان ياسر عرفات ضالعا في ذلك".

وأكد بن آري أن "استنتاجي كان واضحا: لم أعثر في جميع المواد الاستخبارية على أي إشارة لوجود تخطيط مسبق للعنف بمبادرة عرفات، أو بمبادرة آخرين في المعسكر الفلسطيني. بل على العكس، خلال اليومين الأولين للانتفاضة حاول عرفات تهدئة الخواطر، وتخوف من فقدان السيطرة. وفقط بعدما أدرك أن فرض تهدئة قد يؤدي إلى حرب أهلية، وانهيار مؤسسات السلطة، ودمار قوات الأمن وخسارته الشخصية، اختار أن ’يركب على ظهر النمر’، والانضمام إلى الفوضى العارمة".

وأضاف أن هذا التقرير صدم المسؤولين في أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وأنه تم توزيعه بشكل جزئي ولم يصل إلى القيادة السياسية، خاصة وأن "عرفات كان مهتما بالعودة إلى المسار السياسي". وأكد بن آري على أن رئيس دائرة الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية في حينه، عاموس غلعاد، "تبنى الرواية المعاكسة، خلال ولاية باراك، بأنه ’لا يوجد شريك’، كما تبنى رواية شارون بأن ’عرفات قاتل’، وكرر ذلك بشكل مدوٍ، وبذلك ’محى’ الأصوات الأخرى في أجهزة الاستخبارات". كذلك انتقد بن آري عدم استقامة رئيس الشاباك حينها، آفي ديختر، الذي "كان تقديره مشابها لتقديراتي" ولم يجرؤ على قول رأيه أمام القيادة السياسية.

"لا حل عسكريا للصراع"

لكن نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي في حينه، موشيه يعالون، والذي خلف موفاز في رئاسة الأركان، قال لصحيفة "معاريف" (الأحد - 27.9.2020)، إنه "كقائد للمنطقة الوسطى، بدأت منذ تموز/يوليو عام 1999 باستعدادات لحرب في أيلول/سبتمبر عام 2000. وقد أدركت أنه بالنسبة لعرفات، سيزجونه في الزاوية التي يتعين عليه فيها أن يقرر إذا كان سيقبل باتفاق تسوية. وقدرت أن طريقته للتهرب ستكون ببدء أعمال عنف. وفي حينه، قلت خلال اجتماع مع قادة كتائب إنه ’بنيت لكم منشأة تدريب شبيهة ببلدة فلسطينية كي تصلوا إلى الحرب وأنتم جاهزون".

جيش الاحتلال يحاصر عرفات بالمقاطعة (أرشيف)

وقال موفاز للصحيفة نفسها أيضا، إنه "أجرينا تقييما استخباريا، وقررنا شكل استعداد الجيش الإسرائيلي للعام 2000. وتبين من المعطيات أن احتمالات انتفاضة ثانية تزايدت، وأنها لن تكون شبيهة بالانتفاضة الأولى. وهذه ستكون انتفاضة نيران ورصاص وألغام. ولم يجر الحديث حينها عن انتحاريين. وقررنا أن يرفع الجيش الإسرائيلي جهوزيته للتصعيد. وكان واضحا أن الانتفاضة ستندلع من أجل جباية ثمن باهظ، وستحاول تصديع وتقويض قدرة صمودنا وتكتل المجتمع الإسرائيلي".

وكانت هناك أصوات أخرى في إسرائيل، دعت إلى حل سياسي للصراع. أحد هؤلاء هو الجنرال عمرام متسناع، الذي كان قائد المنطقة الوسطى للجيش الإسرائيلي أثناء الانتفاضة الأولى، وطبق سياسة "تكسير الأيدي" ضد الفلسطينيين التي أوعز بها رابين. وقال متسناع خلال مؤتمر هرتسيليا، في نهاية العام 2002، أي بعد اجتياح الضفة، إن "الصراع يبتز منا طوال السنوات الأخيرة كل الطاقة، ليس الموارد المالية فقط، وإنما كل الطاقة فعلا. ويبدو لي أن سكان دولة إسرائيل يدركون اليوم، أفضل مما كانوا يدركون قبل سنتين، أن لا حل عسكريا لصراعنا مع الفلسطينيين. لا يوجد حل عسكري، مثلما لن ينجح الإرهاب أيضا في ليّ ذراع دولة إسرائيل ولن ينجح بأن يفرض على إسرائيل وسكانها تسويات، اتفاقيات أو حلولا تمس بأمن ومصالح إسرائيل الحيوية".

يُحسب متسناع على اليسار الصهيوني، لكن هذا اليسار الصهيوني يريد اتفاقا مع الفلسطينيين وفقا لمعايير إسرائيلية. وعندما يتحدث عن الأمن ومصالح إسرائيل الحيوية، فإنه لا يبتعد كثيرا عن مواقف اليمين. ويوصف اليهودي في إسرائيل بأنه "يساري" لمجرد أنه ليس يمينيا ولا ينتخب أحزاب اليمين ولا يريد أن يكون بنيامين نتنياهو رئيسا للحكومة.

عندما جرت انتخابات الكنيست في العام 1999، وفاز فيها باراك على نتنياهو، كانت هناك أجواء مؤيدة لتسوية مع الفلسطينيين، رغم معارضة اليمين. وكان حزب ميرتس المعروف بموقفه المؤيد لحل الدولتين، بالاستناد إلى حدود العام 1967، جزءا من حكومة باراك. وبعد اندلاع الانتفاضة، تغيرت الأجواء السياسية في إسرائيل نحو اليمين، ووصل شارون إلى رئاسة الحكومة، في انتخابات العام 2001. وفي تحفظاته على "خريطة الطريق"، التي طرحتها الرباعية الدولية، عام 2003، وضع شارون 14 تحفظا عليها، وتحدث في أحدها عن "الدولة الفلسطينية المؤقتة"، وفي تحفظ آخر عن وجوب تغيير القيادة الفلسطينية. أي تغيير عرفات. ووافق الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، على تحفظات شارون.

وأوضح شارون دوافعه لتنفيذ خطة الانفصال عن غزة، في خطابه في الكنيست لدى التصويت على خطة. "إنني مقتنع من أعماقي وبكامل وعيي أن هذا الانفصال سيعزز وجود إسرائيل في المنطقة الضرورية لوجودنا... وبرأيي أنه إذا كنا لا نريد أن يتم إبعادنا إلى حدود 1967، فإنه ينبغي أن نتقاسم المنطقة" أي الضفة الغربية، وهو ما يجمع الفلسطينيون على رفضه.

ولم يكن بالإمكان تنفيذ خطة رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، التي قضت بانسحاب إسرائيل من أكثر من 90% من الضفة الغربية وتبادل أراضي مقابل مناطق المستوطنات، والانسحاب من أطراف القدس الشرقية وحل رمزي لقضية اللاجئين، وذلك بسبب ضعف أولمرت، الذي اتهم بمخالفات فساد واضطر إلى الاستقالة، وسُجن بسببها لاحقا، وأيضا بسبب تحفظ الفلسطينيين على خطته.

بعد تنفيذ خطة الانفصال والخطة التي طرحها أولمرت، بدأ تيار الصهيونية الدينية يتبلور ويتنظم مجددا، تحسبا من انسحاب إسرائيلي من الضفة. وانضم إليه تيار الحريديين القوميين. وهما تياران استيطانيان متطرفان. ولم تتنظم الصهيونية الدينية سياسيا وحسب، وإنما تم تشجيع شبانها إلى الانخراط في الخدمة العسكرية والتقدم في الرتب العسكرية أيضا، بعدما عبروا عن ندمهم من عدم قدرتهم على منع تنفيذ خطة الانفصال. كذلك بات هذا الجمهور يصوّر ويوصف في الخطاب والإعلام الإسرائيلي، خاصة بعد عودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، بأنه يتحلى بقيم مثالية بالمواصفات الصهيونية، وطلائعي في مجالي الاستيطان والخدمة العسكرية خصوصا. وانخرط أتباع الصهيونية الدينية في حزب الليكود الحاكم، إضافة إلى أحزاب هذا التيار، مثل "البيت اليهودي"، الذي نفذ انقلابا في جهاز القضاء، بقيادة وزيرة القضاء، أييليت شاكيد.

وإثر تراجع شعبية نتنياهو حاليا، بسبب أدائه في مواجهة انتشار فيروس كورونا واتهامه بارتكاب مخالفات فساد، تزايدت شعبية تيار الصهيونية الدينية، ممثلا بتحالف أحزاب اليمين المتطرف "يمينا". وتظهر الاستطلاعات في الأشهر الأخيرة أن المقاعد في الكنيست التي يخسرها الليكود، يحصل عليها "يمينا"، لدرجة أن آخر الاستطلاعات توقعت حصول "يمينا" على 21 مقعدا، ليصبح ثاني أكبر حزب بعد الليكود، وبفارق 8 مقاعد عنه فقط.

وبعد مرور عشرين عاما على الانتفاضة، ليس بالإمكان القول إنها أدت إلى إحداث شرخ في المجتمع الإسرائيلي. بل أن المواقف التي يطرحها اليمين بقيادة نتنياهو، حول الاستيطان والقدس ومخطط الضم أيضا، تكاد تكون محل إجماع بين الإسرائيليين. وفي هكذا وضع، سيبقى أفق التسوية وقيام دولة فلسطينية مسدودا، فيما تشير تقديرات جهاز الأمن الإسرائيلي إلى احتمال حدوث تصعيد أمني في الضفة والقطاع، في ظل الأزمة الاقتصادية التي ترافق أزمة كورونا، والتحذير من أن القيادة السياسية ليست ملتفتة إلى هذه الناحية.

التعليقات