الانتفاضة الثانية... الانسداد ذاته

نجحت الانتفاضة الثانية عندما حددت هدفًا واضحًا، وأخفقت حينما افتقدت المشروع السياسي أو الرؤية الإستراتيجية وانتهت إلى مواجهة مسلحة غير متكافئة وإلى مفاوضات عبثية مجددًا. هذه العبرة الأهم لنا هذه الأيام. وضوح الهدف

الانتفاضة الثانية... الانسداد ذاته

يكاد يكون الفارق الوحيد هو العام رغم تشابه الأرقام، 2000 – 2020. قبل عقدين وصلت القيادة الفلسطينية إلى طريق مسدود بفعل محاولة إسرائيل وأميركا، وبصمت وتواطؤ عربي، فرض الإملاءات على الشعب الفلسطيني وقيادته بقبول شروط ما يسمى "الحل الدائم" في مفاوضات كامب ديفيد الثانية؛ واليوم تصل القيادة الفلسطينية إلى طريق مسدود بفعل محاولة إسرائيل وأميركا، وهذه المرة بمشاركة فعلية عربية، فرض الإملاءات على الشعب الفلسطيني وقبول "صفقة القرن" والتنازل عن حقوقه الوطنية والقومية. في الحالتين الهدف واحد بنظر إسرائيل وأميركا: إنهاء الصراع وبتسميته الدبلوماسية الملطفة "الحل الدائم"، وكسر الإرادة الفلسطينية.

لكن لا تجري المياه ذاتها في النهر ذاته أكثر من مرة كما يُقال، إذ انطلقت الانتفاضة الثانية في وجه المحاولات الإسرائيلية – الأميركية فرض الإملاءات على ياسر عرفات في كامب ديفيد، ومحاولة كسر إرادة الشعب الفلسطيني، سياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا، وفي موازاة ذلك، توفرت نقاط تحفيز قوية للفلسطينيين: الأولى، الأثر المعنوي الكبير للانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان دون اتفاق مع سورية أو لبنان وأثره الشعبي الكبير في العالم العربي وعلى الشعوب العربية؛ والثانية وهي مكملة للأولى، العمق الشعبي القومي العربي الذي احتضن الانتفاضة الفلسطينية وقدم لها التأييد والتضامن من خلال المظاهرات في الشوارع أو حملات التضامن، في ذروة انتشار وتأثير الفضائيات العربية.

لكن لسوء الحظ، اندلعت بعد عام تقريبًا الحرب الأميركية على الإرهاب في أعقاب تفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وبات الصراع في فلسطين أولوية ثانوية، وباتت يد أريئيل شارون حرة طليقة في استخدام القوة المفرطة في مواجهة الانتفاضة الثانية. تمامًا مثلما جاءت الحرب العالمية الثانية في توقيت سيء ومصيري للفلسطينيين، ودفعوا ثمن ذلك بخسارة وطنهم.

أما الانسداد الحالي، فلا يوازيه إنجاز معنوي كبير بحجم ما حصل في لبنان حينها ويشجع على الانتفاض، وليس هناك تحرك فلسطيني شعبي يمكن ترجمته إلى تحرك شعبي عربي، على الرغم ما أصاب الدول العربية من وهن وتفكك ودمار وقتل، فحتى النظام "المُمانع" في دمشق لم يجرؤ على إصدار بيان إدانة لاتفاقيات التحالف الإماراتية البحرينية – الإسرائيلية، وسيبرر له البعض ذلك بأنه "يتعرض لحرب إمبريالية كونية"، وهذا كلام شعاراتي فارغ، فهو لم يصدر بيان إدانة لأنه لا يريد التشويش على القنوات السرية وغير السرية مع عراب الثورة المضادة، محمد بن زايد.

وليس الانسداد الحالي، والسابق أيضًا، ناتجًا عن قصور ذاتي فلسطيني في الرؤية فحسب، بل أن قدر الفلسطينيين أن قضيتهم مهمة لدرجة أنها موغلة في التاريخ الذي لن يستطيعوا الانفكاك عنه لوحدهم، فهي مرتبطة بقضية يهودية – أوروبية من جهة، وبقضية استعمارية في المنطقة العربية من جهة أخرى، أو كما يطلق عليهما عزمي بشارة: "المسألة اليهودية" و"المسألة القومية العربية"، والأخيرة يمكن إيجازها بأن العرب لم يحققوا حتى اليوم بشكل حقيقي وفعلي حق تقرير المصير ولم ينفكوا عن الاستعمار، حتى بعد أن تحولوا إلى دول وكيانات سياسية، لكنها في الحقيقة لم تعبر عن حق تقرير مصير الشعوب، بل جرى السطو عليها من طغم حاكمة غير ديمقراطية ومستبدة، وبطبيعة الحال بعضها يرتبط بالاستعمار تاريخيًا.

وإزاء ذلك، ولأن القضية الفلسطينية ليست خلافًا حدوديًا أو قضية انفصالية، بل لها ذاك البُعد التاريخي – الدولي، فإن الانسداد لا يعني نهاية الطريق أو الاستسلام، ولكنه يعني أيضًا عدم التحايل على الذات والبحث عن حلول وأجوبة سهلة وسريعة. تكاد تكون القضية الفلسطينية أعقد من "المسألة اليهودية"، لأنها لا تنتهي بحق الشعب بإقامة دولته الأم في وطنه القومي ونقطة، إذ إن الوطن القومي الفلسطيني سُرق في وضح النهار، وطالما أن في القرن العشرين كانت القضايا والمسائل القومية تنتهي بحق تقرير المصير من خلال إقامة الدولة الوطنية، فإن ذلك لم يعد ممكنًا للفلسطينيين، ولم يكن ممكنًا كما تبيّن، اختزال حقهم بتقرير المصير بالدولة الوطنية طالما أن وطنهم قد سُرق، وحتى إقامة كيان سياسي لهم بات لا يعبر عن طموحاتهم الوطنية والقومية وعن حقهم في تقرير المصير في وطنهم.

فـ"المسألة الفلسطينية" هي مسألة تطهير عرقي أولًا، أي اللاجئين، ومن ثم استيطان استعماري أقام نظام فصل عنصري، وكل محاولة لحل هذه المسألة ستصل حتمًا إلى حالة انسداد، ليس فقط بسبب الخلل في موازين القوى الدولية، بل لأن المجرم ومن خلفه يصرون على تجاهل هذه الحقائق، بأن مسألة فلسطين هي مسألة تطهير عرقي لا يزال جاريًا. لا يمكن التوصل إلى حل له بالالتفاف على التاريخ.

مارست القيادة الفلسطينية وفي ظل الخلل في موازين القوى، الخداعَ الذاتي، وعن قناعة، حتى تستطيع أن تستمر في الحفاظ على الكيانية الفلسطينية التي تمثّل نقيض التطهير العرقي واللجوء. من دون الكيانية الفلسطينية، وهذا إنجاز تاريخي للشعب الفلسطيني، لبقي التطهير العرقي في فلسطين حركة تحرر قومي يهودي، لكن وجود الكيانية الفلسطينية، غير السالبة بل المقاتلة، هو الذي لم يُمكّن إسرائيل والغرب من طيّ صفحة الصراع والتوصل لـ"الحل الدائم". و"الحل الدائم" يحيل لا شعوريًا إلى مصطلح "الحل النهائي" من ألمانيا النازية. لكن خداع الذات لا يزال مستمرًا، فبنظر قيادات في السلطة الفلسطينية، كان الهدف من الانتفاضة الثانية "تحسين شروط المفاوضات"، أي تحسين الشروط المطروحة تحديدًا في ما يتعلق بالقدس المحتلة والحدود والمستوطنات واللاجئين، وليس تغييرًا لقواعد اللعبة ولشكل الصراع.

***

حققت الانتفاضة الثانية رغم حجم التضحيات الكبير إنجازات مهمة أولها إسقاط المشروع الإسرائيلي – الأميركي بفرض الإملاءات على الفلسطينيين، وثانيًا رفض العودة لفكرة المراحل الانتقالية في اتفاقيات أوسلو التي تنكّرت لها إسرائيل ولم تطبقها بالكامل. لقد كانت مهمة الانتفاضة الأساسية في المرحلة الأولى واضحة، وهي الانتفاض على الظلم ومحاولة إخضاع الإرادة الفلسطينية، لكن لم تستطع لاحقًا تطوير برنامج سياسي أو رؤية إستراتيجية للانتفاضة، ولم يمنحها شارون الفرصة لالتقاط أنفاسها والتخطيط ووضع الرؤية، بعدما دفع بقواته إلى داخل المدن الفلسطينية واستخدم القوة المفرطة والاغتيالات. ومن عيوب النضال الفلسطيني المسلح وغير المسلح تاريخيًا، هو انعدام الرؤية طويلة الأمد، فالانتفاضة الأولى انتهت بالاعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير، لكن ليس بحق الشعب الفلسطيني بدولة وطنية مستقلة، لكن إنجازاتها على مستوى الوعي والهوية الوطنية كانت كبيرة جدًا.

وفي ظل الانسداد الحالي، يبدو أن قيادة السلطة الفلسطينية لا زالت تسعى للخروج من هذا الانسداد إلى المفاوضات، ولكن بشروط أفضل وبمرجعية أوسع ليست حصرية على أميركا، إذ تحدث الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أمس الأحد، أمام الأمم المتحدة عن عقد مؤتمر دولي، وهو استمرار لذاك التعويل على المفاوضات التي لم تحقق للشعب الفلسطيني أي إنجاز حقيقي طويل الأمد.

ويمكن القول بإيجاز شديد، إن الفلسطينيين حاولوا التحايل على الواقع ليستمروا في البقاء، حتى قبل قيام إسرائيل، لذا يجب أن نعود إلى الواقع لنراه كما هو، دون أن نُفرط بالواقعية والتسليم لموازين القوى الحالية، ودون أن نوغل في استحضار التاريخ وكأن ما يحصل هو استمرار لما حصل في صدر الإسلام بما يخص اليهود. مأساة الفلسطينيين أن قيادتهم انقسمت بين من يوغل بالواقعية والبراغماتية (منذ البرنامج المرحلي بالسبعينيات) والذي يرى الصراع على أنه صراع حدود والحل في أميركا فخاب أمله، وبين من يغوص بالتاريخ ويستحضر قصص خيبر وغيرها. الأمران كارثة كما تبيّن.

الخروج من هذا الانسداد لا يكون بالعودة إلى مفاوضات عقيمة غير واقعية أصلًا، أو مفاوضات بمرجعية الرباعية، بل بالعودة إلى الذات والواقع، واعتبار "المسألة الفلسطينية" قضية تطهير عرقي لشعب أعزل تتحمل مسؤوليتها الصهيونية ومن دعمها في الغرب. وهذا يعني أن طموح الشعب الفلسطيني يجب ألا يُختزل بإقامة دولة كإنجاز للحق بتقرير المصير، وإنما الطموح هو الوصول إلى وطن واسترداده، وأن تكون فلسطين التاريخية متاحة أمام كل الفلسطينيين، ليس بهدف إعادة عقارب التاريخ إلى الوراء، فهذا غير ممكن، بل من أجل العدالة ومن أجل مستقبل يعيش فيه الفلسطيني بحرية ومساواة في وطنه، فحق تقرير المصير لا يستقيم دون العدالة والحرية والمساواة، لأن الدولة في محصلة الأمر هي إطار وطني وقومي يفترض أن يوفر العدالة والحرية والمساواة لأهله، وإذا استحال ذلك، لا يكون التفريط بالقيم لصالح الدولة، بل البحث عن الإطار الأوسع لتحقيق هذه القيم. من دون حق العودة، لن تتحقق العدالة ولا الحرية ولا المساواة ولا تقرير المصير حتى، وسيبقى الصراع مشرعًا مهما بلغ الظلم مداه.

وأخيرًا، الانسدادان نتجا عن محاولتين، إسرائيلية – أميركية (وعربية اليوم)، لفرض الإملاءات على الشعب الفلسطيني وكسر إرادته، وفرض إنهاء الصراع من خلال ما يسمى "الحل الدائم"؛ في المرة الأولى من خلال المفاوضات، وفي المرة الثانية بمحاصرة الفلسطينيين وعزلهم عن عمقهم العربي من خلال "صفقة القرن" والتفاوض تحت سقفها. في المرة الأولى لم ينجحوا بفرض الإملاءات ولا بإنهاء الصراع واندلعت الانتفاضة الثانية وظل الصراع مفتوحًا؛ وفي المرة الثانية لن ينجحوا إذا ما قررت القيادة الفلسطينية، في الخارج والداخل، عدم الهروب من الانسداد إلى تحسين شروط المفاوضات أو ظروف الانقسام، بل إلى تغيير قواعد الصراع، والعودة إلى حقيقة أن "المسألة الفلسطينية" هي قضية تطهير عرقي/ لاجئين، وليست خلافات حدودية أو مفاوضات على دولة أو عاصمة. سينتهي التطهير العرقي باسترداد الوطن والاعتراف بالجريمة، فالذي يحتاجه الفلسطيني ليس دولة غير قادرة أصلًا على استيعاب ربع اللاجئين، بل هو بحاجة إلى وطن حتى لو قرر، بإرادته الحرة، العيش في أقصى بقاع الأرض.

نجحت الانتفاضة الثانية عندما حددت هدفًا واضحًا وهو الانتفاض وإسقاط الإملاءات الإسرائيلية – الأميركية، وأخفقت حينما افتقدت المشروع السياسي أو الرؤية الإستراتيجية وانتهت إلى مواجهة مسلحة غير متكافئة وإلى مفاوضات عبثية مجددًا. هذه العبرة الأهم لنا هذه الأيام. وضوح الهدف المرحلي وطويل الأمد.

التعليقات