06/04/2019 - 15:05

أنوميا فلسطينية: المشروع قبل الأدوات

نقاش المشاركة أو مقاطعة انتخابات الكنيست يعكس جيدا حجم الأزمة، أزمة انعدام المشروع، بأنه نقاش يريد أن يحدد الأدوات قبل المشروع، ويريد أن يتنازل عن الأدوات القائمة قبل أن يحدد الأدوات التي يحتاجها المشروع الجديد، وهو نقاش افتراق بدل التقاء

أنوميا فلسطينية: المشروع قبل الأدوات

لوحة "الصرخة" للرسام النرويجي إدفارت مونك

لن يغضب دوركهايم إذا ما استعرنا منه مصطلح "أنوميا" لوصف الحالة الفلسطينية الراهنة، سياسيا واجتماعيا. والأنوميا هي حالة اللامعيارية الأخلاقية والاجتماعية التي تصيب الفرد بعد انهيار القيم والبنى الاجتماعية في محيطه، لتصبح عاجزة عن تحقيق سعادته وطموحاته الفردية، لعوامل عديدة أبرزها النظام الرأسمالي الذي يسلّع كل شيء، بمعنى أنه تعتري الفرد حالة فوضى وجدانية قيمية نتيجة انهيار الوجود حوله، حتى تصبح البنى الاجتماعية المنهارة عاجزة عن تقديم أدوات يحقق الفرد ذاته وسعادته من خلالها، وتنهار المعايير الأخلاقية. وهذه الحالة اللامعيارية تكون مرحلية ما بين البنى المنهارة والبنى الاجتماعية الناشئة، وبها يعلل دوركهايم أسباب الانتحار في الغرب. تعني أن يعجز المجتمع أو الجماعة ليس فقط عن تقديم أدوات لتحقيق الفرد لسعادته، بل معنى السعادة وقيمها.

وأفتح هنا قوسين، لأقول إن المثير للتساؤل لماذا يلجأ باحثون ومحللون للمجتمع العربي في الداخل مثلا، لنظريات ما بعد حداثية وما بعد كولونيالية لفهم الواقع الاجتماعي والسياسي، لتنتهي بكتابات وتطبيقات نظرية مبهمة، رغم أن نقاد الحداثة والعقلانية، قدموا أفضل الأدوات التحليلية النقدية والعميقة والحداثية لفهم تعقيدات الواقع الحديث، خصوصا وأن العرب ما زالوا في "طور الحداثة" وتحت استعمار سياسي واقتصادي، ولم يتجاوزوهما. لذا لا بأس من العودة إلى تلك الأدوات الحداثية العقلانية والشاملة.

واقتصرت الأنوميا على الحالة الفلسطينية ولم أعممها عربيا، لأن في العالم العربي يوجد تيار يحمل مشروعا تحرريا ديمقراطيا، لكن مشكلته بتعثر أدواته لأسباب مختلفة.

والأنوميا هذه قد تفسر انتشار الجريمة والعنف في المجتمع العربي في الداخل، بسبب انهيار أو تشوه البنى الاجتماعية القائمة وما تحمله من قيم وتكافل اجتماعي، بالإضافة إلى الضغوطات المعيشية والاقتصادية التي أفرغت الفرد وحولته إلى سلعة في سوق العمل.

وبمقدورها أن تفسر حالة العزوف عن السياسة والعمل السياسي، والبحث عن حلول سريعة وفردية، بعدما تبيّن للفرد بأن جماعته أعجز من أن تحقق طموحاته.

وعجز الجماعة ليس قدرًا، بل هو نتاج انعدام أفق أو مشروع جماعي يلتف حوله ويصبو إليه، وتحديدا المشروع الوطني، وبانعدام المشروع يصبح البحث عن الأدوات هو الأولوية للفرد، لكن في ظل لامعيارية وطنية وأخلاقية، وهو ما يذكّر بما اعتاد البعض على ترديده وهو مقولة "ستصبح الخيانة وجهة نظر"، أي بمعنى لن تكون هناك معايير تحدد الصواب من الخطأ أو الخير من الشر، وتصبح المعايير نسبية حسب مصلحة الفرد.

لذلك، يصبح همّ الفرد تحقيق سعادته أو سعادة أسرته المتخيلة بأي وسيلة، حتى لو كان باللجوء للاستدانة والاقتراض من منظمات الجريمة، أو رهن المقابل الذي يحصل عليه نتيجة عمله لتغطية الديون للبنوك، وبالنتيجة يصبح تحقيق السعادة عبئا، ويصبح الفرد مستعبدا لأدوات تحقيق سعادته، معنويا وماديا.

المشروع قبل الأدوات

وحتى أضع هذا التحليل في سياق وطني فلسطيني أشمل، فإن الشعب الفلسطيني يمر بمرحلة انتقالية بعدما انهار مشروعه الوطني التحريري، ولم يظهر بعد المشروع البديل، وتتسم هذه المرحلة بفوضى المرجعيات أو انعدامها، والانقسام السياسي بين الضفة الغربية وغزة، بين سلطة فتح وسلطة حماس، هو أكبر تجسيد لذلك، بالإضافة إلى العمليات الفدائية الفردية التي ينفذها فتية وشبان بالضفة والقدس أو تدفع المئات من الفتية الفلسطينيين إلى سياج الموت في غزة. هذه كلها، بغض النظر عن نقاش جدواها، تعكس حالة خطيرة ناتجة عن انهيار المشروع الوطني، وما تلاه من انقسام وفصل بين الضفة وغزة، وعجز السياسة والمجتمع عن توفير أدوات يعبر فيها الفلسطيني الفرد عن طموحاته بالتحرر والعيش الكريم.

وفي مقابل هذه الأنوميا، لا نجد محاولات لبناء مشروع وطني بديل، بل محاولات لرسم الغاية النهائية، حل الدولة أو الدولتين مثلا، دون تحديد الأدوات لتحقيق ذلك، ومن الصعب حقيقةً خلق مشروع بديل وتحديد الأدوات المناسبة طالما أن أكبر فريقين سياسيين في فلسطين، فتح وحماس، لا يتجاوز صراعهما حفاظ كل منهما على سلطته. والمشروع البديل لا تحدده نخب تلتقي مرة بالشهر، ولا حركات صغيرة معزولة عن واقع الناس وهمومهم اليومية المعيشية.

"نقاش المشاركة أو مقاطعة انتخابات الكنيست يعكس جيدا حجم الأزمة، أزمة انعدام المشروع والفوضى، بأنه نقاش يريد أن يحدد الأدوات قبل المشروع، ويريد أن يتنازل عن الأدوات القائمة قبل أن يحدد الأدوات التي يحتاجها المشروع الجديد، وهو نقاش افتراق بدل التقاء"

لذلك، يمكن تفسير الشعبية الواسعة لحركة المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل دوليا، ونجاحها إلى حد كبير، بأنها الوحيدة التي حددت لنفسها مشروعا لإسقاط نظام الأبرتهايد الكولونيالي في فلسطين، ليس ذلك فقط، بل وتحديد أدوات عينية لذلك، وهي محاصرته وعزله دوليا، اقتصاديا وسياسيا وأكاديميا. لكن المقاطعة لا تكفي لتكون المشروع الوطني البديل، بل يجب أن تكون رافدا من روافد متعددة لهذا المشروع.

وللهروب من هذا المأزق الوطني العام، يكثر الحديث عن توحيد نضال الفلسطينيين، وهذا جيد لكن توحيد حول ماذا؟ هل مثلا تبني الفلسطينيين في الداخل النضال المسلح الذي ترفعه حماس والجهاد الإسلامي؟ أو العكس، انخراط حماس والجهاد في مطالب الفلسطينيين في الداخل بدولة كل مواطنيها والنضال السلمي؟ كيف تكون بالضبط وحدة النضال الفلسطيني؟ الإجابة بأن الوحدة على ضرورة تحرير فلسطين وعودة اللاجئين لا تعني شيئا، بل هروبا للإمام، لأنها تحدد الغايات النهائية دون أن تطرح المشروع لتحقيق ذلك وأدواته. لذلك يأخذ هذا النوع من الطرح شكلا رومانسيا ونوستالجيا لأنه محاولة للهروب من الأزمة القائمة بتجاوزها إلى لا شيء بدل مواجهتها، ويأخذ ذلك شكلا إما بالشد باتجاه قبول الواقع والتطبيع معه في الضفة أو الاندماج لفلسطينيي الداخل في الدولة والمجتمع، ومن الطرف الثاني الشد باتجاه التنازل عن الأدوات القائمة دون تقديم مشروع بديل يحمل أدواته معه.

وانعكس ذلك بشكل واضح بـ"حوار الطرشان" بشأن المشاركة أو المقاطعة لانتخابات الكنيست القريبة، فهو نقاش على الأدوات، وليس على المشروع. هو نقاش بين من يريد التنازل عن أدوات قائمة مثل التصويت للكنيست دون أن يطرح مشروعا وأدوات بديلة، وهو لن يستطيع فعل ذلك وحده بكل تأكيد؛ وبين من يتمسك بهذه الأداة ليس لجوهرها أو بسبب تقديسها، بل لأنه لا يرى بديلا آخر في هذه المرحلة.

وطرح انتخابات لجنة المتابعة كمشروع بديل على ركام الأحزاب، سيحول المتابعة إلى مجلس حمائلي وعشائري وليس مجلسا تمثيليا عصريا، لأن المتابعة بلا أحزاب تعني أن الحمائلية ستحل محلها، بالإضافة إلى قوى مرتبطة بالإجرام والجريمة.

لذا، هذا النقاش يعكس جيدا حجم الأزمة والفوضى والأنوميا، أزمة انعدام المشروع والفوضى، بأنه نقاش يريد أن يحدد الأدوات قبل تحديد المشروع، ويريد أن يتنازل عن الأدوات القائمة قبل أن يحدد الأدوات المناسبة التي يحتاجها المشروع الجديد، وهو نقاش افتراق بدل التقاء، لأن تحديد الأدوات بحاجة أن يسبقه تحديد المشروع، والمشروع لا يتحدد بنقاشات فكرية أو مزايدات وطنية، بل بالتقاء جهود ومحاولات عدة جهات، الأهم أنها تعيش واقعها وتدرك أزماته، وتختار على أساسها الأدوات المناسبة.

والأدوات المناسبة لا تكون حصرية لجهة، بل إن طرفا قد يرى أن هذه الأداة أنسب له، وطرفا آخر يختار أدوات مغايرة، لكن المهم أن تصب كلها في مصلحة المشروع الوطني العام.

خلاصة القول، إن المشروع يجب أن يسبق سؤال الأدوات، وألا نتنازل حاليا عن أي أداة طالما لم يحدد المشروع (تيار المفاوضات مع إسرائيل ليس مشروعا ولا أدوات، بل هو تيار يسعى للبقاء بالسلطة بأي ثمن). هذا هو المهم في ظل الانقسام السياسي والفصل الجغرافي الذي يعيشه الفلسطينيون. وأي مشروع عام لا يراعي واقع الناس وأمورهم المعيشية سيكتب له الفشل منذ الآن، لأن الناس سترفضه، وسيتحول إلى عبء عليهم بدلا من تحريرهم.

التعليقات