همس الطائفية والانتخابات

يجري همس طائفي، غالبا صارخ، في المنافسة الانتخابية الحالية، من خلال مهاجمة تحالف التجمع الوطني الديمقراطي مع الحركة الإسلامية. ويحاول المهاجمون التذاكي في هجومهم، بأن كيف لحزب علماني ليبرالي ديمقراطي وإلخ.. أن يتحالف مع حركة إسلامية

همس الطائفية والانتخابات

لا يعاني مجتمعنا العربي، هنا، من مشكلة طائفية مطابقة لمعظم دول المشرق، ولا يعاني من انقسامات عامودية حادة (طائفية وأثنية) أو أفقية (طبقية ونخب مهيمنة)، لأننا ببساطة لسنا مجتمعا كاملا جزءًا من دولةٍ أمّة، بل نحن مجتمع عربي يجري تطوره، القسري غالبا، على هامش دولة ليست جزءًا من أمته.

لذا، تتطلب معالجة الطائفية عندنا زوايا نظرٍ وبحثٍ مختلفة عن تلك التي في العالم العربي، مع الاستفادة منها. لكن المشترك مع الطائفية حولنا، بأن الطائفية هي نتاج سياسات هوية تتبعها قوى سياسية أو أنظمة حكم، غير ديمقراطية بكل تأكيد، أو أطراف خارجية لأهداف سياسية صرفة بهدف التمكن من الهيمنة والتحكم، على غرار "فرق تسد".

الطائفية نفي للحرية

وبما أن الدين قائم في منزل كل فرد في المجتمع، فإن انتماءات الطوائف والمذاهب هي واقع لا يمكن تجاهله، ومثلُ ذلك علاقة الفرد بالطائفة أو المذهب القائمة في بيئته الاجتماعية رغما عنه، لكن دون أن يعني ذلك بأنه فرد طائفي. وفي هذا السياق، يشير عزمي بشارة في كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة" (المركز العربي، 2018)، إلى وجوب التمييز بين الطائفة، بوصفها كيانًا اجتماعيًا محليًا أهليًا، وبين الطائفة المتخيلة. ولفظ الطائفة، كما يُظهر بشارة، وجد في اللغة العربية منذ القدم، ولكن مصطلح "الطائفية" دخل حديثا للعربية. والطائفة في السابق كانت تحمل دلالات محايدة لوصف جماعة معينة، وحتى لوصف أصناف الحِرف المتوارثة، لكنه يضيف أمرا هاما وهو أن "الطائفية ظاهرة اجتماعية وليست خيارا سياسيا فرديا. وحتى حينما تطرح كأنها خيار ثقافي سياسي أمام الفرد، تكون قد نشأت الطائفية وانتشرت وأصبحت من محددات الجماعة... بحيث تختلط الطائفية بالطائفة... ويصبح خيار الانتماء إلى الطائفة من عدمه، خيارا وهميا، على الأغلب، في حالة هيمنة الطائفية".

ويخلص إلى أن "الطائفية هي نفي لحرية الاختيار هذه، من ثم يصبح الصراع مع الطائفية شرط ممارسة هذه الحرية". وهذا المهم، محاربة الطائفية شرط ممارسة الحرية، حرية الاختيار والانتماء، حرية الاعتقاد.

كيف تُنتج الطائفية عندنا؟

تنتج بتسيس الانتماء الديني الفردي، تماما مثلما تنتج العائلية بتسيس الانتماء العائلي أو العشائري للفرد وتحويلها إلى جماعات متخيلة (وليست مختلقة)، تتخيل نفسها صاحبة مواصفات محددة ونطاق محدد وسلطة أو سيادة، رغم أن أفراد هذه الجماعة لم يلتقوا مطلقا وبلا سيادة.

لكن من الذي يُنتج الطائفيّة؟ قد تكون جهات دينية تستثمر سلطتها المعنوية لأهداف سياسية؛ أو غالبا، أحزاب تدعي العلمانية لضرب خصوم سياسيين داخل الحزب وخارجه، وهذا ما حصل في الأنظمة الجمهورية العلمانية العربية.

وغالبا ما تكون الأنظمة التي تستخدم سياسات الهوية أنظمة علمانية، وتبرر هذه السياسات بأنها تحارب التطرف الديني، لكنها في الواقع، تغذّي التطرف الطائفي، وهي تبني شرعيتها في الغرب تحديدا، على أنها علمانية تحارب التطرف الديني والأصولية، لكنها في واقع الأمر تفتت المجتمع وتنتج صراعات داخلية عامودية جديدة، وتنتج أصولية لدى مجتمع الأغلبية. لذا يذهب برهان غليون إلى الاستنتاج في كتابه "المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات" (المركز العربي، 2012، وصدر لأول مرة في 1979)، أن مشكلة الأقليات "الطائفية" هي مشكلة الأغلبية، وهي قد تكون طبقة اجتماعية واسعة عجزت عن تحقيق ذاتها عبر مواطنتها بالدولة، وبعدما تفشل بتغيير مكانتها بالدولة تنكفئ على ذاتها.

همس الطائفية، صناعة الخوف، الإقصاء الذاتي

عودة إلى واقعنا اليوم. يجري همس طائفي، غالبا صارخ، في المنافسة الانتخابية الحالية، من خلال مهاجمة تحالف التجمع الوطني الديمقراطي مع الحركة الإسلامية. ويحاول المهاجمون التذاكي في هجومهم، بأن كيف لحزب علماني ليبرالي ديمقراطي وإلخ.. أن يتحالف مع حركة إسلامية، بغض النظر عن مدى شعبية تلك الحركة الواسعة أو انفتاح خطابها السياسي والديني.

وهذا المتذاكي لعبته مكشوفة، فهو لا يهاجم هذا التحالف بين علماني وإسلامي إلا في دوائر معينة يخيفها الإسلام السياسي وقد تكون مربحة له انتخابيا، سواء كانت مسيحية أو يهودية. فمثلا، هو لا يمارسها في مناطق أخرى لم تعرف صناعة الخوف من الإسلام السياسي. أي هو طائفي حيث يجب أن يكون طائفيا، وتقدمي حيث يجب أن يكون تقدميا، لكن طائفيته بدافع انتهازي سياسي وليس بدافع إيمانه وحرصه على الدين أو الطائفة.

هذا الطرف، لا يستخدم الانتماءات الشخصية لأهداف انتخابية فقط، بل يمارس ممارسات أنظمة وحركات فاشية، معظمها علماني، وهي تغذية الخوف لدى تلك الدوائر، أي يستغل معطى قائما، هو الانتماء لدين معين، ويلعب على وتر الخوف ليتحول إلى كراهية وينتهي إلى إقصاء، ليس للآخر فقط، بل إقصاء ذاتي وانكفاء واغتراب عن المحيط المتنوع.

هذه هي بالضبط صناعة الخوف والإقصاء الذاتي التي تتميز بها الحركات الفاشية، العلمانية والدينية، التي توظف الدين لأهداف دنيوية. وهذا أسلوب نتنياهو الانتخابي أيضًا.

هذا أمر قذر وخيانة للمجتمع، يكشف ذهنية أقلاتية فاشية، لا تتعامل مع نفسها على أنها جزء من هوية عربية غنية بالانتماءات والتنوع، بل ترى العالم وصراعاته من "خرم إبرة" ذهنيته الأقلاتية. مثل هؤلاء يجب نبذهم من السياسة، لأنهم خطيرون أخلاقيا، وممارساتهم اليوم تثبت ذلك.

ظهر بشكل واضح أن مهاجمة تحالف التجمع مع الإسلامية ليست بدوافع ديمقراطية وقيم إنسانية كونية أو باسم العلمانية الديمقراطية، بل بدوافع انتهازية سياسية تستثمر الخوف لدى دوائر معينة لتغذية الكراهية والإقصاء الذاتي. أي أن مشكلتها مع الإسلامية، حليفة الأمس، ليست، مثلا، مواقفها السياسية، بل قوتها الشعبية كخصم سياسي.

العلمانية.. ليست نمط حياة ولا عقيدة

جرّب العالم العلمانية في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وروسيا الشيوعية، ونتائجها الكارثية معروفة، بل أن النظم العلمانية تلك ارتكبت جرائم وخلفت ضحايا أكثر بكثير من الحركات الدينية، الإسلامية والمسيحية واليهودية، في القرن الماضي.

ومن يعتقد أنه يمكن التأسيس للعلمانية أو الديمقراطية الليبرالية من دون حوار مع المتدينين والحركات الإسلامية، على اختلاف عقائدهم، ومن دون الإصلاح الديني، الذي ليس بمقدور أحد القيام به إلا رجال الدين، فإنه يجهل حقيقة العلمانية التي قامت على الإصلاح الديني والانفتاح على الآخر.

و"العلمانية" عنده تختزل بنمط حياة لا أكثر، تتعلق بالمظهر الخارجي أساسا، وتقوم على رفض الآخر ليس إلا بسبب عقيدته المختلفة ونمط حياته ولباسه. هذا الرفض ليس تمايزا واختلافا بل تخلّف. رغم أن العلمانية ليست عقيدة للحياة تحدد لك ما تأكل وما تشرب وما تلبس.

وهذا في الحقيقة يتقاطع، كما ذكرت، مع توجهات عنصرية وفاشية تحتقر الإنسان الآخر ليس بسبب جرم ارتكبه، وإنما فقط بسبب عقيدته ولونه وطريقة عيشه.

والعلمانية ليست نمط حياة أو عقيدة، بل هي باختصار، الفضاء أو الوعاء السائل الذي تسبح فيه الديمقراطية، فلا إمكانية لديمقراطية ليبرالية حقيقية من دون علمانية تشكّل وعاءً لها، وإلا أصبحت ديمقراطية إسلامية أو مسيحية أو عرقية أو نخبوية، أي ليست لكل المواطنين.

وضف إلى ذلك، أن تحالف التجمع مع الحركة الإسلامية ليس ذا مرجعية دينية مثل الأحزاب الحريدية، بل لكل حزب من الاثنين مرجعيّته السياسية المختلفة، ولا يتلقى تعليماته من الحاخامات أو من رجال دين مثل الحريديين. بل هو تحالف انتخابي نأمل أن يؤسس لحوار وانفتاح أوسع يحفظان المجتمع من صراعات مصطنعة، تريدها أطراف علمانية ودينية متشددة.

تجارب عربية

في العراق مثلا، تحالف الحزب الشيوعي مع مقتدى الصدر في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ولم تقم الدنيا ولم تقعد بسبب تحالف شيوعيين مع قائد ديني له تيار سياسي يسعى للحكم. بل الانتقادات كانت كيف لحزب علماني شيوعي أن يتحالف مع تيار سياسي مرجعيته دينية مذهبية لها مليشيات مسلحة. أي أن التحالف، من حيث المبدأ، ليس إشكاليا، بكونه تحالف علمانيين مع متدينين، وإنما الإشكالية في أن المرجعية الأساسية هي زعيم ديني له امتداد شعبي واسع ويسعى للحكم.

في تونس، رحب الوطنيون الديمقراطيون بتوافق حركة النهضة ذات التوجهات الإسلامية مع أحزاب علمانية بعد الثورة، انتهت إلى تنصيب قائد تيار ديمقراطي علماني، مثل المنصف المرزوقي، رئيسًا للجمهورية. وهذا ما حمى تونس من الثورة المضادة، بينما عقليّة الإقصاء حرفت مسار الثورة المصرية عندما رفضت "تنظيمات علمانية" استيعاب التحالف المرحلي مع الإخوان المسلمين، وفضلّت التحالف مع عسكريين، والنتيجة معروفة.

وفي تركيا، تتحالف أحزاب قومية علمانية مع حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإسلامية دون أن تقوم الدنيا ولا تقعد، بل بالعكس، يعتبر حفاظا على وحدة المجتمع والبلد والديمقراطية، طالما أنه يضع نصب أعينه جعل تركيا قوة عالمية صاعدة، اقتصاديا وسياسيا.

العلمانية قد تكون رديفة لإقصاء الآخر فقط لمعتقداته الشخصية، وهذه عنصرية. والعلمانية قد تكون رديفة لممارسة فاشية معروفة، وهي استثمار الخوف من الآخر لأهداف سياسية، مثل الخوف من الإخوان المسلمين، لكنها في الحقيقة تخفي ذهنية انكفائية أقلاتية حتى لا أقول طائفية.

من الطائفي إذًا؟

تحالف التيار القومي الديمقراطي مع التيار الإسلامي المنفتح والوسطي، هو تطور سياسي مهم يقر بالتعددية وحصل تدريجيا بدءا من العام 2006 وليس اضطراريا، ويعكس كل شرائح المجتمع وله امتداد شعبي يجب تطويره. ومن لا يريد التصويت لهذا التحالف بسبب الحركة الإسلامية، نتيجة سياسة التخويف والهمس الطائفي التي انكشف إليها، باسم العلمانية، فالنتيجة هي أنه هو الذي سيظهر على أنه طائفي، لأن الحركة ستقول ها نحن مددنا أيادينا وانفتحنا على الجميع، وأنت من رفض، ليس بسبب مواقفنا السياسية بل بسبب الهمس الطائفي لحسابات انتخابية غير مسؤولة.

سيقولون، نحن انفتحنا وأنت انكفأت. من الطائفي والمتخلف إذًا؟


في الخوف/ رامي منصور

اقرأ/ي أيضًا | احتواء وإقصاء...

 

التعليقات