31/10/2010 - 11:02

أمريكا تحتوي أزمتها../ علي جرادات

أمريكا تحتوي أزمتها../ علي جرادات
بعد قرابة عقدٍ مِن المفاوضات التي أطلقها مؤتمر مدريد عام 1991، ومنذ مفاوضات كامب ديفيد 2000 المفصلية تحديداً، إتضح للقاصي والداني أن السياسة الإسرائيلية، بألوانها الحزبية النافذة، ليست في وارد دفع ثمن التوصل الى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية تحديداً، وللصراع العربي الإسرائيلي عموماً، كما أثبت تحميل واشنطن للطرف الفلسطيني مسؤولية فشل تلك المفاوضات، أن الإدارة الأمريكية ليست طرفاً محايداً في الصراع، وأكد مرة أخرى، أنها ليست في وارد الضغط على حكام تل أبيب أو ثنيهم عن صلفهم وإصرارهم على التشبث بالحلول الأمنية لقضايا الصراع السياسية.

وهذا، فضلاً عن استمرار تكريس الرؤية الإسرائيلية على الأرض، كان بمثابة محطة مفصلية، كانت تستدعي التوقف وإجراء مراجعة سياسية عربية شاملة لكيفية إدارة الصراع وسبل تسويته تسوية سياسية، تلبي ولو الحد الأدنى مِن الحقوق العربية والفلسطينية، كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة. ولكن مثل هذه المراجعة لم تحصل، الأمر الذي شجع شارون على "لحس" ما كان أعطاه رابين للفلسطينيين مِن "سلطة إنتقالية"، دون الإعلان عن إنهائها رسمياً، عندما إجتاح مناطق "أ" في الضفة الغربية، وأعاد احتلالها بصورة واقعية، بل، وتمادى مِن خلال بناء جدار الفصل العنصري النهبي، ومواصلة إجراءات تهويد القدس وسلخها عن الضفة، إضافة الى إجراءات عزل منطقة الغور، وفصل غزة عن الضفة "وحبسِها" عبر فك الإرتباط معها مِن طرف واحد، وكان كل ذلك في إطار كذبة "لا يوجد شريك فلسطيني"، تلك الكذبة التي انطوت عملياً على العودة الى أوهام كذبة جولدا مائير القائلة: "أين هو الشعب الفلسطيني؟!!!".

لم يسعف قانون الحياة شارون على المضي في مخططه، الذي تنطع أولمرت لإستكماله عبر "خطة الإنطواء" في الضفة الغربية، ولكن عوامل الفشل العسكري الإسرائيلي في لبنان، والتحدي الإيراني، ومصاعب السياسة الأمريكية في العراق، وإنتكاساتها في الشرق الأوسط عموماً، إضطرت واشنطن الى التراجع خطوة للوراء مِن أجل التقدم خطوتان الى الأمام، أي بهدف إعادة الإمساك بزمام المبادرة وإحكام قبضتها على منطقة الشرق الأوسط، مِن خلال محاولة إحتواء ما أصاب سياستها مِن إنتكاسات، وترميم ما أصاب تحالفاتها العربية والدولية مِن إهتزازات، كان مِن شأن تركها دون معالجة أن يهدد سيطرة واشنطن الأحادية على السياسة الدولية ومؤسساتها، خاصة مع تنامي التذمرات الدولية ضد التفرد الأمريكي، الذي أوغل في تجاهل أقطاب دولية نافذة مثل روسيا والصين وغيرهما، ولم يقم وزناً لمصالح هذه الأقطاب ودورها.

أمام هذه اللوحة المعقدة لواقع السياسة الدولية والإقليمية وتحولاتها العاصفة؛ وأمام ما أكدته السياسة الإسرائيلية مِن صلف فاق كل تصور؛ وأمام إصرار واشنطن على مواصلة دعمها للرؤية الإسرائيلية ومواقفها رغم ما تواجهه سياستها مِن مصاعب جدية، كان أمام السياسة العربية ونظامها الرسمي فرصة ذهبية لمغادرة دور المتلقي، والإنتقال الى المبادرة والضغط وتفعيل الإمكانيات والدور، ولو بالمعنى السياسي على الأقل. ولكن، وبكل أسف، فقد كانت المبادرة مِن نصيب واشنطن وتل أبيب، فيما واصل النظام الرسمي العربي الإستغراق فيما يعيشه مِن حالة عجز وتفكك، الى درجة أن لا يسعى حتى الى تعديل شروط عقد لقاء "أنابوليس"، الذي أصر الإسرائيليون على إفراغه مِن أي مضمون يذكر، وتحويله الى مجرد لقاء دولي احتفالي لتشجيع العودة الى مفاوضات عبثية، جربها العرب والفلسطينيون على مدار عقد ونصف العقد، ولم تسفر عن أي نتيجة عملية على صعيد جوهر الصراع، القضية الفلسطينية، وقضاياها الأساسية: العودة والقدس والحدود والمستوطنات والأمن والمياه.

والغريب، بل والمحزن أيضاً، أن يأتي تسويغ قرار المشاركة العربية في لقاء "أنابوليس" بالقول: نريد قطع الشك باليقين حول استعداد الإسرائيليين للتسوية السياسية، وكأن تجربة عقد ونصف العقد مِن المفاوضات لم تكن كافية لإظهار أن سائد السياسة الإسرائيلي ليس مستعداً للبحث في أكثر مِن الإحتياجات المدنية لمجموعة مِن السكان الفلسطينيين في الضفة وغزة، بل إن استعداده هذا لا يأتي إلا بسبب عدم القدرة على التخلص منهم، وفي إطار ما يشكله تكاثرهم، فضلاً عن تكاثر الفلسطينيين خلف الخط الأخضر، مِن خطر ديموغرافي يهدد مصير "مقدس" "يهودية دولة إسرائيل"، وإلا ما معنى مطالبة أولمرت للفلسطينيين بالإعتراف بهذا "المقدس"، الذي بات الحفاظ عليه وصونه بمثابة محرك السياسة الإسرائيلية وهاجسها الأساسي، لا في السياسة وعملية التفاوض فقط، بل فيما يجري تكريسه مِن قائع على الأرض أيضاً، وإلا ما معنى مواصلة إجراءات تهويد القدس وعزلها عن الضفة؟!!! وما معنى مواصلة إجراءات الإستيطان ومصادرة الأراضي وتمزيق الضفة الى كانتونات منفصلة؟!!! وما معنى مواصلة إجراءات بناء الجدار العنصري النهبي؟!!! وما معنى مواصلة إجراءات فصل غزة عن الضفة، الذي زادته حماقة الحسم العسكري سوءاً على سوء؟!!!! وما معنى مواصلة إجراءات عزل منطقة الغور؟!!! وما معنى مواصلة رفض عودة اللاجئين، وإعتبار مسألة قيام الدولة الفلسطينية بالفهم الإسرائيلي لقيامها حلاً للقضية الفلسطينية مِن كافة جوانبها؟!!! وما معنى مواصلة رفض تفكيك التجمعات الإستيطانية الأساسية؟!!!

لقد فشل النظام الرسمي العربي في استغلال أزمة السياسة الأمريكية على المستوى الدولي، كما فشل في استثمار حاجتها للدعم السياسي العربي على المستوى الإقليمي، ومع هذا الفشل تكون إدارة بوش الحمقاء قد استفادت كثيراً، بل يمكن القول إنها نجحت بنسبة كبيرة في إعادة الإمساك بزمام المبادرة وترتيب الأوراق، ما أعطاها فرصة لتجنبِ ما كان لزاماً عليها أن تدفعه لقاء مساعدتها في تجاوز ورطتها في المنطقة عموماً، وفي العراق خصوصاً، ولقاء ما هو متوقع أن تقوم به تجاه التحدي الإيراني، أما حكام تل أبيب فقد أفلتوا بدورهم مِن دفع ثمن ضغوطات فشلهم العسكري في لبنان وحيرتهم تجاه الملف النووي الإيراني، ونجحوا في إعادة أمور المفاوضات الى مربعات رؤيتهم الأمنية، فما طرحوه مِن لاءات طوال عقدٍ ونصف العقد مِن المفاوضات، هي ذات اللاءات التي طرحوها قبل لقاء "أنابوليس"، وهي ذاتها التي سيواصلون التمسك بها بعد إنفضاض "سامر" هذا اللقاء.

على ما تقدم، وبالنظر الى أن لقاء "أنابوليس" لن يكون أكثر مِن محطة لتشجيع المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما أعلن منذ البداية أولمرت، فإن بالمقدور الإستخلاص والقول: كان أمام العرب فرصة ذهبية للإستغلال والضغط والمبادرة، غير أنهم أضاعوها، وكان للإسرائيليين وراعيهم الأمريكي أزمة جدية، ولكنهم نجحوا بهذا القدر أو ذاك في إحتوائها، دون أن يدفعوا أي ثمن لقاء ذلك، حتى ولو وافقوا على عقد مؤتمر دولي آخر في موسكو يقال أنه سيعقد في مطلع العام القادم.

خلاصة القول: لقد أخفق العرب في استغلال مصاعب السياسة الأمريكية وانتكاساتها في المنطقة، كما أخفقوا في استغلال الفشل العسكري في لبنان. وبالتالي، فإن أمريكا وإسرائيل بانعقاد لقاء "أنابوليس" بالطريقة التي تمت، تكونا قد نجحتا في احتواء قدر كبير مِن أزمتهما المشتركة. وأظن، وليس كل الظن إثماً، أن هنالك عاصفة تحيق بالمنطقة، وما هدوء لقاء "أنابوليس" سوى مقدمة وموسيقى تصويرية لها.

التعليقات