31/10/2010 - 11:02

أيتها الأقليات.. وداعاً../ جميل مطر*

أيتها الأقليات.. وداعاً../ جميل مطر*
تعالت في الأيام الأخيرة أصوات تدعو الدول الغربية، وبخاصة حكومة الولايات المتحدة إلى فرض سياسات من شأنها أن تحقق للأقليات في العالم النامي استقلالها الذاتي، وتضع الأقليات في العالم الغربي أمام خيارين، التخلي عن ثقافتها بالذوبان في الثقافة المهيمنة أي في الثقافة “القومية”، أو الرحيل إلى أوطان السلف والأصل.

كان من الممكن تجاهل هذه الأصوات رغم نبرتها العالية واتساع مساحة انتشارها في عديد من دول الغرب لولا أن الحملة، إن استحقت هذا الوصف، تجاوزت حدود الرأي واخترقت حدود أجهزة صنع القرار السياسي في أرفع مستوياته. ففي واشنطن مثلاً اتخذ مجلس النواب الأمريكي قراراً يحث على تقسيم العراق بين طوائفه وأعراقه دولاً لا يجمع بينها بالضرورة نظام فيدرالي.

وفي بريطانيا خرج كبير حاخامات اليهود يحث الحكومة البريطانية على التخلي عن سياسات دعم التنوع والتعددية في المملكة المتحدة والعودة إلى هيمنة الثقافة الأوحد. كان هذا الموقف من جانب جوناثان ساكس والصخب الذي صاحب صدور كتابه تطوراً أساسياً وخطيراً في قضية التعددية العرقية والدينية في الغرب. ثم وقع في “إسرائيل” تطور ثان لا يقل أهمية حين فرضت حكومة “إسرائيل” على كافة التلاميذ المسلمين والمسيحيين الإعراب كتابة عن اعتزازهم باليهودية كثقافة لدولة “إسرائيل” التي يحملون هويتها. هذا التصرف من جانب “إسرائيل”، قد لا يضيف جديداً في التأكيد على عنصرية الدولة “الإسرائيلية”، ولكن أهميته تكمن في أنه يتزامن مع تحذير بعض قادة اليهود في مجتمعات غربية متعددة من “التهديد” الذي تتعرض له “الثقافة القومية” في هذه المجتمعات بسبب سياسات دعم التنوع أو التعددية.

إن صح ما نتوقعه، وهو أن قوى مؤثرة في دول الغرب تنوي، أو قررت بالفعل، العودة عن سياسات دعم التنوع وتشجيع التعددية في مجتمعاتها، فإننا نكون قد خطونا خطوة مهمة نحو دخول مرحلة ثالثة من مراحل تطور “العلاقة مع الآخر” في دول الغرب، وربما في العالم بأسره، تحت تأثير الضغوط التي قد تمارسها هذه الدول.

لقد قامت الدولة في أوروبا، أي قبل أربعة قرون، على أساس “ثقافة قومية”، أي توافق مجموعة من السكان أو أغلبيتهم على مجموعة من السير والأساطير والبطولات المنقولة عبر قصص الأجداد وسجلات التاريخ، ومجموعة ثانية من القيم والأخلاق بعضها في هيئة عقيدة أو دين، ومجموعة ثالثة من السلوكيات والممارسات التي يشترك فيها هؤلاء السكان المتوافقون. في كثير من هذه “الدول القومية” عاشت أقليات خارج هذا التوافق، أو خارج هذه الثقافة، محافظة على ثقافتها الخاصة برضاها أحياناً ومجبرة في أحيان أخرى. وكان اليهود وقبائل الغجر في أوروبا من أبرز هذه الأقليات. وظلت الأقليات تمثل نسباً بسيطة في معظم هذه “الدول القومية” إلى أن توسعت الدولة القومية في شكل إمبراطورية فازدادت الأقليات عدداً ونسباً.

بعض هذه الدول القومية مارست منذ النشأة سياسة الإنكار، بمعنى إنكار الطبقة الحاكمة، وربما طبقات أخرى، وجود “شعوب أخرى” تعيش على الأرض نفسها. هكذا تعاملت معظم أوروبا مع اليهود طيلة قرون طويلة. وبالرغم من سوء المعاملة والممارسات العنصرية التي عانى منها يهود أوروبا لم يصل الإنكار إلى حده الأقصى الذي بلغه في الولايات المتحدة. لم تحدث في أوروبا مثلاً على امتداد القرون، عمليات إبادة كتلك التي تعرضت لها شعوب وقبائل السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، ولم يتعرض اليهود وكذلك الغجر، إلى عمليات تطهير عرقي بالمعنى الجسدي للتطهير. تعرضوا لتمييز وقسوة وإنكار وإهمال، ولكن لم يتعرضوا إلى ما تعرض له الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، وهي الإبادة المنظمة التي استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومن أفلت من القبائل من الإبادة الجسدية لحقت به الإبادة الثقافية، حين أجبرت الحكومة الفيدرالية في واشنطن قبائل الهنود في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على التخلي عن أسلوب حياتهم وحرمانهم من مواقع ذكرياتهم وتاريخهم وبطولاتهم وفرضت عليهم تغيير سلوكياتهم واتباع منظومة أخلاق وقيم جديدة محل المنظومة الهندية.

لم يحظ الهنود الحمر بما حظي به المهاجرون الجدد إلى أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أي المهاجرون القادمون من ثقافات “كاثوليكية”، أو “بحر متوسطية”، أو “شرق أوروبية”. هؤلاء طبقت عليهم الطبقة الحاكمة الأمريكية سياسة بوتقة الصهر، وهي صيغة مختلفة، وإن ناعمة، من صيغ الإبادة الثقافية. طالبت هذه السياسة المهاجر القادم من ثقافات مغايرة أن يكون مستعداً لأن يذوب تدريجياً في خليط “أنجلو سكسوني بروتستانتي أبيض”. وظلت هذه السياسة، سياسة بوتقة الصهر، السياسة الرسمية للولايات المتحدة للتعامل مع الآخر المنتسب إلى أصول غير أنجلو سكسونية والمؤمن بمذهب غير المذهب البروتستانتي، ولونه ليس أبيض تماماً، وشعره أسود مجعد، إلى أن وقعت انتفاضة الأمريكيين من أصل إفريقي وفرضت التغيير على هذه المنظومة الثقافية، على الأقل في تداعياتها القانونية والتشريعية والسياسية.

عندئذ وبسبب الزيادة الكبيرة في نسب المهاجرين الجدد القادمين من المكسيك وأمريكا الجنوبية من ناحية والقادمين من دول آسيوية من ناحية أخرى قررت واشنطن الاعتراف بالتعددية في المجتمع الأمريكي، وبحق الأقليات في الاحتفاظ بثقافتها ضمن تنوع داخل النمط الأمريكي. وأخذت بالفعل بعض تجارب من كل من كندا واستراليا، وهما الدولتان اللتان مارستا سياسات دعم التنوع منذ وقت طويل. وأصدرت واشنطن تشريعات تدفع بأبناء الأقليات وبخاصة الأقلية السوداء نحو فرص متميزة في العمل والوظائف والتعليم والصحة وغيرها من تلك التي كان يحتكرها الأمريكي الأبيض من أصول أنجلو سكسونية وعقيدة بروتستانتية.

في الوقت ذاته، وبخاصة مع انطلاق الموجة الجديدة للعولمة، مارست معظم دول الغرب سياسة الباب المفتوح أمام الهجرات من آسيا وإفريقيا وتدفقت الهجرات بمعدلات غير مسبوقة، كما في الهجرة التركية إلى ألمانيا والمهاجرين من أصول هندية أي من الهند وباكستان وشرق إفريقيا ومن جزر الكاريبي إلى المملكة المتحدة، والهجرة من شمال إفريقيا إلى فرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا. ويذكر لبريطانيا وهولندا ودول أخرى أنها مارست أقصى درجات تشجيع المهاجرين على الإقامة والاستمتاع بحقوق أهل البلاد الأصليين، ووضعت تشريعات لمصلحة التعددية والتنوع الثقافي.

وصل القرن الحادي والعشرون، ووصلت معه مشكلات استيعاب الغرب للهجرات الواسعة التي استفادت من العولمة ومتطلبات النمو الاقتصادي في الغرب وسوء الأوضاع في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية ودول شرق أوروبا المتعطشة إلى الغرب “وحرياته ووعوده ورخائه”. وظهر في الجاليات الإسلامية تياران أساسيان، تيار تقوده أقلية نشطة ينادي برفض الغرب الذي يعيش فيه ويدعو لمقاومة ثقافته والانعزال عنها، وتيار غالب يرفض جوانب في ثقافة الغرب ولكنه مستعد للتعامل معها والعيش في ظلها بشرط أن يحتفظ بثقافته، ويطلب من الثقافة المهيمنة، أي ثقافة الأغلبية الأصلية، احترام ثقافته. كان هناك أيضاً من يريد، أو يتمنى، الانصهار أو الذوبان في الثقافة المهيمنة ولكنه عجز لأسباب كثيرة منها اللون والشكل وربما اللغة وغيرها من مظاهر هوية لا يمكن إخفاؤها.

ولم تكن غريبة أو مفاجئة حالة القلق التي كنا نلاحظها في أواخر عقد التسعينات. سمعنا وقتها شكوى بعض الأوروبيين الأصليين من أنهم يفقدون الكثير من معالم ثقافتهم من دون أن يجدوا التعويض المناسب في الثقافات الوافدة، وسمعنا شكوى بعض المهاجرين القدامى وأبنائهم وأحفادهم من أنهم يعانون من تمييز يتصاعد متدرجاً إلى نوع من التمييز العنصري. ثم وقعت أحداث نيويورك وتتابعت حلقات مسلسل الإرهاب والحرب ضده، وانتهزت جماعات الصهيونية والمسيحية المتطرفة واليمين الجديد الفرصة فشنت ما يشبه الحرب الأهلية ضد أبناء الجاليات الإسلامية في الولايات المتحدة.

ترافقت مع هذه الحملات المناهضة للأجانب عامة والمهاجرين من ثقافات إسلامية وشرقية خاصة حملة من التشريعات في معظم دول الغرب، تهدف إلى تقييد الحريات الفردية والتدخل في شؤون المواطنين والتجسس عليهم والتنصت على اتصالاتهم الخارجية ومراقبة علاقاتهم بالأجانب. ووصل الأمر في بعض مجتمعات الغرب إلى حد استخدام سلطات تكاد توازي سلطات الدولة البوليسية في عهود الفاشية النازية، وارتبط في الذهن الأوروبي والأمريكي انحسار الديمقراطية بالهجرة وغزو الثقافات “الأخرى”.

هكذا أصبح ممكناً، وفي رأي البعض ضرورياً، إطلاق حملة سياسية وإعلامية واسعة تدعو الحكومات إلى التوقف عن ممارسة سياسات دعم التنوع، والامتناع عن تشجيع أفكار التعددية الثقافية في المجتمع. عدنا نسمع تبجيلاً “لثقافة الأمة” لا يقل كثيراً عن تبجيل الألمان لثقافة الأمة في عهود ما قبل الحرب العالمية الثانية، ونسمع تنديداً بثقافات “الآخر”، وبخاصة الثقافة الإسلامية، ليس أقل حدة وبشاعة من كل ما وصل إلينا من تراث عصر محاكم التفتيش في إسبانيا، وما وصل إلينا من عصور العداء للسامية حين كانوا يصفون اليهود بأبشع الأوصاف. المثير واللافت أن أكثر ما يصل إلينا من الأوصاف البشعة لثقافات الآخر، وبخاصة الثقافة الإسلامية والشرقية، يأتي على ألسنة أكاديميين وإعلاميين من أصول يهودية.

يعودون الآن عن سياسات دعم التنوع ويعودون عن فكرة مجتمعات التعدد الثقافي. ويحلمون بمجتمع “الثقافة الغالبة” بحجة أن هذه الثقافة كانت ومازالت الأساس القوي الذي تقوم عليه الدولة في الغرب. آخرون يرفضون.

وفي الأفق يلوح الخطر. تمهد له وتروج شعارات مجنونة، أشدها جنوناً شعار دولة لكل عرق ولكل قوم، ولكل طائفة، ولكل مذهب، ولكل لغة.
"الخليج"

التعليقات