31/10/2010 - 11:02

الاستيلاء على مؤسسات "المجتمع المدني"../ عبد الإله بلقزيز

الاستيلاء على مؤسسات
لا يخامرنا شك في أن كثيراً من الجمعيات غير الحكومية التي نشأت في بلادنا العربية وفي العالم، قبل عقدين أو ثلاثة، كانت مدفوعة - حين نشأتها - بفكرة نبيلة صنعت لها في نفسها وفي نظر الرأي العام شرعية الوجود: الدفاع عن حقوق الإنسان المنتَهكة في كنف أنظمة الاستبداد، الدفاع عن حقوق المرأة المهضومة في القوانين وفي المجتمع الذكوري، الدفاع عن البيئة التي يدمّرها الاستغلال الرأسمالي الصناعويّ الوحشي.. إلخ. ولسنا نشكُ في أن الرعيل الأول المؤسس لهذه الجمعيات كان لا يزال مشدوداً الى ثقافة نضالية، ومنظومة قيم نضالية، ورثها عن حقبة النضال السياسي في سنوات الستينات والسبعينات، وتراءت له إمكانية التعبير عنها من جديد وبأدوات ومفردات غير سياسية بعد أن تبيّن له أن التغيير الثوري آل الى طوبى سياسية.

وليس ثمة ما يدعونا الى الشك في أن هذا الرعيل الأول ما أخطأ حين قدّر أن إمكانية أخرى للنضال الاجتماعي قد تُفتح من طريق - ومن نافذة - جمعيات غير حكومية ينصرف جهدها الجماعي الى بناء رأي عام في قضايا ذات حساسية كبيرة ما كانت تحظى بالاهتمام أو الأولوية في زمن الحزبية مثل حقوق الإنسان والمرأة والبيئة والتنمية المحلية وحقوق المستهلك.. فلقد كان من طالع سوء هذه القضايا أن تنزوي في ركن قصيّ معزول زمن السياسة الحزبية بما هي في حسبان عهد مضى دون السياسة قدراً ومقاماً، أو لاعتقاد رسخ في الأذهان بأن بؤرة النضال وعقدة المشاكل هي السياسة وأنه ما إن تنحل هذه العقدة حتى ينجم عنها، بالتبعية، حل سائر العقد والمعضلات الأخرى. لذلك بدت مبادرات تأسيس جمعيات خاصة متفرغة لهذه المشكلات تحريراً لها من القيود التي تفرضها عليها المقاربة السياسيوية الإلحاقية لها، وإخراجاً لها من تأجيلية مستمرة ترحلها الى ما بعد تحقيق “الوعد الثوري”.

لكن الأمور جرت، في ما بعد، مجرى آخر خرجت به الجمعيات تلك عن النطاق الذي رسمته منطلقاتها. هل حصل حرفها عن هذه المنطلقات نتيجة أخطاء في إدارة التجربة أم أنها كانت آيلة حكماً وبالضرورة الى ما آلت إليه لأنها محكومة بمقدمات لا نتائج أخرى لها غير ما جرى؟ ليس هذا السؤال ما يعنينا هنا على أهميته واستراتيجيته في تحليل ظاهرة هذه الجمعيات. ما يعنينا - في المقام الأول - هو تشخيص هذا التحول ومناقشة الفكرة المؤسسة للظاهرة موضوع الحديث.

من المؤسف أن العدد الكبير من هذه الجمعيات غير الحكومية، وفي الميادين العاملة فيها كافة، يشتغل اليوم في نطاق “أجندات” أجنبية عن وعي أو عن غير وعي، وأن قليلها ما زال يحافظ على استقلاله البرنامجي رغم الثمن الفادح الذي يدفعه من تمسكه بذلك الاستقلال فقراً وحرماناً من الموارد المتدفقة من المؤسسات الدولية.

القليل القليل من تلك الجمعيات - خاصة ما عَمِل منها في نطاق حقوق الإنسان - وُلد في أيام العسر: العسر السياسي والمالي. فكان على العاملين فيها أن يظلوا عرضة للمساءلة أو الملاحقة الأمنية لاجترائهم على انتهاك حُرم سياسي، وكان عليهم أن ينفقوا من فقرهم وجيوبهم الخاوية على جمعياتهم وعملهم حيث نطاق الحصار المالي مضروب عليهم والتبرعات الفردية مراقبة أو بحساب، وحيث لا أحد من خارج الديار - هناك في الغرب - يلقي بالاً لما يناضلون من أجله.

كان ذلك في زمن مضى وانقضى قبل عقدين أو يزيد. ثم لم تلبث الجمعيات، التي كانت تُحسب بأصابع اليد الواحدة، أن تكاثرت وتزايد عديدها فباتت تحصى بالمئات والآلاف، ودخلها من دخلها من عباد الله لأسباب وغايات مختلفة لم يكن في جملتها - بكل أسف - النضال من أجل الحريات العامة وحقوق المرأة والطفل والمستهلك والعاطل عن العمل وحماية البيئة، حتى وإن تلفع كثير منها بعنوان من هذه العناوين! وفي لحظة كانت فيها قيود التضييق على الحريات تُضرب على السلطة وتحد من جموحها الى منع انتشار مثل هذه الجمعيات، وتشديد الرقابة على مواردها، تدفقت إمكانات مالية هائلة على كثير منها من مصادر أجنبية كانت تعرف تماماً كيف تستثمر جيداً حال الفقر والعوز في مجتمعاتنا العربية والعالمثالية. وما دُفع المال لوجه الله إلا عند من خال الدافعين أهل بر وإحسان وإنما لحاجة في نفسه؛ والحاجة هذه - بالتعريف - سياسية وإن تغلفت باسم الدفاع عن الديمقراطية والحرية وتمكين المرأة وحفظ البيئة والحوار بين الإسلام والغرب وما شاكل من عناوين ذات قيمة استعمالية كبيرة.

وقد يحتج من يحتج بالقول إن المساعدات التي تتلقاها هذه الجمعيات غير مشروطة بالقيام بأدوار مُشتبه في صلتها بسياسات رسمية أجنبية. وإذ لا نتهم أحداً بتقديم السخرَة السياسية للأجنبي، ولا حتى بالعلم سلفاً بأن المطلوب منه أداء تلك السخرة، يهمنا - في المقام الأول - أن نقول بوضوح شديد، مراهنين على ذكاء الناس، إن عبارة “غير مشروطة” ليست من مفردات دافعي الأموال إلا ما كان من أهل الصدقة والإحسان (إن صح أنهم أيضاً يتصدقون بتجرد)، وأن على المرء أن يكون على درجة محترمة من الغباء حتى يصدق أزعومة “المساعدات غير المشروطة”!

وقد يحتج من يحتج بالقول إن مصدر تلك “المساعدات” و”الهبات” ليس الدول والحكومات وإنما المنظمات “غير الحكومية” في الولايات المتحدة وحول أوروبا. وفي وسع المرء منّا أن يتساءل بغباء مقصود عما إذا كان “الاتحاد الأوروبي” وصناديقه “منظمة غير حكومية” أو إذا كانت “الوكالة الدولية للتنمية” “منظمة غير حكومية” ناهيك بمئات مؤسسات التمويل الأجنبية المرتبطة بالحكومات ووزاراتها المختلفة! ويعرف الجميع أن قسماً من “المساعدات” التي تتلقاها الجمعيات غير الحكومية في البلاد العربية والعالم الثالث يأتيها بوسائط “ثقافية” أو “اجتماعية” أي من طريق منظمات شبيهة في الاهتمام من حيث المظهر، لكن صلتها بسياسات حكوماتها معلومة لدى الجميع، ولا تُخفيها تلك الحكومات ولا منظماتها “غير الحكومية”. أما بعضها الآخر، فيعلن عن نفسه جهراً من خلال برامج صرف رسمية من نوع برنامج “نشر الديمقراطية” الأمريكي.

إن استيلاء المال الأجنبي على الجمعيات غير الحكومية في بلداننا واستيلاده لها يمثل منعطفاً بالغ الخطورة في سياسات القوى الدولية الكبرى تجاه مجتمعاتنا. إنه يؤرخ لسطو ثالث على العقل والإرادة والقرار في هذه المجتمعات ويُؤذن بإطباق كامل على مؤسساتنا الداخلية وإمساك تام بمجمل مفاتيحها. كان السطو الأول سطواً على القرار الرسمي للنظم الحاكمة واستتباعاً له وإمساكاً به وتسخيراً له. وكان الثاني منه سطواً على قرار بعض المعارضات - مثل المعارضة العراقية في عهد النظام الوطني السابق - وتسخيراً لها في مشاريع الأجنبي (أفغانستان، السودان، سوريا، صربيا، جورجيا، أوكرانيا..). وها هو السطو الثالث يجري اليوم من طريق الاستيلاء - بالمال - على ما يُطلق عليه بقدر عظيم من الخِفة اسم مؤسسات “المجتمع المدني”. وها نحن نصحو اليوم على مشهد مجتمعاتنا ومصائرها ممسوكة من بواباتها الثلاث: السلطة، والمعارضة، و”المجتمع المدني”. وما أشنعه من مشهد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
"الخليج"

التعليقات