31/10/2010 - 11:02

الامبراطورية... وعواقب فوضى النهب الخلاّقة!../ عبد اللطيف مهنا

الامبراطورية... وعواقب فوضى النهب الخلاّقة!../ عبد اللطيف مهنا
ربما أنا آخر من يحق له الخوض في متاهات الاقتصاد ودنيا الأعمال وعوالم الاستثمارات، أو يجوز له أن يدلي بدلوه في قضايا تتعلق بما له علاقة بالأرقام. فأنا والحمد لله لا أرصدة لي أودعها المصارف، ولم أمتلك في يوم من الأيام وقد لا امتلك دفتر شيكات، بل لعلي الأكثر تواضعاً من أن أطمح في ذلك، وحتى لا أكتمكم سرا بأنني، وحتى وقوع الزلزال المالي الأميركي الكوني الأخير، لم أكن لأهتم بمعرفة أن الترليون له من الأصفار التي يسوقها من أمامه اثنا عشر صفراً... لكن قد لا احتاج إلى كل ما تقدم، مثلي مثل سواد مستوري الحال في هذا العالم، لكي أدرك ما ربما قد غدا يستشعره حتى القاطنين في غابات الأمازون، وهو أن العالم، واستناداً إلى ما يعنيه هذا الزلزال، قد أشرف على ولوج حقبةٍ جديدة لا محالة... حقبة عنوانها كساد اقتصادي شامل وحالة ركود ثقيلة قادمة تقوده إليها مرغماً هذه الأزمة المالية الأميركية، التي يبدو أنها في طريقها الحثيث للخروج عن السيطرة، والسير باتجاه منعطفٍ كونيٍ قد بدأ مساره للتو، ومن شأنه أن يشير إلى أن صورة عالمنا الراهن هي في طريقها إلى الاختلاف... أما جوهرها، فهو أن إمبراطورية القطب الواحد التي أمسكت بتلابيب العالم بعيد انتهاء حقبة ثنائية القطبية، إثر انهيار المقابل السوفيتي، وأعطت نفسها دوراً قائداً متسلطاً على اقتصاديات العالم، مطلقة العنان لتغوّل قطاعاتها المالية، التي ساقت، فيما يشبه أساليب النصب والاحتيال، حركة الاستثمار الكوني ليس لمصلحة البشرية وإنما باتجاه المضاربات والربح السريع الأقرب إلى السرقة والنهب، قد ارتدت بلطجتها وعواقب جشعها إلى نحرها.

وهنا، ربما جاز لي ولأمثالي في العالم أن يرقبوا بارتياح له مبرره سقوط الليبرالية الجديدة المدوي، وأن نشمت بفوكاياما الذي خيب التاريخ آماله فلم ينتهِ ويتوقف بانتهاء حقبة ثنائية القطبية وبدء أحاديتها، أو أن حدث التفرد الأميركي بها، وإنما ها هو هذا التاريخ الذي نعاه ينتفض متبرماً من البلطجة الإمبراطورية الفاقدة للاتزان والرشد والمسرعة وحدها باتجاه نهايتها بينما يسير هو قدماً... جاز لنا أن نسخر من أولئك المطبلين لاقتصاديات السوق، والمزمرين للعولمة الاقتصادية والمروجين لها في الغرب ومن تبعهم في الشرق، الذين هرعوا لتأميم مصارفهم، وكان منهم التنادي إلى نظام مالي كوني جديد يتم وضع ضوابطه والتحكم فيها.

الإمبراطورية، التي لا يشكل اقتصادها أكثر من 20% من اقتصاد العالم، شاءت أن تحل مشكلة العجز في ميزانها التجاري، وأن تموّل حروبها الكونية الرامية إلى إدامة هيمنتها على الكون، عبر اعتمادها "فوضى النهب الخلاّقة"، التي أدت بها إلى التخمة، لكنما أدت عقابيلها إلى أن قادتها إلى هاوية انهيار مؤسساتها المالية... مؤسسات المضاربات أو السلب والنهب والاحتيال، عابرةً القارات، وبالتالي فقدان مواطن هذه الإمبراطورية قبل سواه في العالم لمنزله... منزله الذي بني أصلاً بأموال الأمم الأخرى المنهوبة، أو التي جلبت أو استدرجت إلى حيث تهلكة مضاربات هذه المؤسسات المنفلت جشعها من عقاله.

اقتصاد الإمبراطورية خسر في أيام معدودة ثلاثة ترليونات من حجمه الإجمالي البالغ 12 ترليوناً، وهو مرشح لخسارة 3 ترليونات أخرى حتى نهاية هذا العام، بل ويقال إن صناديق التقاعد الأميركية وحدها قد خسرت ترليونين من قيمتها.

هذا ما يقوله الخبراء، أما أنا فأذكّر بأن الترليون له من الأصفار التي من أمامه اثني عشر صفراً. أما المعالجة التي اتبعتها الإدارة الأميركية، والتي كثر اللغط حولها وأقرها الكونجرس بعد طول جدال ثار حولها، فيكفي أنها قد أثارت شكوكاً وطرحت تساؤلات لم تكن موجودة قبلها، وليس هناك من هو المتفائل حول نجاعتها الآنية ناهيك عن المستقبلية.

والسؤال المنطقي المترتب هو: ترى هل المطلوب اليوم من عالمنا، هذا المكتوي لقرابة العقدين بدواهي البلطجة والتفرد الأميركي الفج بقراره، أن يعوض الإمبراطورية التي بدأ العد العكسي لأفولها ما خسرته؟!

ونعني، تعويضها حروباً تتطلب شراء معدات موت أميركية لا تدور عجلات مصانعها إلا على وهج الحرائق والدمار والاحتلالات؟!

أم أنها قد اثخنت بجراح حماقات محافظيها الجدد، وعتو مؤسساتها المالية الشرهة، وجشع شركاتها متعددة الجنسية، ونتائج حروب جورج بوش الابن الكوارثية؟!

الواقع أن من يطاردون عدوهم غير المرئي المسمى "الإرهاب" في أربع جهات الأرض، ومن يحاسبون العالم على النوايا استباقياً، وقلّصوا بالقوة مساحات سيادات الدول، وعبثوا بالقوانين والأعراف الدولية، وحوّلوا الدول المستضعفة إلى مجرد ملاحق أمنية لهم طائعة أو مكرهة، لتنجو من مغبة وضعها في قائمة الدول المارقة، أو عاقبة نقلها من قائمة "معنا" إلى "ضدنا"، هم اليوم أمام ساعة حساب، ولحظة حقيقة، تقول: بدأ العد العكسي للإمبراطورية، التي شرعت قدرتها وهيبتها وسطوتها في الانحسار... ها هم الروس يجاهرون بانتهاء حقبة وحدانية القطبية، وها هم الصينيون يمارسون نموهم في صمت مطبِّقين بحذرهم المعتاد وعلى طريقتهم الخاصة مجاهرة الروس هذه عملياً... وها هو الملحق الأوروبي الطائع عادةً يبحث عن منجاةٍ ويهرب من تبعيته إلى ما قاده إلى التأميم والاستنجاد بما درج على اعتباره إحدى سوءات الاشتراكية!
...والمهم: ها هم الاستباقيون العتاة يستَجدون التفاوض من طالبان، ويستغيثون بنخوة أطلسية فاترة، فلا يعدهم الملا عمر إلا ربما بانسحاب آمن من بلاده، وقد يكون منه التفضل بعدم مطاردتهم خارجها... ها هو ما يدعى قائد المنطقة الوسطى، الجنرال ديفيد بتراوس، يضطر لأن يحث الإمبراطورية "للتحدث مع أعدائها"... هذا في أفغانستان، ونأمل أن يكون مثل هذا قريباً في العراق...

قد يقول قائل: نعم، إنما هي أزمتهم، ولكنها غدت أزمة عالمية لها تداعياتها التي لن ينجو منها أحد، وإن بنسب متفاوتة، وإن الإمبراطورية التي بدأت تحس بأنها لن تنجو من ذات الصيرورة والمصير التاريخي المحتوم للإمبراطوريات الذي سلكته سابقاتها عبر التاريخ، لن تستسلم بسهولة، ومن شأنها أن تحاول ترميم ما يفسده دهر تسلطها... كل هذا صحيح، ولكن ترى ما الذي سيخسره فقراء العالم بعد سوى تهشم أنياب التسلط والاحتكار وتراجع سطوة البلطجة والبغي سواء أذهبت الأزمة إلى مداها، أم طوقتها المسكنات إلى حين؟!

ما الذي سيخسره، من لم يكونوا قد سمعوا من قبل بالترليونات، وليس لديهم ما يفقدون قيمته في المصارف، ولا تعنيهم كثيراً مؤشرات البورصات؟!

والأهم: ما الذي سوف نخسره نحن العرب، الذين نحن لسنا في ساحة الاقتصاد الكوني سوى ساحات نهب ومواطن أسواق، ولا علاقة حقيقية لنا بما يجري سوى تعرضنا الموضوعي لبعض الارتدادات... سوى خسارة الواهمين وهماً لطالما تمسك به من ربما لا يزالون يعتبرون الأميركان قدراً!

ما الذي سوف يحدث لعالمنا سوى هذه النتيجة الموضوعية لعواقب سياسات فوضى النهب الاقتصادية الأميركية الخلاّقة؟!

التعليقات