31/10/2010 - 11:02

الدبلوماسية الأميركية تتحرّك في الاتجاه الخاطئ../ د.حسن نافعة*

الدبلوماسية الأميركية تتحرّك في الاتجاه الخاطئ../ د.حسن نافعة*
في تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن حمل عنوان «إدارة أوباما والاستراتيجية الأميركية: الأيام المئة الأولى» ونشر في 12 نيسان (ابريل) الجاري، قام الخبير الاستراتيجي المعروف أنتوني كوردسمان، بمحاولة لرصد معالم التغيير التي طرأت على الاستراتيجية الأميركية بعد مئة يوم من تولي الرئيس باراك أوباما مهمات منصبه، وهي الفترة التي يعتقد أنها كافية للتعرف على الخطوط العامة لسياسة أي ادارة جديدة.

وقد أشار التقرير في البداية إلى صعوبات ثلاث تحدّ من قدرة أي رئيس أميركي على إدخال تغييرات جوهرية على الاستراتيجية المتبعة خلال المئة يوم الأولى هي: 1- حاجة الرئيس الجديد إلى وقت ليس بالقليل لتشكيل واختبار فريق الأمن القومي المعاون له. 2- تقيّد الإدارة الجديدة بميزانية تم إقرارها في العام السابق وفق رؤية استراتيجية وخطط وبرامج مختلفة. 3- ثقل وطأة الأزمات الموروثة عن صراعات معقدة وممتدة يعود بعضها إلى أكثر من نصف قرن.

وبعد هذه المقدمة الحذرة، أكد التقرير أن استعادة مكانة الولايات المتحدة في النظام الاقتصادي الدولي احتلت أولوية قصوى في استراتيجية الإدارة الجديدة من دون أن تهمل في الوقت نفسه اهتمامها ببقية القضايا الحيوية.

وفي ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، بدا كوردسمان غير مقتنع بالاستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه العراق، حيث يرى أنها تعاني من الغموض والنقص في جوانب كثيرة، ولا تتضمن ما يتعيّن على الولايات المتحدة أن تفعله في حال تجدد العنف وتدهور الوضع الأمني قبل إتمام انسحاب القوات الأميركية من هناك، بينما يرى أن تغيراً أساسيّاً طرأ في الوقت نفسه على الاستراتيجية الأميركية تجاه كل من أفغانستان وباكستان.

وفي ما يتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي بدا كوردسمان وكأنه يحاول التماس الأعذار لأوباما حين يقول: «هناك القليل مما يستطيع الرئيس الأميركي إنجازه على وجه السرعة في ما يتعلق بتحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين، حيث الحركة الفلسطينية منقسمة على نفسها، والحكومة الإسرائيلية تندفع يميناً، والعالم العربي يموج بالخلافات»، لكنه قام في الوقت نفسه برصد جملة من المبادرات التي صنعت التغيير على هذا الصعيد، منها: قيام أوباما بتعيين جورج ميتشل مبعوثاً خاصّاً له في المنطقة، والانفتاح على سورية، والكف عن استخدام مصطلح «الحرب الكونية على الإرهاب».

ورغم تقديرنا لمجمل الإشارات الإيجابية التي عدّدها كوردسمان في تقريره، إلا أننا نعتقد أنها لا تزال محصورة في الأمور الشكلية أو الإجرائية وتتعلق بأدوات ووسائل صنع السياسات أكثر مما تتعلق بمضمون أو جوهر هذه السياسات.

أكثر من ذلك ربما يكون التغيير الشكلي أو الإجرائي مقصوداً في ذاته للإيحاء بحدوث تغيير ظاهري مع استمرار السياسة الفعلية على ما هي عليه في واقع الأمر، وهو ما يبدو واضحاً من المواقف الحقيقية للإدارة الأميركية الجديدة تجاه القضية الفلسطينية والتي لا تزال تعد، حتى الآن، امتداداً لسياسة الإدارة السابقة. دليلنا على ذلك فحوى التصريحات التي أدلت بها وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ خلال الأسبوع الماضي، والتي تؤكد رفض الولايات المتحدة إجراء أي اتصالات مع أي حكومة فلسطينية تكون حركة «حماس» عضواً فيها، ورفض تقديم أي دعم مادي لهذه الحكومة إلا بعد أن تفي «حماس» بشروط ثلاثة هي: نبذ الإرهاب والاعتراف بدولة إسرائيل واحترام الاتفاقات والالتزامات التي سبق للسلطة الفلسطينية أن وقّعت عليها أو تعهّدت بتنفيذها.

قد يقول قائل إن هذه التصريحات تدخل في إطار المناورات التكتيكية التي تستهدف تفادي بعض الضغوط الداخلية بأكثر مما تعكس حقيقة التوجهات الأميركية الجديدة، لكن هذا التفسير لا يبدو مقنعاً. وعلى أي حال فإذا كانت هذه التصريحات تمثل حقيقة المواقف الأميركية، وهو الاحتمال الأرجح، فلن يكون لها، في تقديري، سوى تفسير واحد وهو أن الديبلوماسية الأميركية ضلت طريقها وبدأت، شأنها في ذلك شأن الإدارات السابقة، تسير في عكس الاتجاه المطلوب تماماً وذلك للأسباب التالية:

1- أن الإدارة الأميركية تعلم يقيناً أن شروطها تعجيزية ويستحيل على «حماس» قبولها لأنها تعني انتحارها سياسيّاً، فضلا عن أن الرضوخ لها، إن حدث، لا يضمن بالضرورة التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة تستجيب للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المشروعة.

2- أن رفض الإدارة الأميركية التعامل مع «حماس» بلا شروط مسبقة، ورفضها التعامل في الوقت نفسه مع حكومة وحدة وطنية تضم عناصر من «حماس»، يغلق الطريق تماماً أمام إمكانية تحقيق المصالحة الفلسطينية، حيث ستصبح حينئذ بلا جدوى أو هدف، مما سيعيد الكرة من جديد إلى المربع الأول ويكرّس وضع الانقسام الراهن، وهو وضع لا يسمح مطلقاً بتحقيق أي تقدم على طريق التسوية.

3- سيكون من الصعب على حكومة أبو مازن أن تتفاوض وحدها على تسوية مع إسرائيل، وإن استطاعت التفاوض أو حتى التوصل إلى تسوية، فسيكون من الصعب عليها تمريرها دستوريّاً أو ضمان التأييد الشعبي لها. كما سيكون من الصعب عليها أيضاً توفير الظروف الملائمة لإعمار قطاع غزة وإعادة بناء ما دمّرته الحرب، وهو شرط ضروري للتقدم على طريق التسوية.

4- من شأن استمرار هذا الموقف الأميركي المتشدد دفع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، وهي حكومة متطرفة بطبيعتها، الى تبني مواقف أكثر تشدداً وربما إغراؤها بشن حرب جديدة على غزة لاستئصال «حماس»، وهو ما قد يشعل النار من جديد في المنطقة كلها. وحتى إذا نجحت إسرائيل في استئصال «حماس» عسكرياً، وهو أمر مشكوك فيه تماما، فلن يمهد ذلك بالضرورة لتسوية قابلة للتمرير فلسطينيّاً.

إن طلب الاعتراف بدولة عضو في الأمم المتحدة من جانب حركة تحرر وطني يبدو لي أمراً غير مبرر قانوناً ولا يستقيم عقلانيّاً وأخلاقيّاً. فعلى الصعيد القانوني من المعروف أن الاعتراف المتبادل يكون بين دول، وليس بين فاعلين غير دوليين كحركات التحرر الوطني أو منظمات دولية غير حكومية. أما على الصعيد العقلاني والأخلاقي فليس من المنطقي مطالبة حركة تحرر وطني أن تلقي سلاحها وتعترف بعدوّها مقابل اعتمادها كطرف مؤهل للتفاوض مع الخصم ومن دون أي ضمانات بوصول المفاوضات إلى غايتها المنشودة.

يزيد الأمر تعقيداً، حتى على المستويين القانوني والأخلاقي وليس العملي فقط، أن إسرائيل دولة مختلفة عن كل الدول الأخرى. فهي دولة بلا حدود جغرافية معروفة، وتربطها بيهود العالم علاقة ملتبسة لها تأثيرها السلبي على الصراع الدائر في فلسطين، وتريد أن تكون دولة لليهود وحدهم مما يشكل تهديداً مباشراً للفلسطينيين الذين لم يتحولوا بعد إلى لاجئين!. وعندما يطلب من «حماس»، في سياق كهذا، أن تعترف بدولة كهذه فهل يعني ذلك أن المطلوب منها أن تعترف بحق إسرائيل في الاحتفاظ بالأراضي التي تحتلها الآن أو بجزء منها، أو بحقها في الاحتفاظ بالمستوطنات التي أقامتها في هذه الاراضي، أو بحقها في القدس الموحدة عاصمة لها، أو بحقها في توطين يهود العالم على أرضها؟ وماذا عن الحقوق الفلسطينية بعد اعتراف «حماس» بإسرائيل؟ من يضمن لـ «حماس» أنها إذا اعترفت بإسرائيل فستنسحب من كل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حزيران (يونيو) 67 بما فيها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين إلى ديارهم التي طردوا منها بالقوة، وتفكيك «المستعمرات» التي بنيت فوق أراضيها بالقوة ومن دون وجه حق. أظن أنه من الطبيعي والمنطقي والأخلافي أن يتم الاعتراف بعد الاتفاق على شكل ومضمون التسوية وليس قبل ذلك.

السؤال الحقيقي الذي ربما يتعين على الولايات المتحدة طرحه في هذه المرحلة يمكن أن يدور حول ما إذا كانت «حماس» مستعدة، كجزء من حكومة الوحدة الوطنية، لتفويض هذه الحكومة بالتفاوض مع إسرائيل من دون شروط مسبقة. فإذا كان الجواب بنعم يصبح واجباً على الولايات المتحدة دعوة الأطراف المعنية كافة على الفور إلى مفاوضات تجري تحت رعايتها وتتواصل من دون انقطاع إلى أن يتم التوصل إلى تسوية مقبولة من الجميع، بما فيهم «حماس»، أو قابلة على الأقل للطرح في استفتاء عام على الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. بعد ذلك، وليس قبله، يمكن للولايات المتحدة أن تطلب من كل الأطراف ما تراه ضرورياً لتحصين التسوية التي تم التوصل إليها ولضمان تنفيذها على الأرض. أما الشروط التي تسعى الولايات المتحدة لفرضها الآن على «حماس» لمجرد القبول بالتعامل، فتعكس موقفاً أقل ما يقال فيه إنه يجمع بين الصلف والجهل معاً، ويعد وصفة للفشل الذريع وخطوة في الاتجاه المعاكس. إنها شروط كفيلة بإسقاط عملية التسوية قبل أن تنطلق وتبدأ في التحليق!
"الحياة"

التعليقات