31/10/2010 - 11:02

الصراع على المنطقة العربية../ د.عبد الإله بلقزيز

الصراع على المنطقة العربية../ د.عبد الإله بلقزيز
اصطدم العرب بمشروع أمريكي زاحف الى منطقتهم منذ زمن بعيد: منذ “حلف بغداد” قبل ستين عاماً. كانت الولايات المتحدة الأمريكية تجرب حينها أن ترث الأملاك الامبراطورية البريطانية والفرنسية في المنطقة العربية في جملة سعي عام لديها في تحصيل نتائج انتصارها الحاسم في الحرب العالمية الثانية وراثة عالمية لنفوذ الامبراطوريتين الهرمتين، ولقد كانت حرب السويس (1956) محطة مفصلية في ذلك المسعى الى إزاحة النفوذ الاستعماري التقليدي ووراثته، وهو ما يفسر موقف إيزنهاور من الحرب على مصر.

ولم يكن خافياً أن أساساً مكيناً من أساسات ذلك المشروع الأمريكي في قلب الوطن العربي كان التحالف العضوي مع الكيان الصهيوني وإيكال وظائف استراتيجية له في المنطقة وتنزيله منزلة الوكيل الاقليمي الحصري للمصالح الأمريكية فيها. الأمر الذي عنى أن هذا المشروع بدأ بداية عدائية ضد العرب حتى وهو يوحي لبعضهم أنه مع مطالبهم ضد بريطانيا، أو أنه يدخر لهم إمكانية للدفاع عن أنفسهم وثرواتهم المكتشفة حديثاً ضد “الخطر الشيوعي”: على نحو ما أوحى به قيام “الحلف الإسلامي”.

المشروع الأمريكي، الذي بدأ مع ترومان وإيزنهاور، ما زال هو المشروع الأمريكي الجاثم على صدر منطقتنا اليوم، ولكن بمقدار من العدوانية وكثافة الضغط أعلى بكثير مما كان عليه قبل ستين عاماً. تضيق مساحة الفروق بين لحظتيه الابتدائية (الخمسينات) والراهنة اليوم إن نظرنا الى ثوابته الاستراتيجية التي لم يكد يتغير منها شيء إلا قليلاً، لكنها تتسع كلما وضعنا في الميزان قدرته الإنجازية بين عهدين منه، أو قدرة العرب على معطيات اندفاعته المتصاعدة في عقر ديارهم. حصل في لحظات أن تناسباً ما وُجد بين فعل المشروع الأمريكي الهجومي وبين رد الفعل (العربي) عليه، وكان من نتائج ذلك التناسب في القوة أن فرض على المشروع ذاك بعض الانكفاء التكتيكي الاضطراري، غير أن ذلك كان في باب النادر من الواقعات: والنادر لا حكم له، أما الثابت المتكرر، فكان عُسر كبحِهِ أو الردّ عليه بما يحدُّ من غلوائه. ومع الزمن، تضاءلت القدرة على الرد الى عتبة الشلل.

إن شئنا التمثيل وبيان الواقعات التي تنجلي بها مساحة الفروق بين اللحظتين، كفانا من الأمر الاستدلال بواقعتين تلقيان ضوء التمييز الكاشف بين أوجه الشبه بينهما (بين اللحظتين) وبين أوجه الفرق: ترد الأولى الى الدينامية الداخلية التي تحرك بها المشروع (الأمريكي) في المنطقة، بينما تشير الثانية الى تفاعلاته الخارجية مع المحيط الذي كان يخترقه ويمارس فيه فاعلية إعادة التشكيل.

ليست الواقعة الأولى، التي تتبين فيها وبها عناصر الاستمرارية في المشروع (الأمريكي) وتشابه حلقاته في السابق والراهن، سوى تعبيره عن نفسه من خلال فكرة “الشرق الأوسط”. أطل في الماضي (على منطقتنا) تحت عنوان الحاجة الحيوية الى إقامة نظام شرق أوسطي، ولم يكن “حلف بغداد” غير صيغة سياسية اقليمية له قبل أن تسدد له الثورة العراقية والوحدة المصرية السورية والثورة على نظام كميل شمعون ضربة له. وهو اليوم يطل تحت العنوان نفسه، مرة باسم “الشرق الأوسط الأوسع” وأخرى باسم “الشرق الأوسط الجديد”. وإذا لم يكن ينفع قيامُهُ “أوسعاً” بمصاحبة فكرة “الإصلاح” و”نشر الديمقراطية” له مصاحبة تلازمية (تبين لمهندسيه أنها هددت حلفاءهم في المنطقة وخاصة بعد انتصار المقاومة في لبنان)، فقد ينفع قيامه “جديداً” من طريق إسقاط “الإصلاح” و”الديمقراطية” وتنفيس الضغط عن الحلفاء وإعادة وصل العلاقة بهم عبر صيغة “حلف المعتدلين”. وفي الحالين، في الخمسينات واليوم، تطلعت فكرة “الشرق الأوسط” الأمريكية الى إسقاط فكرة الوطن العربي وتزوير ماهيته القومية والتاريخية بإعادة تعريفه جغرافياً قصد استدماج الكيان الصهيوني فيه، وتمزيق رابطته الداخلية واصطناع رابطة جديدة عليها يقوم نظام اقليمي جديد تكون فيه “إسرائيل” مركزاً والبلاد العربية هوامش وأهدافاً وملحقات مشدودة بخيوط التبعية الى ذلك المركز! تلك واقعة تشهد بوجود عناصر الشبه والاستمرارية في المشروع المذكور.

أما الواقعة الثانية، التي تستبين بها الفواصل والتباينات بين ما كانته ممكنات المشروع الأمريكي حين ابتدائه وبين ما صار عليه أمرها اليوم من اتساع مدى وعظيم فرص، فهي حضور مشروع عربي مضاد (للمشروع الأمريكي) في ذلك الإبان وغيابه بل انعدامه في هذا الزمان! ولا يخفى على لبيب أن الأمر، في ذينك الحضور والغياب، ليس تفصيلاً في باب اليوميات السياسية العادية، وإنما هو بيت القصيد في الموضوع كما يُقال. حين كان للعرب مشروع قومي، كانوا يستطيعون الكثير: المواجهة، الممانعة، الإرباك، الإزعاج، إفساد الحسابات، فرض احترام مصالحهم وحقوقهم، إجبار العدو على مراجعة خططه ومخططاته، بل والانكفاء الاضطراري أحياناً. ولقد فعلوا ذلك وأفلحوا حينما كان في مُكنهم أن يفعلوا. أما حين لم يعد في حوزتهم مثل ذلك المشروع، فأدمنوا على البكاء والعويل السياسيين، وبعضهم صمت وارتضى المذلة، فيما اختار بعض آخر أن يقدم السخرة السياسية للمشروع المعادي وما خفي أعظم! ولولا بعض ممانعة مشرفة نهضت بها المقاومات العربية الثلاث وسترت عوْرة الأمة، لكانت الحال أشد قتامة وأدعى لقراءة الفاتحة على المصير العربي!

لا مشروع للعرب اليوم. وكان يصح ان يُقال هذا منذ ثلث قرن ويزيد. لكنه يصح اليوم أكثر: منذ احتلال العراق واحتلال الإرادة الجماعية. مشروعان فقط يتمتعان بالوجود في منطقتنا ويفرضان نفسيهما على العرب وعلى مصائرهم في هذه الأيام الحوالك هما: المشروع الأمريكي والمشروع الإسلامي (على تفاوت بينهما في قوة التأثير)، وهما معاً يؤسسان ثنائية جديدة في السياسة العربية، بل في الوعي السياسي العربي. إنهما كذلك (مشروعان) بمعنيين: بمعنى خارجي وبمعنى داخلي.

بالمعنى الخارجي تبدو الثنائية تلك في صورة انقسام عربي جديد على وحيال المشروعين السياسيين الكبيرين المتصارعين في المنطقة وعليها: المشروع الأمريكي، والمشروع الإيراني. يبدو الانحياز العربي الرسمي الى المشروع الإيراني محدوداً جداً واضطرارياً (لأن المنحازين اليه رسمياً على قلتهم من المنتمين تقليدياً الى فكرة المشروع القومي العربي). غير أن الانحياز الرسمي الى المشروع الأمريكي وعلى كثرة من هم في جملة قواه من الأنظمة يعاني كثيراً من النقص الفادح في الدفاع عن نفسه أمام جمهور شعبي تتماهى في مخياله الجمعي العلاقة أية علاقة بين الولايات المتحدة وبين الكيان الصهيوني. وليس معنى ذلك أن الانحياز الى المشروع الإيراني يحظى بالقبول الشعبي (خاصة مع تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية على السياسة المذهبية والتقسيمية الإيرانية في العراق)، لكنه قابل لتبرير نفسه براغماتياً (موقف إيران من القضية الفلسطينية ومن المقاومة في لبنان ومن ممانعة سورية في وجه السياستين الأمريكية والصهيونية). غير أنه في الحالين معاً، ينطوي التقاطب الداخلي العربي حيال المشروعين (الأمريكي والإيراني) على عجز فاضح مستبد بالسياسة العربية وفراغ استراتيجي خطير يهدد وجود النظام العربي برمته، وخاصة في حال حصل الصدام العسكري بين المشروعين في منطقتنا.

أما بالمعنى الداخلي، فتحولت السياسة والحياة السياسية العربية الداخلية الى مساحة احتباس في الخيارات بين مشهدين: بين نجاح المشروع الأمريكي في إنجاز جراحة سياسية لكياناتنا العربية تنجم عنها هندسة سياسية جديدة لهذه الكيانات على قاعدة رؤية أو منظور “الشرق الأوسط” (الأمريكي) وفي نطاق أطرها الاقليمية، وبين نجاح المشروع الإسلامي ممثلاً في “الحركات الأصولية” في السيطرة على الدولة والمجتمع وإعادة تشكيلهما. وكل من المشروعين يجيش جمهوره بالتخويف من (المشروع) الآخر، فيما غالبية العرب فاغرة الأفواه ليست تدري أي مركب تركب، ولا أي مصير ينتظرها في ظل هذا الخيار أو ذاك. ومثلما تعجز السياسة العربية في الخارج عن اجتراح مشروع عربي مستقل، كذلك تعجز في الداخل عن إنتاج مشروع ديمقراطي داخلي يقيها من السقوط في خيارين سياسيين يدعونا أحدهما الى فقدان الوطن، ويدعونا ثانيهما الى فقدان النظام المدني.

هذه أيضاً، وبهذا المعنى، لم تعُد محض ثنائية سياسية مثل سابقات لها، أصبحت مفارقة.
"الخليج"

التعليقات