31/10/2010 - 11:02

العمى../ د.إلياس عطا الله

العمى../ د.إلياس عطا الله
لم ير أصحاب الشأن في السلطة الإسرائيلية، ولا في شركة إيجد المجنّدة، بل ما شاؤوا أن يروا، ضرورة في حشد رجال أمن للتأكد من سلامة " الرعايا" العرب في الحافلات الإسرائيلية، ولم يثر شكوكهم ولم يقضَّ مضاجعهم يهوديّ إرهابيّ فارّ من خدمة عسكرها إلى إحدى حظائر احتلالها، يحمل رشّاشا ويعلو حافلة نحو شفاعمرو العربيّة... وما الحاجة لهذا والإرهاب منتج عربيّ أو إسلاميّ؟ والشابّ يهوديّ تنشّأ على الخلق القويم، ورضع الوصايا العشر، وترعرع على التعددية بما فيها من تسامح وقبول للآخر... وأكثرَ من النّوَدان عند المبكى، وخبّأ في عبّ حجارته دعاء أو أمنية تحمل المنيّة، وربّه غفور رحيم.

وما رأت حكومات الجنرالات، بل ما شاءت أن ترى، أنّ هذا الجيل من المأفونين ما زال يمتصّ الحقد من ثُدِيّ بؤر الإرهاب في مستوطناتها، ويمارسه تدريبا في مؤسسة احتلالها، معززا بتصريحات وترخيصات سائبتها من الواقفين على منبر برلمانها، أو المتسربلين بسواد سريرتهم وشقرة لحاهم من مصدري الفتاوى التصفويّة ومستمطري اللعنات على الآخر.

لم ير أصحاب الحلّ والربط، بل ما شاؤوا أن يروا، ما يفحّ به بعض الأكاديميين من أساتذة الحقد الفاشيّ في بعض جامعاتهم، من تحريض سافل سافِرٍ على العرب والإسلام، يسمّم سماء الكرمل، وينضاف مَوْبَأةً رابعة إلى مصافي البترول والمصانع البتروكيماويّة بسمومهما القاتلة، ومقالع نيشر بغبارها الخانق، تحريض يهدر دم الآخر ويرخّص بقتله.

لم تر حكومة شارون- العمل، بل ما شاءت أن ترى شيئا من هذا، فالشاب فيه لَوْثَةٌ، وستثبت الوثائق ذالك لو بقي حيّا، ولعلّ أهمّ ما دفعه إلى ارتكاب المجزرة إيمانه اليقينيّ بأنّه سيعتقل، وسيسجن، ثمّ، من باب حسن السيرة، سيطلق سراحه، وأنّه، في أسوإ أو أحسن الحالات عنده، سيدخل تاريخ الباتريوتيّة المسجّلة ماركةً إسرائيليّة من أوسع أبوابها، وسيصير قبره مزارا للقتَلَة يُحجّ إليه، وتوضع عنده أكاليل الزهور المرويّة بدم شهداء شفاعمرو ومن سبقهم ممّن روّوا بدماهم ثرى الوطن.

ولم تر أذرع الأمن بشرطتها، بل ما شاءت أن ترى، خطرا يستحقّ رفّة عين في شكوى والدة السفّاح الفراريّ بأنّ ابنها مزمع على شيء خطير، وبأنّه سيمارس الجنون... وتغيب بقدرة قادر كلّ أذرع الأمن الأخطبوطيّة العابرة للحدود والقارّات، وكلّ الأسلحة الذكيّة، أو تخرج في إجازة طوعيّة، أو تدخل في حالة من الغيبوبة، لا يعرف غايتها إلا القائمون عليها... ونحن؛ الرعايا الذين لا فرق، عند الحكّام الرعيان، بين سريان دمانا في عروقنا أو انسفاحها على طرقات مدننا وقرانا.

يظلّ الإرهابيون بالغريزة من أمثالنا أكثر إنسانيّة من متحضّريهم، الذين يمارسون التقتيل والتفجير والقنص والتصفية والهدم والحجز والتجريف منذ عقود... لن نتحدّث عن الإرهاب واليهوديّة كما يتحدّثون عن الإرهاب والإسلام... فأخلاقنا وقيمنا تختزل كلّ ما في الإنسانيّة من إنسانيّة، ثمّ، من ذا الذي يجرؤ أصلا على التفكير بهذا؟ حتى سَدَنَةُ الحريّات وحماة الديموقراطيّات في العالم المتنوّر يرون في المجزرة أمرا مؤسفا يستحقّ الإدانة فحسب، وتغيب عند هذه الحالة؛ العربيّة الفلسطينيّة الذّبيحة، الحاجةُ لعقابٍ أو استئصالِ الإرهابِ ورُعاتِهِ وقواعده وبُؤَرِهِ وداعميه، فالقاتل يهوديّ، وهو مواطن إسرائيليّ، وإسرائيل دولة تحارب الإرهاب، فكيف يحارَبُ من يحارب الإرهاب؟ وكيف يجوز الخوض في هذا وتهمة اللاساميّة معدَّةٌ لِتَسْتَمْنِيَها صحافة العالم المتنوّر، ولتقذفها على كلّ من مسّ مملكة ربّ الأرباب أو أيّا من سائمتها؟

التعدّديّة الإسرائيليّة كالتعدّديّة الأمريكيّة... كلتاهما فِريةٌ تلبس لبوس الحضارة، وكلتاهما تتمحوران في أسروأمريكيّة متفرّدةٍ كما الديّان، ولْتَذهبِ التعدّديّةُ إلى حيثُ ألقتْ... أمّا الآخَرُ فمقبولٌ ميتا أو تابعا أو خانعا.

رأينا نحن... أما أولئك المصابون بعمى البصيرة والأخلاق ممّن ما شاؤوا أن يروا، فيحملون جميعا وِزْرَ الجريمة في شفاعمرو، ومِن رؤوسهم وعيونهم وأصابعهم وأقلامهم يتقطّر دمّ الشهداء، فالرصاص الذي انطلق من فوهة بندقيّة القاتل، هو ترجمة دمويّة للفكر الذي انطلق من أفواههم في منابر فحيحهم.

و" تسيلُ على حدّ الظّباتِ نفوسُنا..."، كتبها يهوديّ في جاهليّتنا، وتغنيّنا بها، وبها زركشنا كتب بلاغتنا... وها نحن نعيش جاهليّة جديدة، و"تسيل نفوسنا" بكِتبة يهوديّ آخر لا يعرف العربيّة، ولا يحترف إلاّ قتل أهلها أو التحريض على قتلهم... أمّا البلاغة فلها أن تبحث عن فنّ آخر تواكب فيه الحداثة الرافضة للآخر، أو أن تمارس الثرثرة، نائِدَةً أمام حيطانٍ للبكاء... وما من سميع ولا شفيع... فربُّ الْجُندِ أيضا لا يشاء أن يرى.

التعليقات