31/10/2010 - 11:02

انصرام حقبة.. ارتفاع غمة/ عبد الاله بلقزيز

-

انصرام حقبة.. ارتفاع غمة/ عبد الاله بلقزيز
سيكون العالم بعد الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2008 أفضل مما كان قبل الرابع من نوفمبر، سيكون كذلك كائناً ما كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية المقبل، حتى وإن نجح جون ماكين في الانتخابات - لا قدر الله - لن تكون السلطة في أمريكا أسوأ ولا أبشع ولا أكثر توحشاً مما كانته في عهد رئيسها الراحل عن البيت الأبيض، غمة سترتفع عن صدر البشرية وكابوس مزعج سينتهي بعد ثماني سنوات عجاف من السياسة، إن كان في الأمر ابتلاء رباني وامتحان من السماء للبشر، فلقد وقع على الإنسان في الأرض، منذ بدء الخليقة، أقسى امتحان لقدرته على تحمل الظلم والضيم والعجرفة والتغطرس منذ الرابع من نوفمبر 2000 وحتى الرابع من نوفمبر ،2008 وإن كان الابتلاء من فعل بشر في الأرض، فبئس البشر هم هؤلاء “البشر” الذين حولوا الأرض إلى جحيم وجهنم قبل موعدهما.

صغرت الأحلام في هذا العالم إلى حد رمزي بالغ التواضع والتفاهة، أن يخرج رئيس أمريكا من السلطة ومن ذاكرتنا ويومياتنا، هذا وحده حلم عظيم يستحق الفرح لحظة حصوله، على تفاهته، أن يطوي العالم هذه الصفحة السوداء من تاريخ الانسانية، وأن يتحرر الأمريكيون ممن أذل صورتهم ومرغ هيبتهم، في العالم، وحده يكفي كي يصبح الاحتفال حقاً مشروعاً في كل بيت في أمريكا وفي الكرة الأرضية، بشرى للبشرية بهذا اليوم الذي يجلله خبر رحيل طاغية أفسد في الأرض، وبشرى لأهل أمريكا بتحرر نظامهم السياسي من شرذمة أهانت كرامة دولتهم في العالم وحولت البلد الذي صاغ أرقى دستور في التاريخ إلى المثال الصارخ للبلد المنتهك لكل عقيدة وشريعة وقيمة وقانون.

من حسن حظ الأمريكيين، ومن حسن حظ العالم كله، أن النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية يبدّل الرؤساء كما يبدل المرء ثيابه، ماذا لو كان يشبه النظام العربي؟ يمسك المرء أنفاسه عند هذا السؤال الافتراضي.

لكن عبقرية السياسة في أمريكا والغرب عموماً، أي ملكة التغيير والتصحيح فيها وبطلها الشعب: مصدر السيادة وصاحب السلطة - إذ تدلنا على سلطان الناس والمؤسسات على حكامهم وعلى حاكمية الإرادة العامة في تنظيم شؤون الاجتماع السياسي في الديمقراطيات العريقة والمتقدمة، فهي لا تجيبنا عن أسئلة تؤرق أذهان جميع من ينتظرون من النظام الديمقراطي أن يترشد أكثر، ويحمي حرمته الأخلاقية أكثر، ويحصن نفسه مما يدفعه إلى اقتراف أخطاء اكثر، أي من أن يأتي من إجراءات الحماية الذاتية لسمعته ما يجعل حجيته وصدقيته في وجدان الناس أعلى وأكبر، وأول هذه الأسئلة التي لا يجيبنا عنها هو: كيف للنظام الديمقراطي أن يسمح بصعود كائنات سياسية تنقض على قيمه وتهدم أساساته وتقدم عنه أسوأ صورة ممكنة يحتاج إليها خصوم الديمقراطية كي يقدموا الحجة عليها منها؟

في حالة الولايات المتحدة، يمكن طرح السؤال على النحو التالي: كيف سمح نظامها السياسي بأن يأتي برئيس لا يشبه أحداً من الرؤساء الأربعين الذين سبقوه على عرش أمريكا بمن فيهم رونالد ريغان الذي ما صدق أحد في العالم كيف أصبح رئيساً في العام 1980؟ ثم كيف أمكن بوش أن يأتي رئيساً لأمريكا بعد واحد من أنجح وأكفأ وأرقى رؤسائها منذ مائتي عام هو بيل كلينتون؟

قد يقال جواباً عن السؤال: الحق على “الحزب الجمهوري” الذي اختاره مرشحاً باسمه وانتخبه في الانتخابات التمهيدية الحزبية، وهذا صحيح تماماً، وهو عين ما حصل مع ريغان.

ولكن، ماذا عن ملايين الأمريكيين غير الجمهوريين الذين صوَّتوا له ضد منافسه الديمقراطي آل غور، الذي شارك كلنتون - من موقعه كنائب للرئيس - في صناعة أزهى فترة اقتصادية واجتماعية في تاريخ أمريكا كله؟ ألم يكن خطأ قاتلاً أن يقترع الناخبون الأمريكيون لمرشح لم يكن يعرف ما إذا كانت حركة “طالبان” نادياً رياضياً أم فرقة موسيقية (!!!) ولا تاريخ له غير أنه ابن الرئيس الأسبق؟

هامش الخطأ في التقدير موجود ومفهوم من دون شك لا يمكننا ان نحاسب الناخبين الأمريكيين على انتخابهم مرشحاً للرئاسة لم يكونوا يعرفونه حين انتخبوه في خريف العام ،2000 ولكن، ماذا بعد أن عرفوه وخبروه وتأكدوا من النتائج الكارثية لسياسته؟ لماذا اقترعوا لصالحه في العام 2004 لولاية ثانية ضد منافسه الديمقراطي جون كيري؟ وقد يوجد من يقول إن الناخب الأمريكي كان ما يزال حينها واقعاً تحت صدمة واقعة 11 سبتمبر/ايلول 2001 والخوف المزمن من أن تتكرر من جديد مقروناً باعتقاد جماعي بأن بوش هو الرجل القوي الحازم في مواجهة “الارهاب”. ولكن، ماذا عن محنة أمريكا وجنودها واقتصادها في العراق وأفغانستان التي أخذها بوش إليها، ألم تكن فرصة إنهاء تلك المحنة قد توفرت بوجود مرشح آخر من قبيل جون كيري؟ وماذا عن محنة الحريات العامة التي تعرضت في عهد بوش لكارثة فاقت في الحدة ما تعرضت له في العهد المكارثي؟ وماذا عن التدهور الاقتصادي والمعيشي وانهيار قيمة الدولار وزيادة الضرائب على الطبقات الوسطى التي فرضتها سياسات بوش الاقتصادية، أما كانت تستحق معاقبته بانتخاب كيري الأكثر دفاعاً عن الحريات وعن خفض الضرائب وحماية حقوق الطبقة الوسطى؟

كان على الأمريكيين أن يقضوا كل هذه السنوات الثماني العجاف بكوارثها المتلاحقة كي يعبروا في استطلاعات الرأي عن برمهم بهذا الرئيس الذي وصلت “شعبيته” - في سنوات عهده الأخيرة - إلى أدنى مستوى بلغته شعبية رئيس في تاريخ أمريكا. كان عليهم أن يعيشوا في عصره بؤساً سياسياً واقتصادياً لا سابق له في تاريخهم ولا تستطيع الوحشية العسكرية أن تستر عورته. وهاهم اليوم يتذكرون أن أعظم المصائب لحقت بهم في عهده: من هجمات سبتمبر/أيلول وضحاياها، إلى قتل وجرح عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين في العراق وأفغانستان، إلى الإفلاس الاقتصادي والانهيار المالي، إلى تخريب علاقات أمريكا بالعالم كله، إلى إفقادها الصدقية عند الشعوب كافة، إلى خسارتها النفوذ في أمريكا اللاتينية وصعود قوى اليسار في جنوب القارة، إلى هزيمتها مع “إسرائيل” في حرب لبنان صيف العام ،2006 الى تحدي روسيا علناً لها، إلى إهانة إيران وسوريا لهيبتها.. الخ.

ثمة إذن عطب في النظام الديمقراطي اسمه سوء التقدير عند الناخب، وهو أعظم في حالة أمريكا مقارنة بالغرب كله، حيث القيمة ليست للمرشح الرئاسي وأهليته وكفاءته وإنما للمؤسسة السياسية، وقد حان الوقت كي يتوقف الأمريكيون عن الانسياق وراء البروباغوندا الحزبية التي تسوّق لهم أي رئيس وخصوصاً حينما تكون ثقافته السياسية محدودة أو سطحية.


"الخليج"

التعليقات