31/10/2010 - 11:02

تقسيم العراق سينتشر في المنطقة../ د.عبد الإله بلقزيز

تقسيم العراق سينتشر في المنطقة../ د.عبد الإله بلقزيز
فضح مجلس الشيوخ الأمريكي ما جهدت إدارة بوش طويلاً لإخفائه منذ قررت غزو العراق ومحو دولته قبل أربعة أعوام من اليوم. لا قيمة بعد الآن لأي كلام استدراكي من قبيل عدم إلزامية القرار لإدارة بوش (وكأن المسألة هنا!)، لأن مثل هذا الكلام ليس يعني غير تبييض صفحة الرئيس الذي قاد الغزو والاحتلال والاعتصام بحبله لمنع شيوخه في الكونجرس من التقسيم! ومن أدرانا إن كان هناك من سيدعونا الى التحالف مع بوش ضد مجلس الشيوخ وإلى الرهان على اختصاصاته الدستورية كحبل نجاة من قرارهم المشؤوم! ليس الوقت وقت ارتجال سخافات ممجوجة من هذا النوع. لقد ضاق كثيراً ولم يعد يتسع سوى لإبداء الغضب في وجه هذا الاستهتار بوحدة وطن وشعب وأمن واستقرار منطقة ابتليت بأشد أنواع الوباء الكولونيالي فتكاً بالمجتمعات والأمم: الوباء الكولونيالي الأمريكي.

لا يخدعن أحد نفسه بالقول إن التقسيم أمر مستبعد أو إنه ورقة من أوراق السجال الداخلي الأمريكي بين الديمقراطيين والجمهوريين، بين الكونجرس والبيت الأبيض. فالذين يقفون وراء القرار من الفريقين معاً، والبيت الأبيض ما كان بعيداً يوماً عن فكرة تقسيم العراق منذ ما قبل الغزو حين كان بعض أركان المحافظين الجدد يتناوبون على التصريح بإعادة تشكيل “العراق الجديد” بعد الغزو، وحين كانت مراكز الأبحاث والدراسات المرتبطة بالمؤسسة (بالبنتاغون والمخابرات المركزية والخارجية) تزخ عشرات التصورات المستقبلية لعراق ما بعد صدام حسين تدور جميعها حول سيناريو التقسيم.

ثم ماذا نسمي الفيدرالية والأقاليم ودستور بول بريمر المعتمد اليوم في العراق المحتل غير أنه النواة التأسيسية لبرنامج التقسيم؟! بل ماذا كان يعني إسقاط الدولة العراقية وحل جيشها ومؤسساتها غير تجريد الوطن العراقي مما كان يمثل لديه الكيان السياسي الجامع، وقذف أبنائه الى جحيم الطائفية والعشائرية والمذهبية، وإطلاق بناه العصبوية من كل عقال قصد إيصال العلاقات الداخلية الى حال قصوى من التعفن تسهل معها الجراحة الكولونيالية التقسيمية؟!

كان كل شيء معداً منذ البداية كي تنتهي الأوضاع الى ما أرادته الهندسة السياسية الكولونيالية لمصير العراق. ومن يخطئ قراءة هذه الحقيقة من أبناء المنطقة، سيدفع هو نفسه الثمن غداً من وحدة وطنه وشعبه، لأن الذين قادوا الغزوة الكولونيالية ضد العراق، أتوا محمولين في ركاب حلم بتقسيم سائر دول المنطقة لا العراق حصراً.

ولمن لا يصدق، فليعد الى الخرائط المقترحة من “باحثين” ومراكز دراسات استراتيجية على صناع القرار الأمريكي، وليتأمل فيها مشهد التشظي الكياني الذي رسموه لبلدانها الكبرى (السعودية، مصر، إيران، سوريا)، وعليه أن يتأكد أن التقسيم مشروع جدي (مثلما كان تقسيم فلسطين كذلك وتعامل معه العرب بخفة واستهتار، وليس مزحة ولا تهويلاً ولا مزايدة سياسية داخل أمريكا. وعندها فقط سيكون واضحاً للجميع ما الذي عليه أن يفعله حتى يُسقط مشروع التقسيم في العراق والوطن العربي وجواره الإسلامي.

لم يقل قرار مجلس الشيوخ شيئاً خارج مزاج الإدارة الأمريكية. هو بالأحرى أفصح عما تتكتم عليه ولكن تفعله بصمت حتى وإن كان صمتاً ناطقاً تُظهرنا عليه مجريات الأمور وتوجهات السياسة الأمريكية في العراق. والحق أن من يراقب تلك السياسة حتى خارج العراق، يلحظ أنها تعتمد المقاربة التقسيمية نفسها وإن من دون الحاجة الى إعمال أدواتها العسكرية قصد تنفيذها. إن أي مصر من أمصار العرب حلت فيه السياسة الأمريكية أصابه تقسيم سياسي أو جغرافي أو هما معاً. راقبوا حالات التقسيم في فلسطين ولبنان والسودان والصومال. تلك هدية الإدارة الأمريكية الى شعوبنا ولسان حالها: قسموا أنفسكم بأنفسكم، وإن عجزتم أو ترددتم فنحن جاهزون.

التريث والانتظار لن ينفعانا في شيء. ثم ماذا ننتظر؟

أن يتحول قرار مجلس الشيوخ الى سياسة رسمية فقرار رئاسي. والصمت على هذه الجريمة في حق وحدة العراق مشاركة فيها، بل مساهمة في تعبيد طريقها نحو إسقاط وحدة كياناتنا العربية واحدة واحدة. ماذا تفعل جامعة الدول العربية إن لم تنشغل بهذه المسألة على مدار اليوم؟ ما قيمة مؤسسة القمة العربية إن لم تنعقد القمة في هذه الظروف؟ ما نفع الدبلوماسية العربية إن لم تتحرك دفاعاً عن أوطانها؟ ما قيمة الموارد العربية إن لم تجند لإرسال خطاب حازم الى من يهمه الأمر ممن يتربصون بكياناتنا شراً؟ وماذا وماذا...؟

حتى الآن، لا شيء في المواقف العربية من النازلة يبعث على الاطمئنان أو على ما يشبه الاطمئنان. لم ترسل دولة ولا برلمان فيها مذكرة احتجاج رسمية على هذا التجاوز السافر للأصول والقوانين والأعراف. لم يقل أحد لشيوخ الكونجرس إنه يحق لهم أن يشرعوا لتقسيم الولايات المتحدة الأمريكية إذا شاءوا ذلك أو ارتأوه مما فيه مصلحة قومية لها، فذلك في صميم حقوقهم وسلطاتهم الدستورية، لكنهم لا يملكون حق التصرف في كيان العراق الذي تعود ملكيته ومصيره الى شعبه.

لم يبعث أحد برسالة احتجاج الى الأمم المتحدة على هذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي في قرار مجلس الشيوخ. هل هذا كثير على العرب؟ فهمنا أنهم لا يملكون الشجاعة لدعم المقاومة العراقية (كما دعموا المقاومة الافغانية ضد السوفييت والمقاومة البوسنية ضد الصرب والمقاومة الشيشانية ضد الروس)، أو للانضمام الى الحملة الدولية للمطالبة بانسحاب القوات المحتلة من العراق (مثلما طالبوا العراق بالانسحاب من الكويت وشاركوا عسكرياً في إخراجه منها).

وفهمنا أنهم يسخرون ممن يطالبهم بتفعيل اتفاقية الدفاع المشترك أو حتى بدعوة وزراء “دفاعهم” الى الاجتماع للبحث في أوضاع الأمن القومي. ثم فهمنا أنهم ينفعلون ويستاؤون جداً ممن يوحى اليهم بأن أرصدتهم سلاح قابل للاستخدام في مثل هذه الأحوال. وفهمنا كثيراً مما يشبه هذا وعنه يعجزون. لكنا لسنا نفهم كيف لا يملكون حتى القدرة على الاحتجاج الدبلوماسي المهذب.

ولكن، هل يكفي احتجاجهم إن احتجوا كي يرد غائلة التطاول على مصائر أوطانهم؟ قطعاً لن يكفي. لكن أحداً في العالم، من روس أو صينيين أو أوروبيين، لن يحفل بمصير العراق ولا بمصير أي بلد عربي إن ركن العرب الى الصمت. وقد تجد من يعتقد أنهم بصمتهم موافقون. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
"الخليج"

التعليقات