31/10/2010 - 11:02

حوار من فوق لتفادي انفجار من تحت../ عصام نعمان*

حوار من فوق لتفادي انفجار من تحت../ عصام نعمان*
اللبنانيون، لاسيما الزعماء والمتزعمين في صفوفهم، مدمنون على التناحر إدمانهم على التحاور. يتناحرون حيناً ثم يسارعون إلى التحاور حيناً آخر، والعكس صحيح. غير أن تقليد التناحر والتحاور خالطه دائماً دور لوسيط خارجي أو أكثر ما يوحي بأن اللبنانيين عاجزون عن الدخول في التناحر أو الخروج منه إلا بوساطة خارجية.

آخر مظاهر التحاور كان في القصر الجمهوري مطلع هذا الأسبوع. وهو تمّ إنفاذاً لأحد بنود اتفاق الدوحة حيث كان للوسطاء الخارجيين دور بارز في إخراج الزعماء والمتزعمين اللبنانيين من حال التناحر إلى حال التحاور.

سبق حوار القصر حدث جلل، أعقبه حدث آخر لا يقل عن الأول خطورة. فقد امتدت يد الجريمة السياسية المنظمة لاغتيال صالح فرحان العريضي، أحد أبرز مساعدي الوزير طلال ارسلان، وكان يضطلع بمسؤولية صلة الوصل بين حزبه وكل من حزب الله وسوريا. وقبل ان يجف حبر البيان الصادر عن الجلسة الأولى لمؤتمر الحوار امتدت يد الجريمة السياسية المنظمة، مرةً أخرى، لاغتيال احد ابرز المساعدين الميدانيين للوزير السابق سليمان فرنجية، زعيم تيار "المردة"، في اشتباك مفتعل أدى أيضاً إلى مقتل أحد حراس نائب ينتمي إلى حزب "القوات اللبنانية" الذي يترأسه الدكتور سمير جعجع.

في كلا الحدثين اهتز الوضع الأمني وكاد ينفجر لولا جهود استثنائية، محلية وإقليمية، بذلت لتفادي ما هو أعظم. غير أن دلالة الحدثين بقيت ماثلة في عقول المسؤولين والمراقبين: إن الحوار الجاري من فوق لم يبرد الغليان الذي يمور من تحت. لماذا؟

الجواب يعرفه الزعماء والمتزعمون. ذلك ان معظمهم انخرط منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري مطلع سنة 2005 في صراع سياسي وإعلامي وأمني ضد جهات داخلية وخارجية، موجودة أو مفترضة، ومارس من صنوف التعبئة الطائفية والمذهبية ضد خصومه ما حوّل البلاد ساحةً لتصفية حسابات إقليمية ودولية.

سبقت هذه الحال المتفجرة ورافقتها تدخلات خارجية، أخطرها "إسرائيلي" المنشأ، استهدفت الوحدة السياسية الهشة للنظام السياسي المترهل ما أدى إلى تفكيكه وتحوّله مجموعةً من الكيانات المذهبية المتناحرة.

باختصار، أفصح المشهد السياسي اللبناني عشية مؤتمر الحوار وغداته عن أن من هم تحت قد شقوا عصا الطاعة على من هم فوق وفتحوا لحسابهم، شأن أسيادهم، دكاكين سياسية وتجارية خاصة بهم.

استفاق بعض الزعماء والمتزعمين قبل غيرهم على حقيقة الوضع المتفجر، فبادر على عجل إلى مدِّ جسور التواصل مع خصومه بل مع أبرز هؤلاء الخصوم، أمين عام حزب الله حسن نصرالله، الذي حرص دائماً على عدم الانزلاق إلى حمأة حملات التشهير والتجريح والتقسيم المذهبي والتناحر السياسي. في سياق هذه "الصحوة" بوشرت وأنجزت مجموعة من المصالحات، بعضها مرتجل وبعضها الآخر جدّي، من الجبل إلى الشمال مروراً بالبقاع وبيروت. غير ان الاحتقان والغليان والأحقاد المحبوسة في صدور من هم تحت لم ينجح بإزالتها من هم فوق أو حتى بتلطيفها، فانفجرت بأشكال متعددة ومتفاوتة في كل المناطق التي شهدت مصالحات ولقاءات وفاقية.

يتحصل من هذا العرض السريع لواقع الحال في لبنان أن أمام القيادات صعوبات وعقبات كثيرة يقتضي تذليلها وإزالتها قبل المباشرة في عملية إعادة البناء والإنماء. والحق أن القوى الوطنية الحية المستقلة عن قيادات الطبقة السياسية القابضة تنبهت من زمان إلى تعقيدات الأزمة المزمنة وخطورتها وإلى كون النظام السياسي الطائفي قد أضحى خطراً على الكيان الوطني نفسه، فأطلقت جملة مقاربات وعلاجات للأزمة أهمها استحالة إنقاذ البلاد بواسطة الطبقة السياسية القابضة ذاتها. فالداء لا يمكن أن يكون دواء، والإصلاح لا يمكن ان ينجح إلا على أيدي إصلاحيين.

يبدو أن نصر الله وأركان حزبه وكتلته النيابية تنبهوا أيضاً إلى التعقيدات والإشكالات سالفة الذكر، فكان ان طالبوا بتوسيع قاعدة الحوار الجاري في القصر الجمهوري بضم ممثلي قوى وطنية أخرى كانت أسهمت في نصرة المقاومة في إبان حرب "إسرائيل" العدوانية على لبنان صيفَ ،2006 وواصلت دعمها لتجاوز ذيوله المؤلمة والمكلفة بعد ذلك. غير أن ردة فعل القوى والشخصيات المشاركة في حوار القصر بدت فاترة. لماذا؟

لأن معظم هؤلاء من أركان الطبقة السياسية القابضة الذين يهمهم تخليد سيطرتهم على مقدرات البلاد ومستقبلها، فلا مصلحة لهم، والحالة هذه، في أن يعترفوا بالقوى الوطنية الحية وبأن لها دوراً في تقويم حال البلاد وفي سبل إنقاذها وبناء دولتها المدنية الديمقراطية المرتجاة على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية. فالقوى الوطنية الحية هي نقيض الطبقة السياسية القابضة، والاعتراف بها وتمكينها يفضيان عاجلاً أو آجلاً إلى إزالة سيطرة الطبقة القابضة على مفاصل السلطة.

حتى لو اضطر أركان مؤتمر الحوار، تحت ضغط الظروف والأحداث ونضال القوى الحية، إلى توسيع قاعدة المتحاورين في القصر الجمهوري فإن ذلك لن يفضي إلى نتيجة مثمرة. ذلك لأن المتحاورين ليسوا مشترعين وليس لتوصياتهم، في حال توصلهم إلى اقتراح إصلاحات وازنة، أي قوة تنفيذية. لذلك فإن المطلوب هو ان يواكب الحوار الوطني في القصر وفي غيره من الأمكنة والمناسبات قيام جبهة عريضة للقوى الإصلاحية بصيغة مؤتمر وطني دائم، ذي برنامج مرحلي وقيادة مركزية ومجالس شعبية محلية، من أجل مباشرة ضغط شعبي وسياسي واسع على مستوى البلاد كلها، هدفه المحوري إقرار قانونٍ للانتخابات على أساس التمثيل النسبي. فالنظام النسبي وحده كفيل بتمثيل جميع الشرائح والفئات والمشارب الفاعلة في مجتمع متنوع كالاجتماع السياسي اللبناني.

فوق ذلك، يضفي نظام التمثيل النسبي، من حيث كفالته صحة التمثيل الشعبي وعدالته، شرعيةً كاملة على المتحاورين الجدد، أي على النواب، فتكون لهم السلطة والقدرة على اجتراح تسوية للأزمة المزمنة من دون الحاجة إلى أي وساطة خارجية. أجل، يصبح في مقدور مجلس النواب اجتراح إصلاحات من طراز "صنع في لبنان"، وذلك لأول مرة في تاريخ لبنان منذ ان ولد هزيلاً ضعيفاً ومرتهناً بصيغة "متصرفية جبل لبنان" سنة ،1861 إلى ان "تطور" على أيدي الفرنسيين إلى "لبنان الكبير" سنة ،1920 وإلى ان "استقل" بدعم من البريطانيين سنة ،1943 ومن ثم وقع، وما زال، في أسر الطبقة السياسية القابضة وحلفائها الدوليين والإقليميين.

هكذا يتضح أن خلاص لبنان هو في حوار بين من هم تحت لتفادي تواطؤ من هم فوق على وحدته وحريته وكرامة شعبه وحقه في عيش كريم.

العكس لا يصحّ.
"الخليج"اللبنانيون، لاسيما الزعماء والمتزعمين في صفوفهم، مدمنون على التناحر إدمانهم على التحاور. يتناحرون حيناً ثم يسارعون إلى التحاور حيناً آخر، والعكس صحيح. غير أن تقليد التناحر والتحاور خالطه دائماً دور لوسيط خارجي أو أكثر ما يوحي بأن اللبنانيين عاجزون عن الدخول في التناحر أو الخروج منه إلا بوساطة خارجية.

آخر مظاهر التحاور كان في القصر الجمهوري مطلع هذا الأسبوع. وهو تمّ إنفاذاً لأحد بنود اتفاق الدوحة حيث كان للوسطاء الخارجيين دور بارز في إخراج الزعماء والمتزعمين اللبنانيين من حال التناحر إلى حال التحاور.

سبق حوار القصر حدث جلل، أعقبه حدث آخر لا يقل عن الأول خطورة. فقد امتدت يد الجريمة السياسية المنظمة لاغتيال صالح فرحان العريضي، أحد أبرز مساعدي الوزير طلال ارسلان، وكان يضطلع بمسؤولية صلة الوصل بين حزبه وكل من حزب الله وسوريا. وقبل ان يجف حبر البيان الصادر عن الجلسة الأولى لمؤتمر الحوار امتدت يد الجريمة السياسية المنظمة، مرةً أخرى، لاغتيال احد ابرز المساعدين الميدانيين للوزير السابق سليمان فرنجية، زعيم تيار "المردة"، في اشتباك مفتعل أدى أيضاً إلى مقتل أحد حراس نائب ينتمي إلى حزب "القوات اللبنانية" الذي يترأسه الدكتور سمير جعجع.

في كلا الحدثين اهتز الوضع الأمني وكاد ينفجر لولا جهود استثنائية، محلية وإقليمية، بذلت لتفادي ما هو أعظم. غير أن دلالة الحدثين بقيت ماثلة في عقول المسؤولين والمراقبين: إن الحوار الجاري من فوق لم يبرد الغليان الذي يمور من تحت. لماذا؟

الجواب يعرفه الزعماء والمتزعمون. ذلك ان معظمهم انخرط منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري مطلع سنة 2005 في صراع سياسي وإعلامي وأمني ضد جهات داخلية وخارجية، موجودة أو مفترضة، ومارس من صنوف التعبئة الطائفية والمذهبية ضد خصومه ما حوّل البلاد ساحةً لتصفية حسابات إقليمية ودولية.

سبقت هذه الحال المتفجرة ورافقتها تدخلات خارجية، أخطرها "إسرائيلي" المنشأ، استهدفت الوحدة السياسية الهشة للنظام السياسي المترهل ما أدى إلى تفكيكه وتحوّله مجموعةً من الكيانات المذهبية المتناحرة.

باختصار، أفصح المشهد السياسي اللبناني عشية مؤتمر الحوار وغداته عن أن من هم تحت قد شقوا عصا الطاعة على من هم فوق وفتحوا لحسابهم، شأن أسيادهم، دكاكين سياسية وتجارية خاصة بهم.

استفاق بعض الزعماء والمتزعمين قبل غيرهم على حقيقة الوضع المتفجر، فبادر على عجل إلى مدِّ جسور التواصل مع خصومه بل مع أبرز هؤلاء الخصوم، أمين عام حزب الله حسن نصرالله، الذي حرص دائماً على عدم الانزلاق إلى حمأة حملات التشهير والتجريح والتقسيم المذهبي والتناحر السياسي. في سياق هذه "الصحوة" بوشرت وأنجزت مجموعة من المصالحات، بعضها مرتجل وبعضها الآخر جدّي، من الجبل إلى الشمال مروراً بالبقاع وبيروت. غير ان الاحتقان والغليان والأحقاد المحبوسة في صدور من هم تحت لم ينجح بإزالتها من هم فوق أو حتى بتلطيفها، فانفجرت بأشكال متعددة ومتفاوتة في كل المناطق التي شهدت مصالحات ولقاءات وفاقية.

يتحصل من هذا العرض السريع لواقع الحال في لبنان أن أمام القيادات صعوبات وعقبات كثيرة يقتضي تذليلها وإزالتها قبل المباشرة في عملية إعادة البناء والإنماء. والحق أن القوى الوطنية الحية المستقلة عن قيادات الطبقة السياسية القابضة تنبهت من زمان إلى تعقيدات الأزمة المزمنة وخطورتها وإلى كون النظام السياسي الطائفي قد أضحى خطراً على الكيان الوطني نفسه، فأطلقت جملة مقاربات وعلاجات للأزمة أهمها استحالة إنقاذ البلاد بواسطة الطبقة السياسية القابضة ذاتها. فالداء لا يمكن أن يكون دواء، والإصلاح لا يمكن ان ينجح إلا على أيدي إصلاحيين.

يبدو أن نصر الله وأركان حزبه وكتلته النيابية تنبهوا أيضاً إلى التعقيدات والإشكالات سالفة الذكر، فكان ان طالبوا بتوسيع قاعدة الحوار الجاري في القصر الجمهوري بضم ممثلي قوى وطنية أخرى كانت أسهمت في نصرة المقاومة في إبان حرب "إسرائيل" العدوانية على لبنان صيفَ ،2006 وواصلت دعمها لتجاوز ذيوله المؤلمة والمكلفة بعد ذلك. غير أن ردة فعل القوى والشخصيات المشاركة في حوار القصر بدت فاترة. لماذا؟

لأن معظم هؤلاء من أركان الطبقة السياسية القابضة الذين يهمهم تخليد سيطرتهم على مقدرات البلاد ومستقبلها، فلا مصلحة لهم، والحالة هذه، في أن يعترفوا بالقوى الوطنية الحية وبأن لها دوراً في تقويم حال البلاد وفي سبل إنقاذها وبناء دولتها المدنية الديمقراطية المرتجاة على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية. فالقوى الوطنية الحية هي نقيض الطبقة السياسية القابضة، والاعتراف بها وتمكينها يفضيان عاجلاً أو آجلاً إلى إزالة سيطرة الطبقة القابضة على مفاصل السلطة.

حتى لو اضطر أركان مؤتمر الحوار، تحت ضغط الظروف والأحداث ونضال القوى الحية، إلى توسيع قاعدة المتحاورين في القصر الجمهوري فإن ذلك لن يفضي إلى نتيجة مثمرة. ذلك لأن المتحاورين ليسوا مشترعين وليس لتوصياتهم، في حال توصلهم إلى اقتراح إصلاحات وازنة، أي قوة تنفيذية. لذلك فإن المطلوب هو ان يواكب الحوار الوطني في القصر وفي غيره من الأمكنة والمناسبات قيام جبهة عريضة للقوى الإصلاحية بصيغة مؤتمر وطني دائم، ذي برنامج مرحلي وقيادة مركزية ومجالس شعبية محلية، من أجل مباشرة ضغط شعبي وسياسي واسع على مستوى البلاد كلها، هدفه المحوري إقرار قانونٍ للانتخابات على أساس التمثيل النسبي. فالنظام النسبي وحده كفيل بتمثيل جميع الشرائح والفئات والمشارب الفاعلة في مجتمع متنوع كالاجتماع السياسي اللبناني.

فوق ذلك، يضفي نظام التمثيل النسبي، من حيث كفالته صحة التمثيل الشعبي وعدالته، شرعيةً كاملة على المتحاورين الجدد، أي على النواب، فتكون لهم السلطة والقدرة على اجتراح تسوية للأزمة المزمنة من دون الحاجة إلى أي وساطة خارجية. أجل، يصبح في مقدور مجلس النواب اجتراح إصلاحات من طراز "صنع في لبنان"، وذلك لأول مرة في تاريخ لبنان منذ ان ولد هزيلاً ضعيفاً ومرتهناً بصيغة "متصرفية جبل لبنان" سنة ،1861 إلى ان "تطور" على أيدي الفرنسيين إلى "لبنان الكبير" سنة ،1920 وإلى ان "استقل" بدعم من البريطانيين سنة ،1943 ومن ثم وقع، وما زال، في أسر الطبقة السياسية القابضة وحلفائها الدوليين والإقليميين.

هكذا يتضح أن خلاص لبنان هو في حوار بين من هم تحت لتفادي تواطؤ من هم فوق على وحدته وحريته وكرامة شعبه وحقه في عيش كريم.

العكس لا يصحّ.
"الخليج"

التعليقات