31/10/2010 - 11:02

روائح “مركنتلية” في صفقة القذافي برلسكوني../ فيصل جلول

روائح “مركنتلية” في صفقة القذافي برلسكوني../ فيصل جلول
يمنح اعتذار إيطاليا عن الجرائم الهمجية التي اقترفتها في ليبيا خلال فترة الاستعمار انتصاراً معنوياً للعقيد معمر القذافي لا يستهان به بعد تعرض الجماهيرية للإهانة جراء تسليم مشروعها النووي للولايات المتحدة الأمريكية في العام 2003، وأيضاً جراء التعويضات الخرافية التي دفعتها لذوي ضحايا طائرتي لوكيربي و”يوتيا” والتي تجاوزت الثلاثة مليارات دولار، وذلك من دون أن تعترف ليبيا بتفجير الطائرتين، فضلاً عن تعويضات تتأهب لدفعها في تفجير ملهى “لا بيل” الألماني.

وإذا كان حجم التعويضات الليبية عن الحادثين قد اعتبر الأضخم من نوعه في التاريخ فإن التعويضات الإيطالية التي ستحصل عليها الجماهيرية عن الخراب الاستعماري ربما تكون هي أيضاً تاريخية في حجمها الضئيل بالقياس إلى الجرائم الإيطالية في ليبيا والموثقة لدى الطرفين. وللعلم فقد شن المستعمرون الطليان في بداية الاحتلال (1911 1943) حملات إبادة منهجية على المناطق والأحياء الليبية التي قاومتهم فقتلوا أهاليها رجالاً وشيوخاً وأطفالاً ونساء، ومارسوا الاغتصاب ودمروا مصادر حياة الناس (المواشي والحيوانات الأليفة وآبار المياه والشجر والزرع) ومراكز إقامتهم.

وتشير بعض الوثائق الليبية إلى سقوط سبعة آلاف ليبي خلال ثلاثة أيام في “المنشية” شرقي طرابلس الغرب، وسقوط أربعة آلاف ليبي في مجزرة “شارع الشط” وحدها، وقد بادر المستعمرون إلى نفي آلاف الليبيين إلى الجزر الايطالية المعزولة حيث لا يزال مصير خمسة آلاف مواطن مجهولاً حتى اليوم. والراهن أن الجرح الليبي الناجم عن الفترة الاستعمارية لا يزال مفتوحاً الى حد أن الناس ما انفكوا يرتدون الملابس السوداء، ويرفعون الشارات السود في الشوارع حزناً في ذكرى المجازر، ويقطعون الاتصالات مع إيطاليا طيلة أربع وعشرين ساعة.

ورغم أن التعويض المادي عن جرائم الطليان لا يتعدى خمسة مليارات دولار! مبرمجة على عشرين عاماً فإن التعويض المعنوي يتجاوزه أهمية وتوقيتاً. فقد اعترف رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني بجرائم بلاده في ليبيا على الملأ عام 2004، وأقامت السلطات الإيطالية نصباً تذكارياً في جزيرة “سانت نيكولا” جنوب إيطاليا هو عبارة عن صومعة فوق قبور تعود لأربعمائة ليبي قضوا نفياً في الجزيرة.

ومن المتوقع بحسب المفاوضات التي دارت بين الطرفين (1998 1999) أن تدفع روما رواتب تقاعدية لليبيين الذين جندتهم إجبارياً للقتال في حروبها، وأن تقدم منحاً دراسية لتأهيل عدد غير معروف من أبناء وأحفاد الضحايا، وأن تعيد منهوبات أثرية إلى الليبيين، وأن تشق طريقاً استراتيجياً تربط بين تونس ومصر عبر ليبيا، وأن تجد حلولاً لعدد غير معروف من حقول الألغام التي زرعتها في أراضي هذا البلد خلال فترة الاستعمار والتي تشكل خطراً على حياة المواطنين. ومن بين الدلالات الرمزية الأخرى أن القذافي وبرلسكوني وقعا اتفاق الاعتذار يوم السبت الماضي في مبنى كولونيالي كانت الإدارة الاستعمارية تشغله خلال تلك الفترة وتحول من بعد إلى مقر للإدارة الليبية.

وإذا كان الاتفاق يطوي صفحة مأساوية في علاقات البلدين على الرغم من آثاره المادية المحدودة، فإنه بالمقابل يطرح سؤالاً كبيراً حول ظروف إنجازه وحول الرهانات المستقبلية المعقودة عليه؟ أما عن الظروف فمن المعروف أن ليبيا انخرطت مجدداً بالعلاقات الدولية بعد تسوية الطائرتين المذكورتين، فضلاً عن حادث “لابيل” في ألمانيا، وبعد تسليم برنامجها النووي، وهي تتوقع بالمقابل الحصول على تعويضات أمريكية ربما تكون رمزية هي الأخرى عن أربعين ضحية بينهم ابنة القذافي بالتبني سقطوا جراء الغارات الأمريكية على باب العزيزية في طرابلس عام 1986، وذلك ضمن تسوية أوروبية وأمريكية مع الجماهيرية تصبح معها هذه الأخيرة نموذجاً يحتذى للبلدان التي تقرر إنهاء تمردها وممانعتها للإرادة الغربية.

والراجح أن القذافي استغل هذه الفرصة لتسوية الخلاف التاريخي مع إيطاليا حول الحقبة الاستعمارية من جهة، وللإفادة من الأسواق الإيطالية والغربية عموماً في خططه التنموية التي جمدت خلال الحرب الباردة لا سيما في قطاع الطاقة والبنى التحتية.

ولعل الظروف المذكورة لم تكن مؤاتية لليبيا وحدها فإيطاليا أيضاً ترغب في طي الصفحة الكولونيالية من أجل المطالبة بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بمواطنيها المطرودين من ليبيا عام 1970 بعد مصادرة ممتلكاتهم، كما تأمل بالإفادة من فرص الاستثمار المتاحة في مشاريع إعادة الإعمار وهي تقدر بعشرات المليارات، ناهيك عن توفير النفط والغاز لمدنها القريبة من الشواطئ الليبية (ربع الاستهلاك الإيطالي من النفط وثلث الاستهلاك من الغاز)، وقد تم بالفعل تدشين مشروع غرب الجماهيرية للغاز الذي يصل عبر الأنابيب إلى المدن الإيطالية بتكلفة ضئيلة لا تقارن بتكاليف نقل الطاقة من الشرق الأوسط إلى أوروبا الغربية، فضلاً عن شهرة النفط الليبي الأكثر جودة بين أنواع النفط المعروفة في الأسواق العالمية.

يبقى أن طي الصفحة الكولونيالية من شأنه جذب المزيد من فوائض الأموال الليبية إلى الأسواق الإيطالية وتوثيق التعاون بين البلدين لمكافحة الهجرة السرية إلى إيطاليا ومنها إلى أوروبا، علماً أن الجماهيرية الليبية تحولت في السنوات الأخيرة إلى معبر مهم للمهاجرين السريين الأفارقة إلى القارة العجوز.

موجز القول أن ليبيا حققت انتصاراً مهماً في طي الصفحة الكولونيالية مع إيطاليا بشروط معنوية وسياسية راجحة على الشروط المادية. بالمقابل يمكن لرئيس الوزراء الإيطالي أن يسوق هذه الصفقة متفاخراً أمام مواطنيه بأنه بيّض ماضيهم الكولونيالي الفظيع في ليبيا بخمسة مليارات دولار بائسة، وبعبارات أسف لن ترفع ولن تخفض من مكانته وهو المعروف بتصاريحه البهلوانية المناهضة للعرب تارة، والاعتذار منهم تارة أخرى، ورعاية وزير في حكومته تظاهر بالرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) وإقالته من بعد. وتبقى الإشارة إلى صعوبة تحول هذه الصفقة إلى نموذج يحتذى في علاقات المستعمرين الغربيين بمستعمراتهم السابقة ذلك أن اتفاق برسكوني القذافي تنبعث منه الكثير من الروائح “المركنتلية” التي تزكم الأنوف.
"الخليج"

التعليقات