31/10/2010 - 11:02

عندما يحدث طلاق السياسة من الفكر../ د.عمر سعيد

عندما يحدث طلاق السياسة من الفكر../ د.عمر سعيد
إذا جاز لنا القول إن حركة الثقافة العربية بصفة عامة تعاني تصلبا في عروقها، فإن الأصح وصف محنة ثقافتنا المحلية بانسداد شبه كامل في شريانها التاجي الذي يغذي قلبها النابض. وقصدي هنا، ليس بالأدب والإبداع على أنواعه، وإنما بذاك الغياب الصارخ للممارسات الفكرية النقدية الجريئة في مواجهة البنى الاجتماعية والثقافية المتهتكة وتعبيراتها السياسية الانتهازية، والإحجام اللافت، إن لم يكن بالتواطؤ المقصود، عن ضبط الفوضى الفكرية العارمة وقاموسها الاصطلاحي والأخلاقي المضطرب، هذا ناهيك عن عقمها وسطحيتها وقصورها في الانتظام المنتج والفاعل في إطار المشروع النهضوي المنشود، والذي يشكل الميدان الرئيسي للمناقشة السياسية والإيديولوجية والفكرية في عالمنا العربي. فقد أفضت هذه الحقائق إلى تضخم مشوه لقيمة وفعالية العقل السياسي النفعي، على حساب الفكري والمعرفي في مشهدنا الثقافي العام.

هذه المقالة ستحاول أن تشير بالخصوص إلى التداعيات الخطيرة لاضطراب دلالات المنظومة الاصطلاحية على حياتنا الثقافية، وتبيان جذورها في حيزنا الخاص، كمقدمة لمداخلات لاحقة ستتناول تبعات الانعزال عن مشروع النهضة العربية.

من قبل قالت العرب: إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم. هذا بالضبط ما ينتابنا إزاء ذلك الشعور بالرضا "والانتفاخ" المخادع الذي ينتشي به مثقفونا وأحزابنا ونخبنا السياسية، واعتزازهم المفرط بانجازات فكرية هي غالباً ما تكون وهمية، أو لا ضلع لهم ولا ساق بتحققها. وما ذلك، باعتقادي، سوى تعبير عن حالة تعيسة من الغرور وفقدان للتوازن المعرفي جراء سيطرة الفكر السجالي على فضائنا الثقافي العام، وهو بهذا المعنى، يشكل أحد الأوجه الأكثر إيلاما ومأساوية لواقعنا الثقافي.

مع ذلك، لا ينبغي لتلك الحقائق أن تعفينا من الإقرار أن حالة تشوش النظم المصطلحية واختلال دلالاتها تشكل مظهرا حاضرا في ثقافاتنا العربية عامة، وليست من نصيب أنشطتنا الثقافية المحلية فقط، إلا أن تحققها في ساحتنا الخاصة، قد حملها طابعا إشكاليا أكثر عمقا وغرابة تأتي من كونها ثقافة دفاعية، همها الأساسي مقاومة الطمس والاحتواء الصهيوني من جانب أول، وكونها ضحية لصدمة القطيعة الثقافية التي ذاق مرارتها فلسطينيو الداخل في أعقاب نكبتهم الوطنية الكبرى، من جانب ثان.

وباعتمادنا مقاربة ذهنية لأثر صدمة الحداثة في توليد حركة النهضة وكيف أفضت إلى انقسام فارق في الوعي العربي أوصله لما عرف لاحقا بثنائية أو معضلة الحداثة والأصالة، مع أحوال ثقافتنا المحلية في مواجهة صدمة الانقطاع، عندها سنتمكن من توقع حجم وأثر النكبة الفلسطينية على جموع أهلنا المتبقين في الوطن ونخبهم السياسية والفكرية من ناحية انشغالهم المستميت في الدفاع عن النفس والهوية والأرض والذاكرة كإجراءات بقاء ضرورية فرضتها معطيات ومتطلبات تلك الفترة من لحظات الاحتلال والقطيعة والنكوص.

لا شك أننا نلتمس لحركتنا الثقافية عذرا في ذلك الحين من الدهر، وبالذات حينما نتلمس مدى ضلوع تلك المهمة في عزوفها عن الاهتمام في الجوانب المنهجية والنظرية لحراكها الثقافي، ومن ضمنه استحالة الانسياق في تيار النهضة العربية في بعده المعرفي الإنتاجي. موازاة مع ذاك، وفي صميم تلك الغفلة التاريخية الشاملة، فقد هيمن خطاب حزبي واحد على مجمل وجوه ساحاتنا المحلية، ليس بحكم قانون الانتخاب الطبيعي القاضي ببقاء الأفضل، وإنما بفضل قوانين الدولة العبرية القاضية بإفناء حركتنا الوطنية، حيث عكفت رموز تلك الحقبة، بسبق الإصرار والترصد، على إنتاج روايتها "العلمية" وتقديم "فهمها التاريخي" لنكبة شعبنا، سعيا منها لتسويغ دورها ومواقفها المعروفة من مسألة الوجود اليهودي الاستعماري في فلسطين ومشروعية دولتهم المتشكلة حديثا عندها، مما اقتضى تحشيداً ممنهجا ومكثفاً لوقائع ملفقة، وتنسيقاً فهلوياً لكثير من المعارف والمعلومات المبتورة التي تم تضمينها في هياكل "معرفية" محددة أريد لها أن تخدم تلك الرواية التبريرية.

على مدار عشرات من السنين، وفي ظل سطوة شبه مطلقة للقيم الحزبية التغريبية والعدمية بروحها، واستحواذ التحزب الإيديولوجي على الممارسة النقدية، فضلا عن هيبة جهازه المتضخم وأذرعه المتطاولة والمتحفزة، فقد اكتملت عندها عملية اغتيال النزعة النقدية من الإجراءات الثقافة النظرية وتنمط الفكر، وهكذا برز المثقف الحزبي ألكادري على المسرح الثقافي كنموذج رئيسي بديلا عن المثقف النقدي، بعد أن حقن الوعي المجتمعي "بمضادات فكرية" تعاكس طبيعة وروحية انتمائه الوطني.

وخلال هذه السيرورة تأسست الشروط الملائمة لإحداث انزياح دلالي مضاعف (وطني وفكري) في القاموس الاصطلاحي والمعرفي لثقافتنا. وعلى أساس وبفضل ذاك، أصبح من الممكن تعايش تلك المتناقضات الجوهرية في متن ذات المشروع، بل والتسليم العادي بصحة هذا التزاوج المستحيل جمعه منطقيا، مثل اعتبار نفسك منتميا، بنفس الوقت، "لحزب الوطنية الإسرائيلية" من جهة، وأن تكون جزءا من الحركة الوطنية الفلسطينية من جهة أخرى، أو أن يحيي الجناح العربي لحزبك ذكرى النكبة على شواهد قرانا المهدمة، بينما يحتفل جناح حزبك اليهودي "بيوم استقلال إسرائيل" في تل أبيب. هذا فضلا عن جملة طويلة من التناقضات التي تدفع المراقب للشعور وكأنه في أوج حفلة تنكرية من أيام عيد المساخر.

لقد أسهمت شروط ومعطيات تلك الحقبة في إنتاج تركيبة ثقافية هجينة وعجيبة (على شاكلة شخصية سعيد أبي النحس المتشائل) وكان لها فائق الأثر في قولبة طبائع الوعي الجماهيري العام والثقافي منه على جناح التخصيص، وما زالت أصداؤها تلقي بظلالها الشاحبة على حركتنا الثقافية إلى حد الآن. بطبيعة الأمر، وفي نفس السياق الثقافي، لم يكن ذاك المشروع المؤسرل، وقتها، ماضيا بحاله دونما اعتراض وممانعة شديدة وفعالة من قبل الآباء المؤسسين لحركتنا الوطنية في الداخل من كافة الأوساط الشعبية والثقافية، فقد حملت حركة الأرض ومن بعدها حركة أبناء البلد، بدورها التعبوي والنضالي والفكري المتميز، لواء مقاومة تصورات هذا التيار متبنين لفهم وطني يعتمد الرواية الفلسطينية حول النكبة وينسجم مع تطلعات شعبنا وحركته الوطنية.

وفي هذا البعد الوطني أيضا، لا يمكن لنا إغفال الأدوار التي اضطلعت بها، في فترة متأخرة، "التقدمية" و"ميثاق المساواة" وفعاليات أخرى، وصولا للإسلامية بثقلها التعبوي والجماهيري اللافت، والتجمع الوطني الديمقراطي، باعتباره امتدادا منظما واسعا لتلك المدرسة ومختزنا لتجربتها النضالية ومطورا لمشروعها الأم. في ظل هذا التقاطب الوطني والسياسي الحاد وما رافقه من صراعات حزبية وإيديولوجية وفكرية، فقد تعمقت وتعممت عقلية السجال والنفي والتلفيق، حتى باتت مستحوذة على كافة مناحي ثقافتنا.

إن هذا التقييم لا يطمح إلى مصادرة الأدوار السياسية والوطنية والثقافية والمطلبية الهامة التي تحققت لهذا القطاع من أبناء شعبنا بفضل مثابرة الحزب الشيوعي الإسرائيلي ونضالاته المتواصلة، بقدر ما يسعى لنقد جذور انفصام خطابه السياسي والمعرفي والقومي، وتوضيح انعكاس ذلك في اضطراب وتشوش المنظومة الاصطلاحية المستخدمة في ساحاتنا وعلاقتها المتبادلة مع شيوع الفوضى الفكرية وعشوائية الممارسات السياسية كما نشهدها راهنا. فمن المعروف أن نسبية المعارف وميوعة قوامها تعود إلى ارتباطها الوثيق مع التشكيلات التاريخية والاجتماعية الثقافية التي أنتجت تحت ظلالها، لكنها تتشارك جميعها من حيث أن الفكر والممارسات العقلية هي القناة الوحيدة المستخدمة في ملاحة إنتاج المعرفة، لأن طبيعة الفكر محايدة والحاجة لفعله حاسمة في مشروع التطور والتثاقف مع الآخر، فضلاً عن نزوعه الطبيعي إلى فك رموز الغموض واكتشاف المزيد من الحقائق العلمية الاجتماعية وتفسير ظواهرها وتأسيس تصورات مناسبة تؤمن تجاوز حدودها وإشكالاتها.

وبما أن الأجهزة الاصطلاحية المعمول بها تنتج وتصقل شخصيتها خلال عمليات التشكل والتراكم المعرفي، فإن المصطلح باعتباره أداة اكتشاف وتوليد معرفي، يرتبط بعلاقة جدلية دائمة مع الحقل المعرفي الذي أنتجه، لكن دون أن يحميه ذلك من تعسف الحقول المعرفية الأخرى من ناحية أولى، وأثر شيخوخة دلالاته عبر الزمن، من ناحية ثانية وتدخل السياسي والإيديولوجي في تحديد محموله، من ناحية ثالثة. عليه، فإن حدود المصطلح المفهومية، ودقة وضوحه ودلالته تكتسب أهمية استثنائية بعدما يستقر في الوعي ويبدأ بدوره في مسيرة إنتاج المعرفة. وهنا تحديدا يمكن ملاحظة أهم شواهد اعتلال ثقافتنا الراهنة، والتي تتميز بتشابك كافة ميادين المعرفة واختلاط مفاهيمها لدرجة تتيح تبادل مواقعها وتخريب دلالاتها "بحرية" كاملة ودونما إزعاج لأي مرجعية أصيلة كانت أم مستعارة، وهذا عينه ما أحاول تبيانه في هذه المداخلة.

قد تكون هذه اللوثة المنهجية هي المسؤولة أساسا عن القصور المعرفي الذي يميز ثقافتنا وإغراقها في حالة من الشلل والتعطيل المزمن وتآكل الممارسات الفكرية لحساب الاستعراضية السياسية، الأمر الذي يستدعي من مثقفينا الإدلاء بدلوهم في هذا البعد أيضا، وخوض غمار هذا التحدي المعرفي الخطير أسوة بإخوتهم من المثقفين العرب. فخلافا لما يعتقده البعض منا (؟!!)، وبرغم قسوة واقع البيئة العربية، وبالتحديد في مستوى ظروف المعيشة والقمع الأنظماتي المسلط على رقابهم، إلا أن معاول التفتيش والتنقيب تطال جذور غالبية موضوعات المجتمع، عرضاً وتحليلاً ونقداً، وإن كانت، أحيانا، مشوبة بعض الشيء بالطابع النخبوي المتباعد عن جماهيرها.

بالمقابل فان ساحتنا الثقافية المحلية بمنابرها الإعلامية المتكاثرة باطراد، والتي تبدو للوهلة الأولى، غنية ومناضلة وأصيلة، هي في واقع الأمر بائسة ومحزنة وفقيرة من ناحية جدية اهتماماتها وعمقها، وبالذات فيما يتصل بالمعالجات الفكرية التي تتعاطى بمنهجية مع مفاصل إشكالاتنا المجتمعية والتي، بطبيعة الحال، يترتب عن حلها حدوث تحولات هامة في حركة المجتمع ونتاجه الثقافي. فالمثقف الفعلي والمساهم في إنتاج وإعلاء شأن العقل والمعرفة، ينشد الحقيقة لذاتها ولأنها كذلك، أي لكونها تدفع وعينا للتعامل العقلاني مع شؤون واقعنا بما يضمن تجاوز رتابته وعقده، وتحقق بهذا تميزنا الإنساني، دون أن يرجو منها أية غاية نفعية ومادية. ولأن الفكر يرتبط بعلاقات جدلية متبادلة مع محيطه الاجتماعي الثقافي، فإنه بلا ريب يؤسس لإنبناء مشاريع سياسية قد تحاط لاحقا بعصبية أو إيديولوجية من شأنها أن تزيد من تعميق تخالف الفكري والسياسي، ذلك لأن قوانين وفعالية الأخيرة أميل إلى مهادنة الوقائع واعتماد البراغماتية والتلفيقية والنفعية الانتهازية عندما تقتضي منفعتها ذلك، وهي مسألة معروفة ولذا يمكن السيطرة على مسارها العام وضبط جنوحها في ظل الفعالية المتيقظة للفكر وحيويته. لكن، حينما يجوع الفكر وتضمر خاصرتاه، فلن يسعفه سوى أن يعض بقوة على السياسة ويغرس أنيابه الصفراء في جسدها، وكلما اشتد جوعه زاد تشبثه بل واحتماؤه ببريقها، ولن تفلت من فكيه إلا بعد أن تستحيل السياسة إلى نوع من التبصير والعرافة، وقت ذاك، ستتموضع السياسة فوق الفكر وتفقده فاعليته وضرورة وجوده.

تلك نتيجة محتومة لمن شيد عقله السياسي من لبنات "حقائقه الفلسفية المطلقة" ومن أشلاء المعارف العلمية دون ناظم منطقي يحدد مدلولاتها النظرية وحدودها المفهومية، حتى باتت في تناقض جوهري بين ما ترمز إليه في عقول الناس وبين ما هي عليه فعلاً في الواقع. هذا الاضطراب المعرفي والتخريب الدلالي للمفاهيم وتعطيل فعالية المجال الفكري، هو السمة الأبرز لمحنة ثقافتنا المحلية، وهو ما يجعل من النطاق السياسي عندنا مشاعا لمن يرغب، دون مرجعيات فكرية أو أخلاقية، ومرتعا خصبا أو قل مزرعة للانتهازية والاستعراضية ودكاكين السلطة الفلسطينية المتوسعة تباعا.

التعليقات