31/10/2010 - 11:02

في الخلافات العربية../ علي جرادات

في الخلافات العربية../ علي جرادات
المفردات السياسية لا تلد ولا تختفي جزافاً، بل تعكس مواقف سياسية تجاه قضايا محددة، وتستهدف الترويج لهذه المواقف في مواجهة مواقف أخرى، وذلك بمعزل عن مدى ترجمات هذه المواقف أو تلك على الأرض.

وفي مجرى الصراع العربي الإسرائيلي، شهد القاموس السياسي الرسمي العربي الكثير من المفردات السياسية. فمن مفردة التحرير دون الاستعداد لاستحقاقاته في مرحلة ما بعد "نكبة" عام 1948، الى مفردة "لا صلح ولا إعتراف ولا مفاوضات" في قمة الخرطوم بعد هزيمة عام 1967، بإعتبار أن "ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، كما أعلن عبد الناصر، إلى مفردة القبول المبدئي بالتعاطي مع مشاريع تسوية الصراع عام 1970، الى مفردة اعتبار المشروع الأمريكي خياراً وحيداً لتسويته، باعتبار أن "99% من أوراق الحل بيد أمريكا"، وأن "حرب العام 1973 هي آخر الحروب"، كما أعلن السادات. ومِن مفردة "الصمود والتصدي" والرفض المبدئي للتسويات المنفردة، كما أعلن باقي النظام الرسمي العربي، الى مفردة القبول بهذه التسويات، والانخراط في مجراها في مؤتمر مدريد 1991.

بذلك، لم يعد عجز النظام الرسمي العربي مقتصراً على التناقض بين ما يرفعه من مفردات للمجابهة وبين عدم الاستعداد الفعلي لها، أي عدم الاستعداد الفعلي لشن الحرب، بل وصل الى درجة التغييب الكلي لمفردة المجابهة من القاموس السياسي الرسمي العربي، لتحل مكانها مفردة "الممانعة"، كمفردة جديدة، تبنتها أطراف عربية لم تسفر مفاوضاتها المنفردة عن تسوية لصراعها القُطري مع إسرائيل. وبالمحصلة العامة، فإن هذا كان يعني (عملياً):

أولاً: أن الفعل الرسمي العربي بمجموعه، على تمايز مفرداته السياسية، وما تعكسه من مواقف متباينة، لم يعد في موقع المبادرة، بل أصبح في موقع رد الفعل، أي أنه لم يعد في وارد المبادرة لشن الحروب.

ثانياً: أن هنالك ناظما سياسيا عاما لمواقف الأطراف الرسمية العربية، (على اختلافها)، جوهره التبني الجماعي لخيار التوصل الى تسويات منفردة عبر التفاوض المباشر مع الإسرائيليين تحت الرعاية الأمريكية كخيار إستراتيجي.

ثالثاً: أن مفردة "مواجهة" المشروع الأمريكي للتسوية لم تعد تعني المبادرة لشن الحرب ضده، بل باتت تعني إما الرفض السياسي لتصوراتها (في أحسن الأحوال)، وإما محاولة تعديلها وتحسين شروطها (في أسوأ الأحوال)، إنما دون الخروج من بوتقة القبول المبدئي بالتعامل معها (في كل الأحوال).

رابعاً: ذلك يعني (عملياً) أن المشروع الأمريكي لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، أصبح هو المشروع الوحيد المطروح للتداول العملي. وهذا ما تركَ المقاومة الشعبية بمعناها الواسع، وخاصة العنيف منها، دون سند رسمي عربي ميداني فعلي، إذا ما استثنينا الرفض السياسي (المتلعثم) للتنكيل بها.

ومنذ ذلك، أصبحت المقاومة الفلسطينية، (التي لا مجال لإيقافها ما دام الاحتلال قائماً)، أكثر المتضررين من التعامل الرسمي العربي مع قضايا الصراع، ومع تصورات المشروع الأمريكي لتسويته. وقد تبدى ذلك جلياً في كافة محطات المجابهة المفصلية التي خاضتها المقاومة الفلسطينية، بدءاً بالمجابهة الأسطورية ضد اجتياح هدف الى تصفيتها عام 1982 في لبنان، مروراً بالمجابهة القاسية والبطولية التي خاضتها انتفاضة عام 1987 على مدار سبع سنوات، تعريجاً على المجابهة الدموية التي خاضتها انتفاضة الأقصى عام 2000 حتى وقوع الاجتياح الشامل للضفة في آذار 2002، وانتهاء بكل ما تعرضت له الضفة والقطاع، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، من اجتياحات واستباحات وحشية، وكان آخرها ما وقع في غزة مؤخراً من "محرقة".

رغم هذه الحقائق المرة؛ ورغم ما يجب أن تفرزه من وعي دقيق لطبيعة التمايز القائم بين مواقف الأطراف الرسمية العربية، إلا أن هنالك مَن لا يزال يقرأ هذا التمايز كما لو أنه تمايز بين موقف مجابه يستعد لشن الحرب، وبين موقف آخر "تسووي" لفظ خيار الحرب والاستعداد لشنها.

وتنطوي هكذا قراءة للخلافات الرسمية العربية على أكثر من خطيئة، يتمثل أخطرها في احتمال السقوط في شرك تضخيم هذه الخلافات، التي تتصاعد وتائرها على أبواب اقتراب موعد انعقاد القمة العربية في دمشق نهاية الشهر الحالي، تلك القمة المثقلة موضوعيا بملفات الصراع الساخنة في كل من فلسطين والعراق ولبنان، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما بين هذه الملفات من تداخل، وما يعيشه كل ملف منها من صراع داخلي قاتل.

إن على الأطراف الفلسطينية واللبنانية والعراقية المنقسمة والمتناحرة، إن هي شاءت الاخلاص لقضاياها، والعمل على توظيف القمة العربية المرتقبة لصالحها، أن تنأى بنفسها عن أن تكون وقوداً لتضخيم النظام الرسمي العربي لخلافاته، التي لا تعدو خلافات بين "راضخ" و"ممانع" لتصورات مشروع التسوية الأمريكي، أخذاً بعين الإعتبار أن الممانعة دون استعداد عملي وفعلي للمجابهة الشاملة، بما فيها المجابهة العسكرية، أي دون الإعداد الاستعداد للمبادرة بشن الحرب، تصبح (الممانعة) بمثابة "تَمَنُّع" لا أكثر ولا أقل. "تمَنُّع" يمكن ان ينقلب في كل لحظة، ولا يُخلد اليه في بناء سياسة مجابهة بالمعنى الشامل، كما لا يمكن الرهان عليه بالمعنى البعيد والاستراتيجي لادارة الصراع، حتى ولو كان في اللحظة أفضل قياسا بالموقف "الراضخ".

التذكير بما سبق من استخلاصات أكدتها وقائع التجربة العملية حول المضمون الفعلي للخلافات الرسمية العربية، لا يهدف الى الدخول في مماحكات المحاور العربية، وهي المماحكات الضارة في كل الأحوال، بل يهدف (التذكير) الى رؤية هذه الخلافات كما هي في الواقع، وعدم ابتلاع طعم محاولات كل محور عربي تضخيم مواقفه وما يرفعه من مفردات سياسية. أما لماذا؟

لأن من شأن ابتلاع هذا الطعم، وخاصة من قِبل الأطراف الفلسطينية واللبنانية والعراقية المنقسمة والمتنازعة، أن يضيف عائقاً اضافيا في وجه أية محاولات داخلية جادة لوضع حد لما يسود هذه الساحات الثلاث من صراعات داخلية مدمرة، يأتي تضخيم الخلافات العربية على ابواب انعقاد قمة دمشق، ليذكيها ويدفعها خطوات خطرة للأمام، بدل ايجاد صيغ عربية توافقية موحدة لتجاوزها، علماً أن هذه الإنقسامات وتعميقها، كانت وما زالت وستبقى، هدفاً أمريكيا إسرائيليا ثابتاً، بإعتبارها عقب أخيل لأية توجهات قومية ووطنية جادة لمواجهة المشروع الأمريكي الإسرائيلي المشترك، سواء في صراعات المنطقة بشكل عام، أو على صعيد كل صراع منها بشكل خاص. وإلا ما معنى العرقلة الأمريكية الإسرائيلية للمبادرات العربية كافة؟ وما معنى الرفض الأمريكي الإسرائيلي التعامل مع "المبادرة العربية للسلام"، اللهم مع بندها المتعلق بالتطبيع؟ وما معنى العرقلة الأمريكية الإسرائيلية لـ"مبادرة الجامعة العربية" لوضع حد للانقسام اللبناني الداخلي المرعب؟ وما معنى العرقلة الأمريكية الإسرائيلية لجهود وضعِ حدٍ للانقسام الفلسطيني الداخلي القاتل؟ وما معنى المحاولات الأمريكية الإسرائيلية لخلق المزيد من عوامل ومعاني الفتن العراقية الداخلية المدمرة؟

خلاصة القول: منذ أصبح خيار التعاطي مع مشروع التسوية الأمريكي، سياسة عربية جامعة، بل خيارا عربيا جامعا وحيدا واستراتيجيا، فإنه لم يعد ذا معنى تضخيم الخلافات العربية، وما يغطيها من تمايزٍ في المفردات السياسية المرفوعة، ما يفرض ضرورة عدم الوقوع في شرك هذا التضخيم، الذي سيكون قاتلاً، إن هو حصل في الساحات الفلسطينية واللبنانية والعراقية تحديداً، خاصة بالنظر الى ما يسودها من صراعات داخلية قاتلة ومدمرة، مطلوب من القمة العربية المرتقبة وضع حد لها، وليس تسعيرها عبر تركيبها على الخلافات الرسمية العربية، هي في الواقع، ليست أكثر من خلافات بين موقف "راضخ" وآخر "مُتَمَنِّع" تجاه المشروع الأمريكي في المنطقة.

التعليقات