31/10/2010 - 11:02

في العزوف الأمريكي عن السياسة../ عبد الاله بلقزيز

في العزوف الأمريكي عن السياسة../ عبد الاله بلقزيز

مما يعرف عن المواطنين الأمريكيين عدم اكتراثهم بما يجري في العالم من أحداث. عدم الاكتراث هذا يصل- أحياناً- إلى حد الجهل بما يجري، بل لعله من ثمرات هذا الجهل. يحدث ذلك فيما دولتهم أكثر الدول- في التاريخ- تدخلاً في شؤون العالم: حتى في أدق تفاصيل ما يجري فيه من قبيل التنصت على مكالمات مئات الملايين من البشر في سائر أصقاع الأرض، من رؤساء الدول إلى هواة مكالمات الغزل! وهذه مفارقة كبيرة من مفارقات عديدة صارخة يضج بها المجتمع الأمريكي.

يترك المواطن الأمريكي لدولته- إذن- أن تنوب عنه في الاهتمام بشؤون العالم وفي التدخل فيها عند الاقتضاء، أما هو فينصرف إلى الاهتمام بشؤون نفسه وأمور معاشه: أوضاع البورصة، الضرائب، الضمان الاجتماعي والصحي، أسواق الأسهم، الأسعار، صرعات الاستهلاك... الخ، وأمور أخرى كاقتصاد الترفيه والتسلية وتمضية أوقات الفراغ، أو الرياضة واليوميات الهوليوودية. ويكاد وعيه السياسي لا يتجاوز معرفة تاريخ الولايات المتحدة وخارطة قواها السياسية المعاصرة! ولذلك قلما كان معنياً بالسياسة الخارجية في برامج الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي والجمهوري) إبان الحملات الانتخابية، وهو ما كان يحدو بالحزبين إلى تشديد التركيز على المسائل الاقتصادية والاجتماعية الداخلية سعياً منهما في استمالة رأيه وكسب صوته.

ليس سائر الأمريكيين من هذا الضرب، ثمة فيهم من هم على أرفع مستوى من الاطلاع على شؤون العالم، ويتعلق الأمر- فضلاً عن النخب السياسية (الجمهورية والديمقراطية) الحاكمة- بالجامعيين، والباحثين في مراكز الدراسات ورجال الصحافة والإعلام والمثقفين، لكن هؤلاء يشكلون شريحة صغيرة جداً في المجتمع الأمريكي لا يعتد بوزنها العددي، ناهيك عن أن قسماً كبيراً منها مرتبط بالنظام السياسي الأمريكي، وينتمي إلى قاعدته، وبالتالي يعسر على التحليل إدراجه ضمن إطار المجتمع المدني الأمريكي. وعليه لا ينقض هذا الاستثناء على ما فيه من وجوه التباس قاعدة تسري أحكامها سريان الكرور والثبات على الكثرة الكاثرة من الأمريكيين.

لا تتعلق هذه اللامبالاة بالسياسة العالمية داخل المجتمع الأمريكي بالآحاد من الناس والجماعات ممن هم في عداد المواطنين العاديين فحسب، وانما تتعلق بالنخب الأمريكية الحاكمة ايضاً. إذا تركنا جانباً النخب الحاكمة في الإطار الفيدرالي، سنجد ان النخب الممسكة بالسلطة في الولايات ومعظمها حتى لا نقول كلها من الحزبين الرئيسيين غير ذات احتفال بالشؤون الدولية السياسية على الرغم من علائقها الاقتصادية الكبرى بالعالم الخارجي، ذلك ان الولاية الأمريكية الوحيدة التي لها علاقة بهذه الشؤون والتي تختص فيها وتحتكر صناعة القرار السياسي المتعلق بها هي ولاية واشنطن، بل مدينة واشنطن على وجه التحديد والحصر. حتى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية نفسه الذي قد يأتي إلى البيت الأبيض من ولاية أخرى كان فيها حاكماً أو رجل أعمال مرموقاً، لا يبدأ في استيعاب ملفات السياسة الخارجية إلا بعد ان “يشرف” على واشنطن ويقطن مكتبها البيضاوي، والمفهوم من هذا الاستطراد التفصيلي ان معضلة هذه اللامبالاة الأمريكية بالسياسة الدولية مما يعانيه المجتمع الامريكي مواطنين وقسماً كبيراً من النخب الحاكمة.

ليس من شك في أن هناك أسباباً تحتية عميقة تفسر ظاهرة عزوف الامريكي عن السياسة وعن الشأن العام، ولا تتعلق البتة بما يمكن اعتباره كسلاً منه أو غباوة، نعم، قد يكون هناك عشرات الملايين من الامريكيين المتعلمين الذين قد لا يعرفون مثلاً أين توجد فرنسا على الخارطة، أو ما هي حدود الهند أو إلى أية قارة تنتمي تركيا، أو ما هي ملابسات الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا، أو كم عدد الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي الخ، لكن ذلك ليس يعني ان الأمريكي ضعيف التكوين المدرسي والعلمي، أو غبياً جهولاً، بل هو قد يعني- على عكس من ذلك- أنه مغمور بشعور التفوق الحضاري إلى المدى الذي ينظر فيه إلى العالم الخارجي باستعلاء شديد، أي إلى المدى الذي قد يشعر فيه بانعدام الحاجة إلى معرفة ما يجري خارج المركز (الأمريكي) في “أطراف” العالم و”هوامشه”.

قد يشجعه على ذلك أكثر ان الولايات المتحدة قارة مستقلة عن خارجها في كل شيء في الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والحاجات، وفي القدرة الاستراتيجية الجبارة لديها على حماية نفسها، وفي لغتها التي لا تحتاج إلى صرف في سوق اللغات كما لا يحتاج دولارها إلى ذلك في سوق العملات لأنهما مرجعيان (الإنجليزية والدولار نعني). وقد يحمله على ذلك أنه ينتمي- رغم كل صخب الحداثة- إلى مجتمع محافظ: والمجتمع المحافظ بطبعه منكفئ على نفسه وعلى منظومة القيم الخاصة به، ولا يكاد يشعر بوجود حاجة إلى غيره لفرط شعوره بأنه مستكف بذاته.. الخ، ومع ذلك كله، فإن ثمن هذه اللامبالاة بالسياسة وبشؤون العالم عالي الكلفة على المواطن الأمريكي، وأقله أنه لا يمارس حقاً من حقوق المواطنة: الحق في السياسة بوصفها ملكية عمومية.
"الخليج"

التعليقات