31/10/2010 - 11:02

من أجلك يا سيدتي../ عطا مناع*

من أجلك يا سيدتي../ عطا مناع*
كأن أمي بعثت للحياة بعد أن غيبها الموت منذ أكثر من 15 عاما، عندما رأيت تلك السيدة الثلاثينية في مكتب مدير الخدمات في المخيم. داهمني رعب دفين تسلل في جسدي ليفجر مرحلة لا تنسى من الحرمان والفقر والصراع من اجل البقاء في تلك البقعة المسماة بالمخيم الذي كان ولا زال لعنة تلاحق من سكنه، وكأن الرب حكم علينا نحن اللاجئين بأن نعيش الجحيم الأبدي عقابا لنا على الخروج من جنتنا فلسطين والارتضاء بالمخيم ملاذا لنا.

قالت السيدة الثلاثينية لمدير المخيم بذل ورجاء وألم "لقد انكسر ظهري من العمل في المدرسة.. أتمني عليك أن تنقلني إلى عمل أقل تعبا". وكان رد السيد المدير وبلطف شديد... "أنا لا املك القرار في نقلك فالأمر يعود إلى مديرة المدرسة، تحدثي معها وأنا متأكد أنها ستتعاطف معك". شكرته السيدة على لطفه واقتنعت مرغمة برده وخرجت بهدوء من المكتب على أمل أن تتعاطف معها مديرة المدرسة في المخيم.

تلك السيدة ليست موظفة في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وهي تعمل ضمن برنامج الطوارئ الخاص بالمخيمات والذي يتيح للبعض فرصة عمل لثلاثة أشهر في إحدى مؤسسات المخيم لمواجهة البطالة والفقر الذي يجتاح المخيم الذي لا يختلف كثيرا عن المخيمات الفلسطينية في الوطن والشتات، حيث الحاجة والموت المبكر بفعل المرض والاحتلال. فالمخيمات الفلسطينية تتقاسم الهمّ المشترك وما لا يخطر على بال الإنسان من أمراض الضغط والقلب والسكري والفساد. وأهم ما يجمع بينها مقابر الشهداء المنتشرة على أطرافها.

خرجت السيدة الثلاثينية من المكتب وخلفت وراءها أجواء من الصمت الذي لم يدم طويلا، لكنها أعادتني عقودا إلى الوراء حيث معاناة الرعيل الأول من اللاجئات الفلسطينيات اللواتي كن يقطعن عدة كيلومترات ليوفرن تنكة الماء، ويجبن الجبال لساعات طويلة لجمع الحطب لاستخدامه في الطبخ وشؤون البيت الأخرى، ناهيك عن الاتجار به لتوفير عدة قروش لتوفير وجبة فقيرة للأفواه الجائعة التي تعيش يومها، وتعتقد مخطئة أن العدس لحمة الفقراء الذين لم يخجلوا يوما من فقرهم ولباسهم المرقع بسبب وحدة حالهم، ولقناعتهم أن الموت مع الجماعة رحمة في مجتمع منسجم طبقيا ونفسيا.

كان ذلك في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تلك السنين التي لا يمكن مقارنتها بهذه الأيام التي قسمت المقسم وفتتت المفتت، أيام ساد فيها قانون الفتونة والعربدة والتحكم بلقمة البشر ولحمها وعرضها في سوق المرحلة واستخدامها مادة للتسول الدنيء والتعامل من أبناء الجادة بفوقية مقيتة من الباشا الذي يفترض أنه مجبول من نفس الطينة التي تواجه تقلبات الزمن في انتظار العودة.

لا عودة في المدى المنظور ولا أمل في قيادة تمنح الإسرائيلي وعد بلفور فلسطيني جديد، والصمت يخيم على باشاوات اللاجئين الذي أتخموا وعاشوا ليومهم، اللهم يضحكون علينا بالشعارات التي لا حياة فيها، وإن جد الجد لا تحرك لهم قناة ولا يقولون كلمة الحق في وجه السلطان الذي يرمي لهم بالعظمة التي هي ثمن صمتهم. وللحقيقة إنهم يلعبون دورهم بإتقان وتفان، ويشاركون عن قصد في إسدال الستارة على مرحلة دفع الشعب خلالها الثمن الكبير، مرحلة تدفعنا الوراء عقودا وتعود بنا لنقطة البداية في ظل عملية تشكيك وشراء الذمم والتخريب غير المسبوق.

اليوم تجتاح فلسطين ومخيماتها موجه عاتية من الفقر والإفقار التي تستهدف مصادرة الحلم الفلسطيني الذي عجزت قوى العالم الجبارة عن النيل منه، موجة الفقر تلك تكاد تنال من قطاعات واسعة من الفلسطينيين التي قهرت بالفقر غير المسلح بالوصفة السحرية التي تمنح الإنسان قوة جبارة في الدفاع عن ذاته، قوة قوامها الفكر الذي يصقل الذات ويحول القوة الكامنة في جموع الفقراء إلى معين لا ينضب من المقاومة وإيمان لا يهتز بأن المستقبل لنا.

قد تكون في أوساطنا حالات إنسانية بحاجة للتعاطف معها ومد يد العون لها لمواجهة فقرها، ولكننا كلاجئين لن نقبل أن نتحول إلى مجموعة بشرية تعيش ظروفا إنسانية، لأنها شردت من أرضها وبالتالي يمن الإسرائيلي على بعضها بعودة مشوهة..

قضيتنا بالأصل سياسية تأخذ أبعادا وطنية وتاريخية، ولا يحق لأي كان مهما علا شأنه أن يفتي بحق أجمعت عليه الشعوب بأنه حق شخصي وجماعي لا يسقط بالتقادم.

التعليقات