15/03/2011 - 11:00

مقترح من أجل ليبيا../ نهلة الشهال

يأتي المشهد الليبي ليفسد النشوة التي صاحبت الثورتين التونسية والمصرية، بل وليتهددهما، علاوة على مخاطره على ليبيا نفسها، وعلى السياق اللاحق لمجمل تطورات المنطقة برمتها

مقترح من أجل ليبيا../ نهلة الشهال

يأتي المشهد الليبي ليفسد النشوة التي صاحبت الثورتين التونسية والمصرية، بل وليتهددهما، علاوة على مخاطره على ليبيا نفسها، وعلى السياق اللاحق لمجمل تطورات المنطقة برمتها. وهذه مفاجأة لعلها لم تكن في الحسبان. فليبيا تلك، كانت مجهولة من الجميع، وإلى حد يكاد يكون مطلقاً: تركيبة بنيتها الاجتماعية، وطبيعة قواها السياسية، ونوع الروابط الإقليمية والعالمية التي نسجها القذافي، وحجم المصالح الغربية المتمركزة فيها، ومدى الأطماع بها، ومقدار الأحقاد المتراكمة عبر السنين... وها قد طار غطاء الفولاذ الذي أحكم القذافي وضعه فوق ليبيا وجلس فوقه على مدى أربعة عقود. وللحق، تعامل الجميع مع ذلك البلد بوصفه ثانوياً بشكل من الاشكال، وطغى على كل إدراك لليبيا غموض لم يكن من النوع المثير للفضول، مغلفاً بجنون القذافي، المسلي تارة والمقزز تارة أخرى.

ليبيا تنزلق نحو الحرب الأهلية، مشرعة الأبواب على مآس لا حصر لها، وعلى تخلع الأقاليم الليبية. نكتشف أن سكون الصحراء وانسجامها كاذبان. وأن هناك كتلة مدن في الشرق القريب من مصر، تتوسطها بنغازي، وتؤطرها قبائل بعينها، وأخرى في الغرب الملاصق لتونس، تتوسطها طرابلس التي نعمت بتمييز فاقع، تحيط بها القواعد العسكرية، وقبائل أخرى، وهناك مصاف النفط وموانئه الممتدة على الجناحين، ثم واحات الجنوب المتاخمة للنيجر والتشاد، وللجزائر أيضا، وخاصياتها ومنها الزنوجة والطوارقية، وربما خلايا نائمة للقاعدة، وعالم من التعقيدات والمصالح المتضاربة.

الكابوس يفرض نفسه بلا سابق إنذار، ولا توقع كاف. تتلعثم دول العالم، مترددة ما بين السلوك الواجب حيال ملايين المدنيين ضحايا القصف والتهجير، وبين حساب المصالح، حيث نفط وغاز وعقود تسليح وأخرى للإنشاءات المختلفة، ولصفقات تخطر ولا تخطر على بال. مصالح السيطرة أيضاً، فلعلها فرصة ذهبية لا يجب إضاعتها للتحكم عن بعد، بما يجري في مجمل المنطقة، بدءاً من أقرب الجيران. ينجلي التلعثم الأميركي والأوروبي ويتجه نحو مفردات نعرفها، خبرناها مرات: محكمة الجزاء الدولية، قرارات عقابية من مجلس الأمن، فرض منطقة حظر جوي، الشروع بضربات عسكرية، تسليح المعارضة.

ولكل ذلك مبرراته: كيف ننقذ المدنيين؟ كيف نمنع المجنون من التمادي، كيف نجبره على شيء؟ إلى آخر ما نعرفه وخبرناه مرات.

ولكن كل ذلك يأتي في باب الحرب. هذا في وقت نعرف جيداً أن الحروب الأخرى في المنطقة، في أفغانستان والعراق، لم تولد سوى الكوارث على كل الصعد، وأنها لم تنته بعد. ونعرف أن إسرائيل الهلعة من «التغيير في المنطقة» لا تحلم بغير إغراقها في دمائها، ونعرف أن الغرب مأزوم، وليس بصدد مغامرات جديدة، ونعرف أن القذافي يتمتع ـ ما زال ـ بود البعض، المصلحي كحالة روسيا والصين، و«الايديولوجي» التوهمي كما هي حالة شافيز. وأنه لا ينتظر إلا الضربة العسكرية ليخرج منها بطل أبطال المواجهة مع «الامبريالية»، ولا ينتظر سوى خطيئة تعامل معارضيه مع واشنطن لتعريتهم من كل شرعية. وأن مثل هذا السيناريو سيتسبب بإحباط عام للموجة الثورية في المنطقة، وبإرباكات شتى للسلطتين الوليدتين ـ بعسر ـ في مصر وتونس.

فلنستعد البديهيات: لم يعد من الممكن بقاء القذافي وأبنائه في السلطة، وهم باتوا غير مؤهلين أبداً لحكم ليبيا. قد ينجحون في التسبب بدمارها، أو باستدراج الغرب إلى التدخل، ولكنهم لم يعودوا حكام البلد، لا شرعياً ولا واقعياً وعملياً. ولم يعد المطروح أمام ليبيا هبة شعبية مدنية عامة قادرة على الحفاظ على طابعها السلمي وعلى تجنب الانزلاق نحو انقسامات لا حصر لها. وهي لذلك، وبغض النظر عن المآلات، يمكنها أن تتسبب في المستقبل أيضاً بثارات لا حصر لها، مما يجدد لزمن طويل التهديدات لليبيا. وليس الغرب جمعية خيرية إنسانوية، وهو لا يتبع غير مصالحه. ودائرة مصالح الغرب واسعة وهي تشمل علاوة على ليبيا، التفكير بالاستفادة من الفرصة للعبث بالمنطقة برمتها. ولكن الغرب اليوم ضعيف ومرتبك. وليست روسيا والصين وشافيز، وهم يجسدون معسكراً يسارياً سابقاً، بأكثر تجرداً من ذلك الغرب في مسلكه، وهم أيضا وفي الوقت نفسه منفتحون على البحث عن مخارج. وستدفع المنطقة، بمعناها الاقليمي الواسع، ثمناً فادحاً لكل مسار سيئ، ثمنا يطال واقعها الراهن كما آمال المستقبل وحراكه.

ولذلك كله، وإذا لم يرحل الرجل طوعاً أو قدراً، تتركز المصلحة على إيجاد نقطة تتقاطع عندها كل الجهود، الرسمية والشعبية، وتتجه نحو صياغة سيناريو آخر يقوم على تسوية إجبارية، لعل ملامحها تقع بين حدين: إخراج القذافي وحاشيته بطريقة "آمنة" من ليبيا، عبر إسقاط تهديد المحكمة الدولية، بمقابل سلطة انتقالية تتشكل بتنوع واسع يشمل في ما يشمل وجود ممثلين عن قبائل لم تلتحق بالثورة، ومنها قبيلة القذافي نفسه. وتضمن هيئة عليا إقليمية هذه التسوية وتواكبها، بحيث يتم تجنب التعبير عن غلبة، كارثية بالضرورة. وتقع على عاتق شافيز مثلاً، وروسيا والصين، وكذلك على عاتق الجامعة العربية، التي قررت دعم فكرة الحظر الجوي، وعلى سلطات مصر وتونس والجزائر وهي البلدان الجارة، وربما تركيا وإيران (صاحبتا الصلات الخاصة بـ«كل» ليبيا)، وقطر التي باتت خبيرة في إدارة الأزمات في المنطقة وبسبب الشرعية الثورية التي اكتسبتها قناة الجزيرة، مما لا يستهان به... عليها جميعاً البحث عن مثل تلك التسوية.

ويقع على عاتق المجلس الوطني المؤقت أن يتعامل مع المعطيات المطروحة أمامه، بما فيها تلك المتعلقة بالبحث عن تسوية وفق هذه العناصر، التعامل معها في وجهة تبرهن اليوم أنه ليس نسخة معدلة من منطق القذافي، وأنه حقاً مسؤول عن مصير الوطن.
"السفير"
 

التعليقات