29/11/2011 - 08:17

الاستبداد والاحتلال.. شرعيتا الثورة والمقاومة../ نصري الصايغ

فليكف الغيارى على المقاومة، عن الإغارة على الثورة السورية، وليوجهوا غاراتهم على الغرب الانتهازي وإسرائيل... أما عقلاء الثورة السورية، فعليهم واجب فهم المعادلة الإستراتيجية الكبرى، التي تضع النظام السوري أمام امتحانين: امتحان التخلي عن والصمود، وامتحان ضرورة التخلي عن الاستبداد بالإصلاح، ولجم التدخل الخارجي الذي بلغ حداً، بات من الواجب الثوري، قتاله، بكل ما أوتيت سوريا من قوة. هل هذا حلم؟ لم لا. إنه أفضل من العيش في الكوابيس، أو في خنادق النفاق والابتزاز والعجز

الاستبداد والاحتلال.. شرعيتا الثورة والمقاومة../ نصري الصايغ
 
I ـ من أولاً مرة أخرى

أثارت مقالتي "من أولا.. الثورة السورية أم المقاومة اللبنانية؟" ردود فعل متباينة. بعضها نمَّ عن فرح، بعودة الابن الضال، من الثورة إلى المقاومة. وبعضها أفصح عن شماته، وبعضها عن نكران، وغيرها عن "خيانة" الثورة.
 
لست وصياً على قراءة وفهم، فمن حق القارئ أن يذهب مذاهب شتى. النص، ليس سيداً أبداً. النص، مهما بالغ في دقته، يظل خاضعاً لطعن القارئ. لذا، فكل الحرية للقارئ، ولو أساء القراءة. هو سيد النص. يتعامل معه وفق مستوياته كافة.
 
ما أسجله في هذا النص، هو توضيح ما التبس فقط، وليس انتقاصاً من كيفية تناول القراء لمقالتي، رغم ما جاء في بعضها من "تهم ارتداد" ومسائل خيانية... ولا أشعر بضيق أو وخز ضمير، فالأمة مأزومة ومقسومة بين فسطاطين: إما مع النظام وإما مع الثورة؟ إما مع السنة وإما مع الشيعة؟ إما مع الإسلاميين وإما مع العلمانيين؟ إما مع المقاومة وإما ضدها؟ إما مع الحراك وإما مع المؤامرة؟ وفي مثل هذه المنعطفات، يصعب الحوار. فالتصنيف يسبق النص، ولا يترك للموضوعية مكانة دنيا... الأحداث زلزالية، التحولات عظمى، الديموقراطية مستجدة علينا وفينا، الاستبداد ينخر أرواحنا وأجسادنا.. والالتباس الدائم، شفيع من التزم شطراً من الفسطاطين.
أما بعد:

II
ـ هل هذه ثورة أم مؤامرة؟

في ظني، وبعد متابعة يومية، بحكم المهنة والمسؤولية التي أتولاها وأمارسها في جريدة "السفير"، أن لا تعريف جامعاً مانعاً للثورة. وما وقعت على تفسير موحد أو تفسيرات متلازمة، ولا حصلت على مجموعة العناصر والعوامل والأهداف والوسائل التي تجعل ثورة ما، تتطابق مع ما ورد من تعريفات. وتبين لي، أن السبب في ذلك، يعود إلى كون زمن حدوث الثورة، سابقا على زمن الكتابة عنها. وهذا أمر طبيعي تقريباً في معظم العلوم التجريبية. وهذا يعني أن الثورة سابقة على النظرية، وأن الثورة ليست بحاجة إلى نظرية... ثم ان الثورات في التاريخ هي من التعدد والاختلاف، بحيث يصح القول، إن لكل ثورة نظريتها، ولكل ثورة لحظة اندلاع، ولكل ثورة عوامل وأسباب خاصة، وقرابة ما بأسباب عامة ذات طابع إنساني عالمي لا علاقة لزمان ومكان وعقائد بها... واستطراداً، فإن الثورة هي "بكر" دائم. هي بنت الحَبَل الأول والمخاض الأول، وتمت بصلة قرابة، لنسل الاحتجاجات والثقافات والمعاناة... هي بنت بكر، ولكنها، ليست الإبنة الوحيدة.
 
فماذا نسمي ما حصل في تونس بدءاً، وفي مصر بعدها، ولا يزال، وفي ليبيا على ما فيها من التباس، وفي البحرين كذلك، وفي اليمن أيضا، وفي سوريا أيضاً وأيضاً وغداً في دول وممالك وإمارات وسلطنات عربية.
 
سميتها مع كثيرين غيري بالثورة العربية الديموقراطية. وقد احتفلت بها، بعدما تأخرت عن اندلاعها ما يقارب قرنا، انفصلنا فيه عن فكر النهضة ومستلزماته. المضاد للاستبداد والشمولية والفساد والاحتكار والاحتقار، والتزمنا ثقافة سياسية استعمارية، نقلنا استبدادها إلى كيانات، قلّدت البطة العرجاء، ثم قلدت "الأعور بين العميان ملك".
 
فهل هذه ثورة أم ماذا؟
المقاربة الأولى هي التالية، وعليها شبه اتفاق. تستمد الثورة شرعيتها من الاستبداد. لا شرعية لأي ثورة إذا لم تكن ضد الاستبداد، الذي يستحوذ في سلوكه وثقافته، على الظلم، بشتى ألوانه، على الاقصاء بأقسى وسائله، على الاستئثار بما لا يطاق، على القتل بسهولة، على العبث بمقدرات الأمة والشعب. كأملاك خاصة... والأهم الشعور الجماعي بالمعاناة اليومية، (وليس بما يكتب أو يقال) قهراً ومذلة وإقصاءً واستعباداً وسرقة للقمة العيش وكسرة الكرامة.
من هذا الاستبداد وحده، تستمد الثورة شرعيتها. بل تسمى باسمها، لأنها رد فعل جماعي على الظلم والاستبداد ومشتقاته.
 
فهل هذه الثورات العربية، التي اندلعت في بلادنا، خرجت عن هذا المصدر أم لا؟ هل هذه ثورات جاءت من الكتب والعقائد والديانات والأحزاب والثكنات والطوباويات القاتلة؟ إنها ثورات ولدت من رحم الاستبداد... لقد خيضت بسلمية فائقة القوة، في البدايات الأولى لصوتها المنادي بـ"الشعب يريد إسقاط النظام"، في دول، صفتها الأولى، الاستبداد. كان لدينا دزينتان من الدول العربية التي تتنافس في ما بينها بالاستبداد. الفوارق بينها، هي في نسبة ما ترتكبه من اجرام وكبت وسرقة وحقد.
 
كل ثورة اندلعت في بلادنا العربية، تُدعى ثورة، بأروع ما في هذه التسمية من نبل ومبادئ وقيم وحقوق وكرامة، خاصة وإنها ثورة، تطهرت من هَوَس السلطة، ولم يكن في منطلقاتها، أن تحل محل السلطة، (وهذا ما ارتكبتها ثورات مسلّحة، أقامت دكتاتوريتها واستبدادها بعد انتصارها). ولذا، كان شعارها: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وليس الحزب ولا الايديولوجيا ولا هذه المذاهب ولا هذا التيار ولا هذا القائد... كان الشعب، كل الشعب، والشباب الجديد، الإنسان الجديد بكل ما للجديد من معنى فائق الاحترام، مدعواً أولاً، لإلغاء نظام الاستبداد، ليباشر، كشعب متعدد الانتماءات والمذاهب والعقائد والافكار والتوجهات (إسلامي، ليبرالي، علماني، يساري، تقدمي، قبلي (نعم قبلي) في بناء النظام الجديد. هذا النظام الذي تقره آليات ديموقراطية، يتفق عليها في مناخ من الحرية، وفي يقظة من قوى "ظلامية استبدادية سياسية" من سرقة التاريخ. (ثورة ميدان التحرير الثانية، جرس انذار. ومن له أذنان فليسمع. الشعب خرج من بيوته ولن يعود، إذا لم تستقم أمور النظام الجديد، على قواعد الديموقراطية السليمة، والحرية المصانة، والعدالة المحروسة، والكرامة التي لا يعلو فوق جبهتها أحد أو شيء). أما بعد:

III
ـ هل هذه مقاومة أم ذراع فارسية؟

يشكك البعض في أن المقاومة الإسلامية في لبنان، ليست مقاومة، تارة، لأنها تلبس العمامة الشيعية وتهتدي بالسيرة الحسينية، وتارة لأنها ذراع فارسي ناطق بالعربية وأحد حصون طروادة في الاستراتيجية الإيرانية، أو أحد أجهزة تنفيذ لسياسات النظام السوري في الساحة اللبنانية. وقد أضيف إليها مؤخراً، بعد توجيه الاتهام لأربعة من صفوفها، بأنها مقاومة الغدر، وأنها باتت حزب السلاح الذي يعيش لبنان في ظل دكتاتوريته خدمة لدكتاتورية سورية تستعمل شتى أنواع القمع لوأد الثورة، وأنها وأنها...
أصوات تعلو لنزع صفة المقاومة عن سلاح حزب الله.
 
وهذا أيضاً ليس جديداً في التاريخ، فكما جهد البعض، ومنهم من أهل أنظمة الاستبداد العربية، ومنهم من "مثقفي" و"مفكري" و"منظري" الأنظمة الشمولية، لنزع صفة الثورة عن الحراك العربي الرائع والمميز، وألصقوه زوراً وبهتانا، بنظرية المؤامرة، إحدى أسخف النظريات السياسية على الإطلاق... فهذه في عرفهم، ليست ثورات، بل هي هجمة أميركية، غربية، إسرائيلية، للإطاحة بأنظمة الاستقرار (زين العابدين، حسني مبارك، معمر القذافي الخ) أو للإطاحة بالصمود والممانعة (بشار الأسد) الخ.
 
وعليه، وكما ألبست المقاومة الإسلامية لبوساً ليس على قياسها بالمرة، ألبست الثورات، وتحديداً في لحظات نقائها الأولى وفي سلميتها المذهلة بتضحياتها ودمائها وصمودها ومثابرتها، لبوساً غربيا: فهي مؤامرة وهي إسلامية وهي إرهابية.
 
صحيح ما قاله فاكلاف هافل: "إذا تعرفت إلى دكتاتور، تعرفت بهم جميعاً". إنهم يتشابهون. ليس لأحدهم عبقرية التميز في شيء. فهم يتشابهون بما يلي من صفات وأفعال: منع، قمع، تعسف، تعذيب، خطف، نفي، سجن، محاكمات شكلية. فساد وإفساد (للإدارة، والقضاء، والأمن والتربية والثقافة) استباحة المال العام والأملاك العامة، المتاجرة بالنفوذ، السمسرة (صفقات الأسلحة والدواء والبناء والإعمار والشركات المحلية) احتلال المجتمع بالتخويف، تضخم أجهزة الأمن، تسلط الأمن على السياسة والأحزاب والإعلام والرأي والفكر والنقابات والاتحادات العمالية والمهنية والثقافية والأدبية، السيطرة التامة على القول وإلغاء كامل للعمل بموجب القول، يضاف إلى ذلك، دوس القوانين، التلاعب بالدستور، تحويل مؤسسات الدولة التشريعية إلى فولكلور نيابي، ومؤسسات الدولة التنفيذية إلى إدارات تدار بالأجرة وبالإملاء من فوق، ومهمتها تسهيل كل ما هو غير قانوني. الغاء الانتخاب وجعله تمثيلية همجية... هذا هو الاستبداد العربي المنتشر، "ولا حدا أحسن من حدا".
 
لا يمكن اتهام من يعلن غضبه وثورته أنه مأجور أو في خدمة مخطط خارجي. وإذا حصل ذلك، سهل على المصطادين بالسياسة، أن يروا المقاومة بعيون بلقاء، ترى فيها خادمة مطواعة لسياسة الفرس الشمولية الزاحفة بمدها الشيعي من ايران إلى فلسطين، مروراً بعراق يزداد تشيعاً، وسوريا المؤيدة علويا شيعيا في الأكثر، ولبنان حيث يمتاز فيه حزب الله بفائض القوة.
 
أين المقاومة إذاً؟
هذه المقاومة بالذات، تستمد شرعيتها من الاحتلال. هي مقاومة لأنها رد على الاحتلال. بلا احتلال لا مقاومة. والمقاومة في لبنان، هي البنت الشرعية للاحتلال الأساسي في فلسطين تحديداً، ثم هي الابن النموذجي لمقاومة الاحتلال في لبنان. ولا يمكن بأي حال، إلا لمن قصر نظره عن قصد وعن غاية، أن يطالب بنزع سلاح المقاومة في لبنان، لأن الاحتلال الاسرائيلي قد زال معظمه.
 
إن المقاومة في لبنان، ليست لبنانية فقط. هي لبنانية وفلسطينية ايضا. وهي لبنانية وممانعة لذلك، لأن احتلال الصهيونية لفلسطين يتجدد كل يوم. وهذا الاحتلال، فجر ثورات عديدة على مر تاريخه، شاركت فيها قوات لبنانية مراراً، وانخرطت في مقاومة مسلحة تأييداً للحق الفلسطيني (ولم يكن لبنان يومها محتلا) كما انخرطت جموع سورية ومصرية مراراً... فلسطين ليست فلسطينية فقط. هي لبنانية وسورية وعراقية وأردنية، وعربية. وإسلامية ومسيحية. وقد اختار اللبنانيون، بملء كرامتهم وشجاعتهم أن يحملوا السلاح مراراً للدفاع عن الثورة الفلسطينية... إن فلسطين اليوم، ليست كفلسطين السبعينات وهدير الثمانينات وانتفاضات بداية التسعينات. ولا أحد يضمن اندلاع الأعظم، طالما الاحتلال الاسرائيلي دائم الاقامة والاغتصاب، وطالما أن رافضي ذلك، مسلحون ومؤمنون وأمامهم المدى الزمني القادم، لقلب المعادلة، لتصبح إسرائيل مهددة بعدما كانت متجبرة وساحقة وماحقة.
 
الثورة تستمد شرعيتها من الاستبداد الداخلي، المقاومة تستمد شرعيتها من الاحتلال الخارجي.
منطلقان يتشابهان وخياري الأكيد، ان أكون إلى جانب الثورة، حيثما اندلعت، حتى في سوريا، ومع المقاومة، أنى مارست حقها في مقارعة الاحتلال.
 
ولا يظهر هذا الانتماء أو الالتزام غير مجد بالمرة. فالثورات العربية، رغم من ينكرها من "أهل النظام العربي الواحد" ومثقفيه، قد أينعت ربيعاً ديموقراطيا في تونس، لأول مرة في تاريخ العرب الحديث... وموسم الربيع سيجتاح فصول السياسات العربية الكالحة، ولو كان بثمن باهظ.
 
وقد سبقت المقاومة الثورات العربية الديموقراطية في تحقيق معجزة غير مسبوقة، وهي تحرير لبنان، والصمود في وجه العدو، في اعتى حرب دولية عليه، (عدوان تموز 2006) كما أنها تحوّلت إلى هاجس يومي يقض مضاجع الاحتلال في إسرائيل. وقد نشهد في حرب قادمة، تغيّر وجه المنطقة.
 
فهل جائز مبدئيا وسياسياً نزع سلاح المقاومة، أو الطلب إليها التخلي عن حلف ممتد من طهران إلى بيروت فغزة مروراً بدمشق؟
أظن أن هذا مستحيل. وهنا ذروة المأساة وذروة القلق.
ما كان يجب أن يكون معاً، (الثورة السورية والمقاومة) صار ضداً. ومن كان صادقاً مع قيمه ومثله ومبادئه ومقاومته وثورته يتمزق. يده على الزناد، وقبضته مع الثورة، فإلى أين المفر!

IV
ـ الثورة والمقاومة شرعيتان لا تتناقضان

سهل جداً أن تكون في موقعك الموروث، أن تكون مع النظام أو ضده. لا يحتاج ذلك إلى جهد كبير. لكن من يقف بين ثورة يؤيدها ومقاومة لا يحيد عنها، لا يعيش حيرة بل قلقاً. لا ينتهز. لا يبرر. لا ينافق، هو هنا كما هو هناك. هو هذا المستحيل الذي لا حل له، إلا في نهاية الصراع... حيث تكون خسارة فريق كارثة حقيقية، وانتصار فريق أزمة عميقة.
 
قد يعتبر المنضوي إلى جانب الثورة السورية، أن هذا خُلف. فمن قال إن شعب سورية ضد المقاومة؟ طبعاً، لست أقول ذلك، وكثيرون مثلي يؤكدونه أيضاً. سورية ذات تاريخ فلسطيني ناصع جداً. إنما المسألة في السياسة. هذه مقاومة شريانها الحيوي دمشق الراهنة، بنظامها الحالي. ومن حقها أن تخشى وضعاً جديداً ثوريا، التحقت به القوى المضادة للحرية والديموقراطية والعدالة، ولا يهمها من فلسطين إلا نهايتها، ولا ترى إلى المقاومة إلا كمخرز إيراني... من حق المقاومة أن تخاف، وهي بنية مكتملة البناء، كلية الاستعداد، لمعركة ستحصل غداً. (هذا هو برنامج الاستعداد في المقاومة العمل كأن المعركة غداً). ومن حق الثورة على المقاومة، على الأقل، أن لا تسميها مؤامرة... (لقد أفرط إعلام المقاومة في اعتبار الثورة، مطية للتحالف العربي، التركي، الفرنسي، الأميركي)...

الثورة السورية، في بداياتها، كانت وحيدة. القمع عمل في استدعاء العامل الخارجي، وهو الحاضر دوماً، بسبب سياساته العدوانية السالفة، ليركب ثورة أو فتنة أو انقلاباً أو تحوّلاً... الغرب لا يتآمر علينا. إنه عدواني علناً، وعدوانيته تدفعها عنك بالممانعة الشعبية وليس بقمع الثورة. القمع بطاقة استدعاء للتدخل الخارجي. العدو بحاجة إلى فرصة. وهذه فرصته، وعلى الثورة أن "تدفع بالتي هي أحسن"، وليس بالأسوأ.
ماذا بعد؟

V
ـ التناقض البناء!
هل التناقض هذا طبيعي؟

إنه لكذلك، إنما لا بد من النظر إلى المسألة بمستويين اثنين. المستوى الأول، هو المستوى الثقافي والمبدئي. حيث ليس من الجائز أن يختار المثقف الثوري، ثورة تناسبه وينبذ ثورة لا تناسبه. هو هنا يتخلى عن قيمه وأخلاقه ومبادئه، لمصالح أخرى.
 
لا يستطيع المثقف الملتزم أن يكون مع ثورة هنا ومع نظام استبداد هناك. إنه منافق. وهو مع الاستبداد أصلاً وفرعاً. ولا يستطيع المثقف أن يكون مع ثورة هنا وضد المقاومة في لبنان. إنه لا يميز وجه الشبه بين الاحتلال والاستبداد. أو بالأحرى، هو يميز ويغض الطرف قصداً وكذبا. ولا يستطيع المثقف أن يكون مع المقاومة وضد الثورة، للأسباب عينها الواردة أعلاه. كما لا يستطيع أن يكون المثقف مع ثورة ومع سياسات الولايات المتحدة الأميركية، راعية الاستبداد في العالم، وحارسة النهب المنظم في الكرة الأرضية، وحاضنة إسرائيل الأبدية في ظلمها المطلق والذي لا شبيه له للشعب الفلسطيني، والمهينة للشعوب العربية.
 
ما يحكم المثقف مبدئيته. إذا تخلى عنها، صار في المستوى السياسي. وهو المستوى الثاني، حيث من حق من انخرط في مشروع سياسي (كالمقاومة مثلا) أن يختار الثورة التي تناسبه. الثورة السورية، لا تناسب المقاومة اللبنانية. وقد ذكرنا الأسباب آنفاً. لا مصلحة لها فيها. مصلحتها كمقاومة تخدم أنبل وأشرف القضايا: الحرية وفلسطين. أن تكون إلى جانب النظام السوري.
 
كيف وأنت تتفهم ذلك، تبقى إنساناً سوياً؟ كيف لا تنفصم؟ لعل الحل الذي أطمئن إليه هو التالي:
المقاومة أولاً... كمشروع منجز صار في طور بناء مستقبل عربي رافض للهيمنة الخارجية (والمقاومة وعدت وصدقت ونفذت) ومهدد للاحتلال في فلسطين. وهو احتلال كبدنا حروباً خاسرة كثيرة، واطمأن إلى أنظمة تسالمه لتصالحه.
 
ومع الثورة كذلك... مع رغبة ملحة، بأن تفوز في معركتها لبناء نظام ديموقراطي، لا يساير دول الهيمنة ولا يقع تحت قبضتها، علماً أن المخاوف على الثورة تتأتى من قمع النظام ومن توظيف الغرب العربي والأجنبي لهذه الثورة ضد المقاومة وضد القضية الفلسطينية.
 
ما هو مطلوب من المقاومة اللبنانية، ومن معها، أن تكف عن محاربة الثورة السورية واتهامها بأبشع النعوت. وهذه تهم ليست حقيقية بالمرة. فالثورة في سورية بأسبابها وعناصرها وبداياتها لا تختلف في شيء عن ثورة البحرين.
 
فليكف الغيارى على المقاومة، عن الإغارة على الثورة السورية، وليوجهوا غاراتهم على الغرب الانتهازي وإسرائيل... أما عقلاء الثورة السورية، فعليهم واجب فهم المعادلة الإستراتيجية الكبرى، التي تضع النظام السوري أمام امتحانين: امتحان التخلي عن والصمود، وامتحان ضرورة التخلي عن الاستبداد بالإصلاح، ولجم التدخل الخارجي الذي بلغ حداً، بات من الواجب الثوري، قتاله، بكل ما أوتيت سوريا من قوة.
هل هذا حلم؟
لم لا.
إنه أفضل من العيش في الكوابيس، أو في خنادق النفاق والابتزاز والعجز.
 
"السفير"

التعليقات