25/01/2017 - 15:13

جنازة تليق بالشهيد؟!

جنازة تليق بالشهيد؟!

"جنازة تليق بالشهيد"، هو الشعار الذي رفعته الناس منذ ارتقاء الشهيد المربّي يعقوب أبو القيعان في أمّ الحيران، يوم الأربعاء الماضي، وهو الوعد الذي قطعته القوى السياسيّة الوطنيّة في أراضي 48 عليهم، كما جاء في مختلف بياناتها وتصريحات قياداتها.

تمسّك الجميع بهذا المطلب، رافضين تمامًا رواية المؤسّسة الإسرائيليّة، حكومتها وشرطتها وإعلامها، بأنّ يعقوب "مخرّب" و"يؤيّد تنظيم داعش" و"أقدم على عمليّة دهس لشرطيّ"، بل هو مربّي أجيال وربّ عائلة كادح، جاؤوا ليهدموا بيته ويقتلعوه من أرضه في أمّ الحيران، القرية مسلوبة الاعتراف والمحرومة من مقوّمات الحياة الكريمة الأساسيّة، ليبنوا تجمّعًا سكّانيًّا لليهود فقط، على أساس عرقيّ، ضمن مخطّط استيطانيّ تهويديّ مستمرّ للنقب.

من أجل ذلك خرجت الناس

كثّف شعار "جنازة تليق بالشهيد" كلّ ذلك، وقد رافقته سلسلة شعارات تؤكّد على رفض سياسات الفصل العنصريّ، والتمسّك بكرامة الإنسان وحرّيّته، وحماية 50 ألف بيت مهدّدة بالهدم في البلدات الفلسطينيّة، ومواجهة النهج الاستعماريّ الإسرائيليّ، وقطع الطريق أمام نتنياهو الذي كان يسعى، في نظر كثيرين، إلى تأجيج الشارع ليصرف النظر عن قضايا الفساد وخيانة الأمانة التي يواجهها.

خرجت الناس في وقفات وتظاهرات يوميّة، عُقِدَت اجتماعات طارئة كثيرة، سالت دماء مواطنين وقادة، فنّد النشطاء رواية الشرطة عبر جمع الشهادات وتحليل الوثائق السمعيّة والبصريّة، تجنّد الإعلام دفاعًا عن العدالة، احتشد الناس بالآلاف في عرعرة، عَرَّضَ الشباب أنفسهم للخطر في تحدّيهم للشرطة، أُغْلِقَت الشوارع بالأجساد في أكثر من موقع، عُطِّلَ السير في شارع رقم 6 بقافلة سيّارات، تظاهرت الحركات السياسيّة أمام الكنيست، تظاهر المحامون العرب أمام المحكمة العليا، اعْتُقِلَ نشطاء، أُصيبَ آخرون، كلّ ذلك لانتزاع جثمان الشهيد المحتجز لدى الشرطة والتأكيد على روايتنا وحقّنا في حماية بيوتنا وأرضنا.

انتزعنا الجثمان، لكن...

تحقّق ذلك، انتزعنا الجثمان، حشود جبّارة توجّهت في اليوم التالي إلى أمّ الحيران، أمس الثلاثاء، كي تطبّق الشعار الذي رفعته، ولتنتظر الوعد الذي قطعته عليها القيادة: "جنازة تليق بالشهيد". لكن، هل كانت فعلًا الجنازة كذلك؟

لقد اعتاد الشعب الفلسطينيّ تشييع شهدائه، منذ بداية نضاله ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ عام 1917، ثمّ الإسرائيليّ، بمظاهر شبه احتفاليّة، إكرامًا لمن يرتقي من أجل ما نعدّه عدالة وحقًّا ورفضًا للظلم، لذا نسمّي تشييع الشهيد بـ "زفّة الشهيد"، وهكذا تكون، في نظرنا، لائقة به.

أمّا جنازة يعقوب أبو القيعان، فبدلًا من أن تعكس طاقة النضال الشعبيّ الوحدويّ الجميلة والنبيلة خلال الأسبوعين الماضيين، منذ هدم البيوت في قلنسوة، وتوصل رسالة سياسيّة متحدّية لممارسات المؤسّسة، وتعبّر عن هويّتنا الوحدويّة، فوق المناطقيّة والطائفيّة والعشائريّة، وتصدح بمطالبنا الجماعيّة، جاءت خلاف ذلك تمامًا.

جنازة بلا أيّ مسير، إذ أُحْضِرَ الجثمان إلى موقع المقبرة مباشرة، على الرغم من الإعلان سابقًا عن التجمهر لدى خيمة الاعتصام في مفرق السقاطي، والسير قرابة 300 متر في موكب جنائزيّ نحو موقع الدفن.

جنازة لا تتخلّلها إلّا هتافات قليلة أراد البعض إسكاتها، بلا رايات فلسطينيّة سوى واحدة أصرّوا على إنزالها، بلا راية يُلَفّ بها النعش، بلا كلمات سياسيّة سوى واحدة، بلا صور للشهيد، بلا لافتات تعبّر عن موقف، بلا أكاليل ورود سوى واحد يتيم، بلا زغاريد، بلا تكبيرات وتهليلات، بلا طلّابه، يشاركون في جنازته بزيّهم المدرسيّ الموحّد، هؤلاء الذين كتب لهم على اللوح: "عليك أن تؤمن بقدراتك"، في الصورة التي باتت مشهورة.

جنازة تمّت على عجل، صلاة سريعة، دعاءٌ تُلِيَ وفاتحة قُرِئَتْ قبل أن يوارى الجثمان الثرى!

من فراغ؟!

عدد المشاركين فقط هو ما كان يليق بالشهيد، إكرامًا من شعبه له وإصرارًا على الحقّ الذي استُشْهِدَ من أجله، أمّا دون ذلك من أمور تتعلّق بالتنظيم، وتحويل "زفّة الشهيد" إلى تشييع عاديّ، يسوده الوجوم والبؤس المحبطان، كأنّ المُشَيَّع في مرحلة الشيخوخة، قضى في ظروف غاية في الطبيعيّة، فهو بمثابة القبول بشروط الشرطة التي رفضناها طيلة الوقت، والتي أرادت أن يُدْفَنَ في عتمة الليل، بمشاركة 40 شخصًا فقط.

لم يولد هذا المشهد من فراغ، ولم يُغَيّر البرنامج الذي عُمِّمَ عبثًا، ولم يوجّه الناس إلى المقبرة مباشرة بلا موكب جنائزيّ عفويًّا، فهناك من أراد ذلك وأصرّ عليه، وقد شهدنا كيف تصرّفت شخصيّة برلمانيّة خدماتيّة قطع حلفاؤها الطريق أمام دخولها القائمة المشتركة، دافعة نحو هذه النتيجة، ربّما لتقول، ضمن حسابات سياسيّة أنانيّة وضيّقة: "أنا السيّد في النقب، لا سواي!"

أخفقتم

للفلسطينيّين في أراضي 48 ثلاث جهات تمثيليّة وطنيّة، اليوم؛ لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربيّة، والقائمة المشتركة، واللجنة القطريّة لرؤساء السلطات المحلّيّة، وجميعها متداخل، بل متشابك، وهم الذين وعدوا، تماشيًا مع نبض الشارع، بأن تكون "الجنازة تليق بالشهيد"، شكلًا ومضمونًا يصل إلى المؤسّسة الإسرائيليّة والعالم، وهو ما أكّد عليه السيّد محمّد بركة، رئيس المتابعة، باسم الجميع، في كلمته خلال تظاهرة عرعرة القطريّة الحاشدة. تلك الجهات مسؤولة أمامنا جميعًا، أمام شعبنا كلّه، وأمام قضيّتنا العادلة، وأمام ذات الشهيد، عن أنّ جنازته لم تكن كما باقي جنازات الشهداء، وأنّهم حرموه وحرمونا من ذلك.

لقد أخفقوا هناك، إذ لم يضطّلعوا بمسؤوليّاتهم، ولم يتصرّفوا كقيادة منحها الشارع ثقته، وأعفوا أنفسهم من العناية بتفاصيل تجعل من الجنازة لائقة بصاحبها، لا مفرغة من مضمونها السياسيّ الاحتجاجيّ والإنسانيّ، تحت ذرائع ومبرّرات غير مقنعة أبدًا، إن دلّت على شيء، فعلى فقدان الوزن السياسيّ، أو التماشي مع نفسيّة طأطأة الرأس والانهزام.

في قلوبنا مكانة تليق بالشهيد.

التعليقات