"السلام" يتداعى في كولومبيا بسبب الإهمال الحكومي

 لا زال هناك أكثر من ثلاثة آلاف مُقاتل يُحاربون الحكومة الكولومبية بعد مرور نحو عامين ونصف على عقد اتفاقية بين الأخيرة وتنظيم "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك)، على إنهاء الحرب الأهلية التي استمرت نحو خمسة عقود، مخلفة أكثر من...

(أرشيفية - أ ف ب)

 لا زال هناك أكثر من ثلاثة آلاف مُقاتل يُحاربون الحكومة الكولومبية بعد مرور نحو عامين ونصف على عقد اتفاقية بين الأخيرة وتنظيم "القوات المسلحة الثورية الكولومبية" (فارك)، على إنهاء الحرب الأهلية التي استمرت نحو خمسة عقود، مخلفة أكثر من 210 ألف قتيل ودمار هائل.

ويعود ذلك لعدّة أسباب شائكة، أهمها عدم التزام الحكومة ببنود الاتفاقية، وأزمة تشابك العلاقات التي بناها التنظيم في الريف الكولومبي على مدار عقود الحرب.

وأطلقت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، سلسلة تقارير معنية بـ"فشل الحكومات بالإيفاء بوعودها"، بتقرير مطول رصدت من خلاله بعض جوانب الصراع المستمر في كولومبيا، والذي لا يبدو أنه سينتهي قريبا بحسب ما ذكرته الصحيفة.

السلام المزعوم

دمرت الحرب مساحات واسعة من الريف الكولومبي، كما توقفت الحكومة عن تقديم الخدمات والبنى التحتية للمواطنين الذين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين، ما أضطر الكثير من الفلاحين إلى الاعتماد على زراعة المخدرات وإنتاجها.

وذكرت الصحيفة أن جميع أطراف النزاع اتُهمت بارتكاب فظائع، تتراوح بين الاختطاف والإخفاء والاغتصاب والإعدامات الميدانية وغيرها، التي أدت إلى نشوب عداوات عميقة بين أبناء الوطن الواحد وحتى داخل العائلات. 

وأفرزت الحرب الطاحنة، في نهاية المطاف، حاجة ماسة لعقد معاهدة سلام بين الـ"فارك" والحكومة، وهو بالضبط ما حصل في أيلول/ سبتمبر 2016، عندما كان يرأس البلاد خوان مانويل سانتوس.

وكانت المعاهدة التي توصل إليها الجانبان طموحة ومعقدة، وشملت أكثر من 578 بندا، لكن يمكن تلخيص جميع هذه البنود إلى عدّة تعهدات أساسية من الطرفين.

انطلقت ثورة الـ"فارك" المسلحة ضد السلطة، بهدف تحسين حياة سكان الريف، وهو ما أصرت عليه في صفقتها مع الحكومة، حيث وافقت الأخيرة على إدخال التعليم الشامل إلى المناطق الريفية من مرحلة ما قبل المدرسة وحتى المرحلة الثانوية؛ وبضمان حصول السكان على مياه صالحة للشرب؛ ومنحهم نسب عالية من الدعم الحكومي المُترجم ببرامج التنمية في المناطق التي كانت تخضع لسيطرة التنظيم.

وبدورهم، تعهد المتمردون بوقف جميع الأعمال العدائية وتسليم سلاحهم للأمم المتحدة، والعودة إلى الحياة المدنية، كما أنهم حصلوا على ضمان الحكومة بمنحهم حق الترشح للانتخابات البرلمانية.

أين الحكومة من تعهداتها بعد مرور عامين؟

قالت "نيويورك تايمز" إن مراسليها الذي زاروا بلدة جوان خوسيه الريفية، أكدوا أن لا شيء تغير بحالة سكانها المعيشية، حيث لم يحصل أكثر من 8 آلاف إنسان على أبسط الخدمات التي تعهدت بها الحكومة، لا مياه نظيفة ولا مدارس.

ومع ذلك، فقد وصلت الشرطة إلى البلدة لكنها لم تذهب بعد إلى القرى المجاورة.

ورغم ادعاء السلطات بأن عملية تقديم الخدمات تتخذ فترة طويلة قبل أن يشعر بها المواطنون في الريف، إلا أن المحلل في المجموعة الحقوقية "مكتب واشنطن لشؤون أميركا اللاتينية"، آدم إيزاكسون، أكد أن الحكومة لم تتخذ الإجراءات اللازمة لتنفيذ وعودها حتى الآن، وبالتالي فإن المناطق التي أهملتها الحكومة بعد الاتفاقية، خضعت لجماعات مسلحة أخرى.

نبتة الكوكا لا تزال مصدر رزق الفلاحين

لم يؤدي "السلام" إلى تخلي المزارعين عن زراعة الكوكا، التي تُستخدم في صناعة الكوكايين، لكن بسبب المعاهدة وتفكك "فارك" كتنظيم مسلح، فإن الجماعات المسلحة التي اجتاحت المناطق الريفية التي كانت تخضع لسيطرة التنظيم في السابق، تجد غايتها في تجارة الكوكايين المربحة.

وأشارت الصحيفة إلى أن الحكومة مسؤولة عن ذلك بشكل كبير، حيث أنها تعهدت بمنح مالية للمزارعين من أجل استبدال محاصيل الكوكا بمحاصيل أخرى قانونية، لكن في خوان خوسيه على سيبل المثال، أكد المواطنون على أنه منذ تسلم السياسي اليميني إيفان دوكي، منصب رئاسة البلاد عام 2018، توقفت المنح المالية لفترة معينة، ولم يصل مختصو الحكومة الذين من المفترض أن يقدموا محاصيل بديلة حتى اليوم. ما أدى إلى استمرار الفلاحين بزراعة الكوكا.

التراجع عن المصالحة 

اتفق طرفا النزاع عام 2016، أن يحصل معظم أعضاء "فارك" على العفو أو الإعفاء من السجن خلال المحاكمات، مع الإبقاء على الإدانة لأنواع جرائم محددة، الأمر الذي سيدفع أعضاء التنظيم بالإدلاء بشهاداتهم تحت غطاء واسع من الحصانة، يُتيح إرساء مصالحة حقيقية.

وهو أمر أثار استياء الكثير من الكولومبيين لكنه مرّ من أجل إحلال السلم. والآن، يريد الرئيس الجديد، إجراء "إصلاحات" شاملة في النظام القضائي، واصفا إياه بـ"المتساهل للغاية"، ما قد يهدد وضع مقاتلي "فارك" القانوني.

وأكد المحلل إزاكسون، إن "القدرة على الحصول على عقوبة مخففة والمشاركة في السياسة هو ما أقنع القوات المسلحة الثورية لكولومبيا" بالتوقيع على الاتفاقية.

خطوات إيجابية رغم قلتها

لقد أوفى "فارك" بجانب كبير من الاتفاق، عندما تخلى نحو 7 آلاف مقاتل من التنظيم عن سلاحهم، وسلموا 9 آلاف قطعة سلاح للأمم المتحدة، كما أن التنظيم سرح جميع أعضائه باستثناء مجموعة منشقة صغيرة.

وتم تنفيذ حوالي 23 بالمئة من 578 بندًا في الصفقة بالكامل، وفقًا لدراسة حديثة أجراها معهد "كروك لدراسات السلام الدولية" بجامعة نوتردام التي تراقب الاتفاقات.

مع ذلك، فقد أشارت الدراسة إلى أنه على الرغم من التقدم البطيء، إلا أن ثلث الالتزامات التي تعهدت بها الحكومة، سيتم الوفاء بها في الإطار الزمني المتفق عليه، مشيرة إلى أن البنود المتبقية إما في "حالة من التنفيذ الأدنى" أو لم يتم التطرق إليها بعد.

وقال القائد السابق للقوات المسلحة الثورية لكولومبيا، جوليان جالو كوبيلوس، "إنه لا يمكن إنكار أن الحكومة لم تف بوعودها، سواء بإعادة دمج المقاتلين السابقين بالحياة العامة أو التنمية الزراعية أو الإصلاحات السياسية. هناك إهمال عام".

ولم تُحكم الحكومة سيطرتها على  العديد من المناطق التي أخلاها التنظيم، مخالفة بذلك وعدًا رئيسيًا بالمعاهدة.

وأدت الفوضى والاضطرابات الناجمة عن ذلك في المناطق الريفية، إلى مقتل ناشطين كولومبيين كُثر، الذين قتل 252 منهم العام الماضي، ارتفاعًا من 191 في عام 2017، وفقًا لمعهد "كولومبيا لدراسات السلام والتنمية".

وقالت "فارك" في وقت سابق من الشهر الحالي، إن 130 من مقاتليها السابقين قتلوا منذ توقيع اتفاق "السلام". وقد اشتكى المتمردون السابقون مرارًا وتكرارًا من أن التسريح قد جعلهم بلا حماية ضد العصابات شبه العسكرية التي ما زالت تجوب الريف.

وضرب ذلك عملية السلام بشكل كبير، وقال الخبراء أن نحو ثلاثة آلاف شخص حملوا السلاح مرة أخرى، وهو ما يعادل أكثر من 40 بالمئة من الذين تم تسريحهم في البداية. ويشمل هذا العدد مجندين جدد.

الجيش لا يُفرق بين المسلح والمدني

قالت الصحيفة في تقرير آخر أعدته عن الانتهاكات التي يُمارسها الجيش الكولومبي ضد المدنيين أن قائد الجيش، المحبط بسبب الجهود المتعثرة التي بذلتها البلاد من أجل السلام، أمر قواته بمضاعفة عدد القتلى من المجرمين والمقاتلين، دون الاكتراث إلى الخسائر البشرية الإضافية، وفقا لأوامر مكتوبة ومقابلات مع كبار الضباط.

وقام الجنود مرارًا وتكرارا، بقتل الفلاحين بزعم أنهم من مقاتلين الذين رفضوا التخلي عن السلاح، وفي بعض الأحيان، كانوا يلبسون الضحايا ملابس عسكرية ويضعون أسلحة بالقرب من أجسادهم، وهي تكتيكات قال مدعون إنها تنبع من قادة الجيش الذين يطالبون بزيادة عدد الجثث.


 

 

التعليقات