جنوب دمشق: الأمراض الوبائية تفتك بأطفال الحصار

لا نريد بيانات من أحد. لا نريد تضامنهم. لا نريد بكاءهم. بعد أربع سنوات على القصف و التهجير و المذابح و الحصار، ولا نريد من أحد أن يبكي شهداءنا، فنحن أولى بهم . ولأولئك الذين يتحدثون باسمنا ويسمسرون بأوجاعنا ويتاجرون بدماء أطفالنا أقول إن اليوم زائل، وإن الأجيال لا تنسى، وإن التاريخ يسجل، وإن الذاكرة ربما تمرض لكنها حتما لا تموت

جنوب دمشق: الأمراض الوبائية تفتك بأطفال الحصار

عانى جنوب دمشق، وما زال، ظروفا إنسانية مأساوية على كل الصعد بسبب الحصار وسياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها قوات الأسد ضد كل المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام، باعتبارها حواضن اجتماعية 'للثوار'. فمنذ أن خرجت أحياء وبلدات الجنوب الدمشقي عن 'طاعة' الأخير والتحقت بالمدن والبلدات السورية الثائرة، أغلقت القوات النظامية والميليشيات المساندة لها كافة منافذ المنطقة، ما أدى إلى أوضاع كارثية دفعت بالعديد من المنظمات الحقوقية والإنسانية لتوصيف ما يحصل بأنه أسوأ مأساة إنسانية في القران الحالي.

الحصار المستمر منذ أكثر من سنتين ونصف خلف مئات الضحايا نتيجة الجوع وسوء الرعاية الطبية، وما يقارب 20% منهم أطفال. ويعتبر الملف الطبي واحدا من أكثر القضايا مأساوية جنوب العاصمة إذ عانى منذ البدايات وحسب القائمين عليه من التهميش وعدم الاهتمام، الأمر الذي أدى إضافة لعديد الأمراض التي اجتاحت المنطقة إلى عجز شبه كامل داخل النقاط  الطبية العاملة هناك.

الدكتور محمد الإدريسي، الناطق الإعلامي باسم الهيئة الطبية العامة جنوب العاصمة دمشق، يؤكد بأن عدد النقاط الطبية العاملة في المنطقة قليل وليس بإمكانه تغطية كل الاحتياجات، موضحا وجود ثلاث نقاط طبية للإسعافات الأولية ومستوصفين خارجين عن الخدمة تقريبا، ومركز للعلاج الفيزيائي يعتمد اعتمادا كليا على الكادر البشري دون  أي تجهيزات، وآخر للتصوير الشعاعي فيه بعض التجهيزات بالكاد تفي بالغرض، إضافة إلى المشفى الوحيد في المنطقة، وهو مشفى شهيد المحراب، مشيرا إلى أن الأقسام المتواجدة في هذا المشفى هي ' جراحةعامة - جراحة أوعية - جراحة عظمية - جراحة نسائية - جراحة رأس وعنق - جراحة فكين - جراحة صدرية - داخلية - أطفال - أذن أنف حنجرة'.

ويذكر الإدريسي بأن عدد الصيدليات في المنطقة هي 3 فقط، تعمل على صرف الوصفات الطبية الصادرة من أحد النقاط العاملة في المنطقة مجانا، وفي أحيان أخرى بأسعار رمزية، موضحا أن المأساة تكمن في كون 80% من أصناف الأدوية والمستلزمات الطبية مفقودة بشكل كامل، و 20% المتبقية هي أدوية منتهية الصلاحية،  ونحن مضطرون لاستخدامها. هذا ليس خيالا بل هو حقيقة وواقع. هذه ليست دراما تراجيدية نحن نعيش هذا الواقع يوميا. قد يسأل البعض كيف؟ ليس لدي جواب سوى أن العناية الإلهية تتلطف بنا.

أبو عدنان، وهو ممرض في إحدى النقاط الطبية، يصف الوضع الطبي في جنوب دمشق بأنه أشبه  بمريض مصاب 'بالغرغرينا' في كل فترة تضطر لأن تبتر جزءا من جسده كي يستطيع الحياة، لكنه في النهاية سيموت. يقول: 'نحن نقارع المستحيل. إلى متى سنستمر؟ لا أدري، لكننا نعمل وسنستمر، لن نيأس لأن الأهالي هنا ما زال لديهم شيء من الأمل. هل سيتغير شيء؟ لا أعرف. هل سيتحرك أحد؟ ليس لدي معطيات. نحن مستمرون'.

ويؤكد الإدريسي أن أهم النواقص التي يعانون منها وتحول دون إنجاز عملهم بالحدود الدنيا تتلخص في 'الحاجة الملحة لطبيب أعصاب متخصص وجراحة عصبية، إضافة للنقص الحاد بالمعدات والمستلزمات الجراحية'. كما يشير إلى حاجتهم الماسة لمخبر تحاليل طبية، حيث أن أغلب التحاليل الطبية التي تجرى في المنطقة هي تحاليل بسيطة لا يمكن الاعتماد عليها، و كذلك الحاجة لأجهزة التصوير سيما الطبقية المحورية.

ويوضح الإدريسي من خلال حديثه أنه في كثير من الأحيان ونتيجة النقص في الأدوات والمستلزمات الطبية يضطرون لبتر أعضاء المصابين، وفي حالات أخرى يموت المصاب دون أن يتمكنوا من فعل شيء.

الناطق الإعلامي باسم الهيئة الطبية العامة جنوب العاصمة يذكر أن هيئات ومؤسسات المعارضة لم تبد اهتماما بالوضع المأساوي الذي يعانون منه. ويؤكد على أن المعارضة بهيئاتها المختلفة منفصلة عن الواقع، ومتواجدون على وسائل الإعلام، وبعيدون عن حقيقة المأساة في الداخل. وهناك إهمال شبه متعمد لجنوب دمشق، مشيرا إلى أن الدعم الشحيح الذي كان يصل تم قطعه منذ أشهر عن المنطقة بشكل كامل دون معرفة الأسباب حتى اللحظة.

الممرض أبو عدنان يتساءل: 'أين هو هذا العالم؟ أين مؤتمراتهم واجتماعاتهم؟ لم نر شيئا.. حتى أكفان أطفالنا لم يرسلوها. البعض أرسل برقيات تعزية عبر الإعلام .. شكرا لهم'.

المأساة في الجنوب الدمشقي لم تقف عند حدود النقص في الكوادر المتخصصة وانعدام الأدوية والمستلزمات الطبية، بل تعدتها إلى اجتياح مجموعة من الأمراض للمنطقة باتت تهدد بكارثة حقيقية في حال لم يتم التحرك باتجاه إيجاد حلول ومخارج، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

الهيئة الطبية العامة في جنوب العاصمة  تقول إن أكثر الأمراض انتشارا هي التهاب الكبد الوبائي 'a'، حيث تم تسجيل مئات الحالات دون وجود إحصاءات دقيقة موثقة، مات منها ثلاثة أشخاص على الأقل نتيجة عدم توفر سبل العلاج. وتضيف الهيئة أنه في شهري حزيران و تموز اجتاحت المنطقة 'الحمى التيفية' حيث تم توثيق نحو 938 حالة تيفوئيد و 89 حمى مالطية، وتجاوزت نسبة الأطفال بين المصابين 40%.

كما أوضحت الهيئة أن نسبة الوفاة للمصاب بالحمى التيفية في حال عدم توفر مستلزمات الرعاية والعلاج هي 10% - 20%. ويقول الإدريسي 'تخيلوا كيف سيكون الوضع مع هذا العدد المرتفع للإصابات'. ويضيف مؤكدا وجود مجموعة من الأمراض الإنتانية على مستوى الجهاز الهضمي والتنفسي، و تسجيل ثلاث حالات اشتباه للإصابة بمرض الكوليرا.

ويضيف أن أهم الأسباب لانتشار الأمراض والأوبئة في المنطقة يتلخص في الحصار المفروض من نظام الاسد منذ حوالي سنتين ونصف، وقطع المياه الصالحة للشرب، واستخدام المزارعين مياه الصرف الصحي لسقاية المزروعات، واعتماد الأهالي على مياه الآبار الملوثة وغير الصالحة للشرب، مشيرا إلى أن المطلوب إنهاء الحصار وإدخال الأدوية والمواد اللازمة لتعقيم مياه الشرب.

الوضع المأساوي على كافة الصعد في جنوب دمشق دفع بالهيئة الطبية العامة جنوب العاصمة لإطلاق عشرات البيانات ونداءات الاستغاثة عل أحدا ما في هذا العالم يتحرك لوقف عجلة الموت الدائرة، وما من مجيب حتى الآن.

ويوجه الإدريسي رسالة إلى العالم  قال فيها: 'نطالب العالم  والمنظمات الدولية بالتدخل والضغط على نظام الأسد للسماح بإدخال الأدوية والمستلزمات الطبية واللقاحات وحليب الأطفال ومواد تعقيم المياه وإدخال لجان طبية دولية لتحليل المياه، وإجراء دراسات واستقصاءات لمعرفة أسباب الأمراض. نوجه رسالتنا إلى كل أحرار العالم بأن في سوريا من لم يمت بقذائف وبراميل وصواريخ النظام، سيموت بالأمراض والأوبئة والجوع. نطالب المنظمات الحقوقية بأن تتحمل مسؤولياتها، وأن تتدخل لإنقاذ أطفال ونساء جنوب دمشق، وإلا فإن هذه الحقبة ستكون وصمة عار في تاريخ الإنسانية، وستذكر الأجيال أنه في القرن الحادي والعشرين وقف العالم ينظر إلى أطفال ونساء سوريا تقتلهم حمم ونيران الأسد، وتفتك بهم الأمراض والأوبئة نتيجة الحصار، والكل في صمت مطبق'.

الممرض أبو عدنان قال 'لا نريد بيانات من أحد. لا نريد تضامنهم. لا نريد بكاءهم. بعد أربع سنوات على القصف و التهجير و المذابح و الحصار، ولا نريد من أحد أن يبكي شهداءنا، فنحن أولى بهم . ولأولئك الذين يتحدثون باسمنا ويسمسرون بأوجاعنا ويتاجرون بدماء أطفالنا أقول إن اليوم زائل، وإن الأجيال لا تنسى، وإن التاريخ يسجل، وإن الذاكرة ربما تمرض لكنها حتما لا تموت'.

التعليقات