مصير عميل "انتهت مدة صلاحيته.."../كتب هاشم حمدان

-

مصير عميل
نشرت صحيفة "هآرتس" قبل أكثر من أسبوع تقريراً، ورغم أن التقرير قد عرض في سياق إثارة قضية ما يسمى في الخطاب الإسرائيلي بـ"المتعاونين"، من باب الكشف عن "نكران الجميل" والقلق على مصيرهم في إسرائيل، وذلك حتى لا يكون المصير البائس الذي انتظرهم دافعاً للتراجع في حجم العمالة، إلا أنه يمكن قراءة التقرير من باب اعترافات عميل سقط في مستنقع الخيانة، ويصف المصير الذي كان ينتظره في السجون الإسرائيلية بعد أن "انتهت مدة صلاحيته".. ولم يشفع له تاريخه الأسود في الخيانة..

ويشير إلتقرير إلى ضلوعه في عدد لا يحصى من العمليات في خدمة الإحتلال، من بينها الكشف عن مكان اختباء عدد من الأسرى الفارين من سجن الرملة، إرشاد قوات الإحتلال إلى أماكن المطلوبين الفلسطينيين، بل وتنفيذ عمليات اعتقال، وتضليل مقاومين لتسهيل اغتيالهم أو القبض عليهم، والمساعدة في إطلاق سراح شرطي إسرائيلي كانت قد أسرته عناصر المقاومة، والكشف عن منفذي الهجوم على سيارة الوزير دافيد ليفي في حينه، وبيع أراض عربية في القدس والخليل للمستوطنين، وغيرها..

***

رامي برهوم أحد كبار "المتعاونين- العملاء"، ويقال إنه كان يطلق عليه لقب "ملك الأغوار" عندما كان في أوج "سطوته- عمالته" في سنوات الثمانينيات، وذلك بحسب محاميه، مناحيم مور، الذي كان أحد العاملين في الأجهزة الأمنية لمدة 30 عاماً، ثم تعلم الحقوق وغير مهنته.

"كان متعاوناً مكشوفاً ساعد الحكم العسكري وجهاز الأمن العام (الشاباك) والشرطة. وكل جندي خدم في منطقة أريحا والأغوار يعرفه. وكان من القلة التي قدمت الكثير من الخدمات لإسرائيل.. أما اليوم، وعندما أصبح في جيل 48 عاماً، فقد بات هزيلاً ضامراً، مريضاً بالسكري والسل، وغير قادر على المشي لوحده، ويوشك على الموت في السجون الإسرائيلية، بدون أن يتحرك أحد لتقديم المساعدة"..

وبعد أكثر من 20 عاماً، التقى برهوم ومور ثانية. وتطوع مور لتقديم طلب لإطلاق سراح برهوم بشكل مبكر نظراً لأسباب صحية، إلا أنه بدوره أصيب بعدوى داء السل..

ولد برهوم في أريحا لأبوين فلسطينيين اضطرهما عدوان 1967 إلى اللجوء إلى الأردن. وعلمه عناصر الأجهزة الأمنية كيف يرضيهم بخدماته على حساب شعبه.

يقول إنه ربط مصيره بإسرائيل منذ مطلع سنوات السبعينيات. زيف بطاقات هوية من أجل التطوع في الشرطة. ويقول إن سمع ذات يوم أن خلية فدائية تكمن في بيارة. فذهب إليهم. وعندما رأوه اعتقدوا أنه مجرد ولد صغير، وسألونه عن الطريق التي تؤدي إلى الحدود مع الأردن، فأشارت لهم إلى الجهة، وفوراً سارع إلى تقديم تقرير إلى قوات الأمن. وتبين لاحقاً أن الخلية عبارة عن مجموعة الأسرى الفلسطينيين تمكنوا من الهرب من سجن الرملة في الهروب الكبير، وقد تم اعتقالهم وإعادتهم إلى السجن..

يقول:" في تلك الأيام كنت أقول بعمل كتيبة كاملة، والجيش الإسرائيلي يعرف ذلك. كل الجنود من الأغوار إلى رام الله يعرفونني. كنت أدخل بيوت المطلوبين الأمنيين لوحدي لإقناعهم بتسليم أنفسهم بدلاً من إدخال قوات الأمن إلى المخيمات".

وذات مرة رفض أحد المطلوبين تسليم نفسه حتى لا يتهم بالتعاون في حال وافق على الخروج معه، فقام باعتقاله ووضعه بصندوق السيارة الخلفي بالقوة، وسلمه لقوات الأمن.. وهنا يقول:" بدل من أن يقدموا لي الشكر، كانوا ينوون تقديمي للمحاكمة بسبب وضع المعتقل في صندوق السيارة"..

وعندما فرض رئيس الحكومة في حينه، يتسحاك رابين على الجيش عدم اقتحام أحد المساجد حيث كان بداخله عدد من المطلوبين. وكانت أوامر رابين قاطعة في حينه بعدم الدخول إلى المسجد. وعندها قررت قوات الأمن في المنطقة التشاور معه. وفرح بدوره للمهمة التي أوكل بها، فاصطحب معه أحد المسنين ودخل المسجد، ولما اكتشف أنه لم يكن في الداخل أكثر من مطلوب واحد، انهال عليه بالصراخ بذريعة أن الناس يريدون أن يصلوا الجمعة في المسجد، وهو بفعلته يمنعهم من ذلك. وأقنعه بالهروب من المسجد من شباك خلفي. وكان عدد من الجنود يراقبون المسجد من الجهة الخلفية، وعلى الفور باشروا بإطلاق النار فأصابوه، وكادوا أن يصيبوا برهوم أيضاً.

وبدوره يشيد "مشغل" برهوم من جهاز الأمن العام (الشاباك) بدوره ويؤكد على كل كلمة يقولها. ويضيف قصة أخرى، فيقول إنه عندما اختطف الشرطي حاييم نافون من قبل مجموعة من الفدائيين في الأغوار، تم تخليصه بمساعدة "المتعاون برهوم".
ويضيف برهوم مشيراً إلى الهجوم الذي تعرض له الوزير في حينه، دافيد ليفي، أثناء مروره في طريق الأغوار، حيث أصيب بجراح. وخلال نصف ساعة قاد برهوم قوات الأمن إلى بيت منفذي الهجوم.

في العام 1994، قبل توقيع اتفاقية أوسلو، طلب من برهوم أن يغادر أريحا، خشية أن يتعرض لانتقام الأسرى المحررين والناشطين في فصائل المقاومة الفلسطينية. فانتقل إلى مدينة القدس مع زوجته وأولاده الخمسة، وتم منحه مواطنة إسرائيلية ورخصة لحيازة السلاح وسلاحاً شخصياً.

بعد انتقاله إلى القدس أسس لجنة للمحافظة على ما أسمي "حقوق المتعاونين الفلسطينيين في إسرائيل وفي مناطق السلطة". وفي حينه حظيت اللجنة بتغطية صحفية، الأمر الذي لم يرق لأجهزة الأمن، ما حدا بجهاز الأمن العام إلى تشكيل دائرة تعنى بشؤون "المتعاونين".

في هذه المرحلة هجرته زوجته وهربت مع عميل آخر..

ومنذ انتقاله إلى القدس عمل برهوم سمساراً في صفقات بيع الأراضي العربية في منطقة القدس والخليل، بالتعاون مع المستوطنين، وكان دوره مقتصراً على عدم إظهار عملية البيع لليهود. وجرى توريطه في مخالفات تزييف واحتيال (من العام 1996)، وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين ونصف. وبعد سنة من دخوله إلى السجن، في العام 2005، تم فتح ملف آخر ضده من العام 1996، بتهمة عرض تصريح دخول مزيف على المحكمة العليا، كان قد منح له للدخول إلى قسم الشحنات في جسر ألنبي، وحكم عليه بالسجن مدة ستة شهور فعلية إضافية. وعن ذلك يقول إنهم تعمدوا إضافة هذه الشهور الستة لإبعاده عن دائرة "تأهيل السجناء" التي لا يحظى بها من يحكم عليه بالسجن لمدة 3 سنوات فصاعداً.

وخلال السجن تفاقمت حالته الصحية بسبب مرض السكري وبدأ يفقد الرؤية. وفي العام 2005 التقى المحامي مور ببرهوم في السجن للمرة الأولى في سجن "نيتسان- الرملة". وعن ذلك يقول مور:" جلسنا وتحدثنا طويلاً.. كان يسعل طوال الوقت".. بعد أيام تلقى المحامي مور مكالمة هاتفية من برهوم يخبره بأنه تم اكتشاف داء السل لديه. ولاحقاً أثبتت الفحوصات الطبية أن العدوى قد انتقلت للمحامي أيضاً..

وتنسحب أقوال المحامي مور في وصف التدهور الصحي لحالة برهوم في السجن على السجناء والأسرى عامة من جهة الإهمال الطبي، حيث يقول:" طوال شهور، قبل أن يتبين المرض، اشتكى برهوم من ارتفاع في درجة الحرارة والتعرق والسعال، وهي العلامات الأولى لمرض السل، ولكن أحداً لم يلتفت إليه، وتفاقمت حالته، وفي الوقت نفسه ظل يلتقي مع الناس، من بينهم المحامي، ونقل لهم العدوى.."..
مر 11 شهراً على برهوم وهو يقبع في قسم "السل" في المركز الطبي في سجن الرملة، حيث يوجد 10 غرف في القسم، جميعها فارغة، ويجلس وحيداً لا يراه أحد ولا يرى أحداً..

وبحسب تقارير السجن، فإنه منذ أن تبين وجود داء السل لدى برهوم، في 27/09/2005، تم تحويله إلى قسم السل لتلقي العلاج، إلا أنه يرفض تلقي العلاج الذي يرافقه ظواهر جانبية شديدة وقد تكون خطيرة.

توقع المحامي وبرهوم أن يتم إطلاق سراح الأخير بعد انقضاء ثلثي المدة. ولكن اللجنة المخولة بتخفيض ثلث المدة (لجنة الثلث) رفضت تخفيضها بسبب ملفات تتصل بالعنف داخل العائلة منذ السبعينيات والثمانينيات، علاوة على ملف من العام 1998 جرى إلحاقه بسجله السابق، بالإضافة إلى مكوثه عدة مرات في السجن في فترات سابقة. كما لم يتم منحه أي فرصة للخروج في عطلة من السجن. ومن جهتها صادقت المحكمة المركزية على القرار بعدم تخفيض ثلث فترة الحبس.

وبحسب برهوم فإن الفترات التي قضاها في السابق في السجن، تتصل غالبيتها بترتيبات مع جهاز الأمن العام، حيث استخدم لإسقاط المعتقلين السياسيين أثناء التحقيق في "غرف العار"، وهو ما يعرف بلغة السجون بـ"العصافير". إلا أن فترة مكوثه هذه في السجن قد استغلت كـ"ماض جنائي" لمنعه من الحصول على تخفيض ثلث المدة.

ويصر برهوم على أنه ملاحق، فيقول:" أقبع في السجن بدون أي عطلة، وبدون تخفيض ثلث المدة، خاصة في ظل المرض، فقط لأنني أغضبت عناصر الشاباك عندما أقمت "لجنة المتعاونين".. إسرائيل ناكرة للجميل في علاقتها مع المتعاونين، فهم يعدمون في مناطق السلطة الفلسطينية، وفي إسرائيل يلقى بهم إلى الشوارع وينامون في الحافلات. وبسبب هذا التعامل لا يريد أحد أن يتعاون مع إسرائيل، وبالنتيجة فقد مر 4 شهور بدون أي طرف خيط لمكان الجندي الأسير غلعاد شاليط.."..

وبعد طلاقه من زوجته الأولى، التي هربت مع عميل آخر، تعرف إلى فتاة أخرى من أوكرانيا وتزوجا في العام 2002، وسكنا سوية مع خمسة أولاده في القدس. إلا أنه تم اعتقالها مؤخراً من قبل الشرطة وجرى طردها من البلاد لكونها تقيم بشكل غير قانوني..

وعن ذلك يقول برهوم إن دائرة تأهيل السجناء تلاحقه أيضاً. ويضيف لقد قاموا بإبعادها قبل شهرين، أي قبل خمسة شهور من موعد إطلاق سراحه. وكان أفراد دائرة تأهيل السجناء قد زاروا بيته في وقت سابق وتعرفوا إليها وقدموا لهما المساعدة في دفع أجرة البيت، والآن وبدلاً من ترتيب أمر إقامتها في البلاد قاموا بطردها. وبرأيه فإنه لا يعفي الشاباك من المسؤولية، فالقرارات من هذا النوع تمر عن طريقهم. وكان الشاباك على صلة بها، وتعهدوا له بمنحها الإقامة بعد مرور 5 سنوات على مكوثها في البلاد..

بعد طرد زوجته من البلاد، صدر قرار من المحكمة بعدم طردها، ولكنه كان متأخراً. ولا يزال رامي برهوم فريسة للسجن والسكري والسل..

***

أخيراً وبينما لم "يبق من رئتيه سوى بضع سعلات"، فمن الواضح أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لم تعد بحاجة إلى عمالة برهوم، وبحسب معد التقرير فقد "ألقي به بالسجن بعد انتهاء استخدامه".. ويبدو أنه لم يعد له أية قيمة سوى أنه أصبح مادة جيدة للإعلام تفرد له "هآرتس" حيزاً لتقرير يزيد عن 2500 كلمة.. تصلح لـ"الإستخدام الأخير".. وتصلح أيضاً "عبرة لمن يعتبر"..



التعليقات