رسالة إلى إسرائيل والإسرائيليين../ د.سعيد كفايتي**

-

رسالة إلى إسرائيل والإسرائيليين../ د.سعيد كفايتي**
انتهت الحرب التي دارت رحاها في لبنان بين حزب الله وإسرائيل، لكن دون أن يتوقف الجدل حول طبيعة هذه الحرب، ومن أشعل فتيلها؟ أهي حرب بين دولتين أم بين دولة وميليشيا مسلحة؟ من المنتصر ومن المنهزم في هذه الحرب؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي تفنن في طرحها سياسيون وخبراء في الاستراتيجيا ومفكرون من كل حدب وصوب. من الخطأ الاعتقاد بأن حزب الله قد جر لبنان إلى حرب هو في غنى عنها كما ذهب إلى ذلك جورج بوش و ايهود أولمرت وثلة من القادة العرب. إن قضية اختطاف الجنديين الإسرائيليين ايهود كولدفاسير وإلداد ريجيف من قبل المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان لم تكن في واقع الأمر سوى ذريعة بررت بها إسرائيل عدوانها على لبنان. ولا تختلف هذه الذريعة عن حادثة المروحة التي كانت منذ ما يزيد على قرن وثمانين سنة سببا في احتلال فرنسا للجزائر.وذلك عندما استقبل الداي حسين قنصل فرنسا بالجزائر السيد دوفال يوم 29 أبريل 1927ووقعت مشادة كلامية بينهما بسبب إهانة مقصودة وُجهت إلى الداي الذي يتمالك أعصابه فقام بضرب القنصل بالمروحة التي كانت في يده.

وما يؤسف له أن أصواتا عربية سارعت إلى الجهر بأن دفاع حزب الله عن لبنان وتصديه للعدوان الإسرائيلي هو مغامرة غير محسوبة العواقب. إذ من غير المعقول أن تواجه المقاومة الإسلامية الصغيرة من حيث العدد والعدة جيشا مدججا بالأسلحة، جيشا كان إلى عهد قريب لا يقهر.

إن لهذا المنطق الاستسلامي دواعيه التي لا تخفى على أحد. أولا أن هذه الحرب صُنفت على أساس أنها بين دولة وميليشيا مسلحة. فمنذ اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على لبنان احتد النقاش حول طبيعة الهجوم الإسرائيلي، وموقف القانون الدولي و معاهدات جنيف منه.

إذا كانت الحرب بين دولتين فإن الهجوم الإسرائيلي ستلحقه الإدانة من القانون الدولي. أما إذا كانت الحرب بين دولة وميليشيا مسلحة فإن القانون الدولي يخول لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها. وقد ذهب الكثير من الخبراء الدوليين إلى القول بأن الهجوم الإسرائيلي على لبنان هو حرب بين دولتين وليس بين دولة وميليشيا مسلحة يقول. فينكر: ان إسرائيل لم تُهاجم حزب الله وحده، بل هاجمت أهدافاً اقتصادية ومنشآت مدنية لبنانية لا علاقة لها بالحرب علي حزب الله . بل ذهب أكثر من ذلك حين طالب بلاده صراحة بإصدار بيان سياسي تعتبر فيه الهجوم الإسرائيلي علي لبنان حرباً بين دولتين. ويضيف فينكر وفي هذه الحالة فإن إسرائيل ستُعتبر دولة مُعتدية تكون مُلزمة بدفع تعويضات للبنان . لكن جاء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 ليردّ علي السؤال الهام هل هي حرب بين دولتين أم حرب بين دولة و ميليشيا مسلحة؟ غير أن القرار، وللأسف الشديد، لا يقر أن إسرائيل شنت حرباً شاملة علي كُلِ لبنان انتهاكا للقانون الدولي، بل انه يَصف قصف وتدمير بلدٍ بأكمله بأنه نتيجة هجوم حزب الله علي إسرائيل ، وذلك لتجنيب إسرائيل المسؤولية القانونية علي عدوانها وما يترتب عليها من تبعات كدفع التعويض.

ثانيا أن هذه الميليشا المسلحة ممثلة في الجناح العسكري لحزب الله هي حسب التصور الغربي ولاسيما الإمريكي منه منظمة إرهابية تُضاف إلى لائحة المنظمات الإرهابية الأخرى. وبما أنها كذلك فإن الواجب يقتضي محاربتها واجتثاتها نهائيا. إن حزب الله هو شكل من أشكال القاعدة . ولهذا فإن إسرائيل بشنها الحرب على لبنان تُسدي خدمة جليلة للولايات المتحدة الإمريكية. إن جورج بوش الذي كان خلال اندلاع هذه الحرب في منتجعه الصيفي لم يكن معنيا على الإطلاق بوقف إطلاق النار. وكونداليزا رايس التي كنا نجهل بأنها شاعرة من الطراز العالي شبهت ما يقع في الشرق الأوسط من دمار بأنه آلام المخاض. إن السياسة الأمريكية التي يقودها جورج بوش هي التي أشعلت فتيل الحرب في لبنان. كما أشعلته في العراق وفي أفغانستان وستشعله قريبا في السودان وفي مناطق أخرى من العالم العربي والإسلامي.

إن رهان إسرائيل المبالغ فيه على أمريكا في كل خطوة تخطوها رهان مآله الفشل. لا أحد يضمن أن أمريكا ستحافظ على جبروتها أبد الآبدين. حتى عهد قريب كان الإتحاد السوفياتي قوة عظمى . لكن بسقوط هذه الامبراطورية الشاسعة وتفككها إلى دويلات متعددة سقطت تباعا دول المعسكر الشرقي. إن أمريكا بولاياتها الخمسين هي أشبه بمجموعة من الدول المتعددة الأعراق والأجناس والديانات واللغات. وما يجمعهم الآن قد يفرقهم غدا. إن تاريخ الدول لا يقاس بالسنوات ولا بالعقود.

هل حققت هذه الحرب الأهداف التي سطرها أيهود أولمرت وعمير بيريتس ودان حالوتس؟ بالقياس إلى الحروب السابقة، وخاصة حرب 1967 التي مُني فيها العرب بهزيمة نكراء فإن هذه الحرب نصر لحزب الله وللعرب والمسلمين. إن حربا عجزت عن إطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين هي حرب فاشلة. وكان زئيف شيف صادقا حينما قال: إننا تلقينا صفعة ( هآرتس ، 11/8 ) إن هذه الحرب كانت للإسرائيليين، كما أقر بذلك رؤوبين بدهتسور (هآرتس16/08/06) «تذكارا مؤلما لفشل الجيش الإسرائيلي في الحرب.

نحن لسنا أمام فشل عسكري فقط. هذا فشل استراتيجي لم تتضح بعد تبعاته وإسقاطاته السلبية بعيدة المدى. ومثل الملاكم بعد أن يتلقى الصدمة، نحن ما زلنا جاثمين على الأرض في شبه إغماء محاولين فهم ما حدث لنا. مثلما أفضت حرب الأيام الستة تغير استراتيجي في الشرق الأوسط وتكريس مكانة دولة إسرائيل كدولة إقليمية عظمي، قد تؤدي حرب لبنان الثانية إلى عملية معاكسة. فشل الجيش الإسرائيلي في القتال يقضم ثروتنا الأهم بالنسبة للأمن القومي - صورة الدولة القوية الجبارة التي تمتلك جيشا ضخما وقويا ومتطورا قادرا علي ضرب أعدائنا وتوجيه ضربات ساحقة لهم إن تجرأوا فقط علي التحرش بها. هذه الحرب، كما اتضح بسرعة كبيرة جدا، كانت حربا على الوعي و الردع .وقد فشلنا في الحالتين»
و لا تخفي الصحافة الإسرائيلية هذه الحقيقة المرة. فقد عكست هذه الصحافة إبان الحرب وما بعدها التخبط الذي عاشته الحكومة الإسرائيلية. إذ بين كل ليلة وضحاها كانت تتغير التكتيكات الحربية . وكانت الاتهامات تتبادل جهارا نهارا بين جميع الأطراف. وأزيح الستار عن الفضائح المالية والأخلاقية التي تورط فيها أعضاء كثيرون من هذه الحكومة. وقيل الكثير لتبرير هذه الهزيمة . ومما قيل إن جنود الاحتياط لم يكونوا مدربين بما فيه الكفاية. وكان هناك خلل في إيصال المؤونة للجيش. إن وحدات كاملة من الجيش اضطرت للقتال أكثر من يوم دون طعام وماء. مع العلم أن الدولة تخصص 11مليار دولار كل سنة لميزانية الدفاع 15 في المائة تقريبا من المنتوج القومي الخام مخصصة للأمن. وكان هناك رهان غير مدروس على القدرات الجوية الإسرائيلية. فلننظر إلى خيبة أمل .يوفال شتاينيتس هآرتس 17 08 2006 وهو يتساءل كيف« أن إسرائيل أبانت عن عجز ملموس في إخضاع منظمة إرهابية صغيرة نسبيا مثل حزب الله تعمل في أرض اصغر دول المنطقة وأضعفها. إن إسرائيل لم تفشل فقط في إحراز الأهداف المعلنة التي خرجت من أجلها إلى المعركة ، وإنما فشلت فيما هو أخطر من ذلك. لقد فشلت في الدفاع عن دولة إسرائيل وفي صد الهجوم الصاروخي الذي استمر أكثر من أربعة أسابيع».

إن أكثر الناس تفاؤلا في إسرائيل يقولون بأن إسرائيل انتصرت على حزب الله بالنقط وليس بالضربة القاضية كما جرت العادة في الحروب الإسرائيلية السابقة. وهذا منطق غريب. غير أنه في كل الأحوال أقل غرابة من ادعاء جورج بوش بأن إسرائيل ربحت هذه الحرب. وقد عبر إلياس خوري ( 22/08/06 القدس العربي) في صورة كاريكاتورية هذا الموقف قائلا: «هناك ما يشبه الإجماع على أن إسرائيل هزمت في حرب لبنان..لكن رجلا واحدا في العالم يعتقد العكس، معلنا هزيمة المقاومة الإسلامية في لبنان وانتصار إسرائيل. هذا الرجل يدعى جورج ديبليو بوش.

هذا الرجل الذي يتلقى الوحي من إله الحرب الذي يعبده المحافظون الجدد، يتصرف كأن أمنياته حقائق. أي أنه لا يعير الواقع التفاتا، بل يعيش في دائرة مغلقة محصنة بالكلام الكبير الذي لا معني له. كأنه ليس رئيس اكبر دولة في العالم، بل يشبه المبشرين المهووسين بنهاية العالم، من أتباع الشيع البروتستانتية الصغيرة، الذين لا يحسنون الحوار، بل يرتجفون غيظا أمام أي سؤال، مستعيدين عبارات منتقاة من التوراة لا تبشر سوي بالخراب».

إن هذه الحرب، إذا ما كانت قد حققت بعض المكاسب، فإنها تتمثل في خراب وتدمير لبنان ودك جسوره وتحطيم محطات الكهرباء والماء وقصف عماراته وإحراق أشجاره وقتل حيواناته. أي بعبارة أخرى إرجاع لبنان أربعين سنة إلى الخلف. لكن نسيت إسرائيل أن ما دُمر يمكن أن يُبنى. إن المال العربي وفير خاصة مع الارتفاع الصاروخي لأسعار البترول. والعرب، وبغض النظر عن موقفهم من حزب الله ومسؤوليته في اندلاع الحرب، لا يبخلون على لبنان بإعادة إعماره. ولربما أصبح أحسن مما كان. و لا يجب أن نغفل المساعدات الهامة السرية والعلنية التي تٌدمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى حزب الله.

غير أن المئات من اللبنانيين الذين رزئوا في أبنائهم وذويهم لا يمكن لأحد أن يقنعهم بأن إسرائيل دولة مسالمة. وحتى إذا ما نسوا فإن الصور المسجلة في المحطات التلفزية والأنترنيت والصحافة المكتوبة ستبقى دوما صك اتهام يُلوح به ضد إسرائيل. إن ذاكرة هذه الصور لا تشيخ ولا تبلى.

إن إسرائيل التي لا يتعدى عدد سكانها حسب إحصاء 2003ستة ملايين وسبع مائة ألف ، ومساحتها لا تتجاوز عشرين ألف كلم مربع ليس من صالحها أن تُعادي الوطن العربي برمته والعالم الإسلامي بجميع أعراقه وأجناسه. وما قامت به في لبنان، وما تقوم به على مدار الساعة في فلسطين من شأنه أن يؤجج الشعور بالكراهية نحو إسرائيل والإسرائيليين، وأن يجعل من عملية السلام حلما غير قابل للتحقق. سلام الشجعان الذي كان ينادي به ياسر عرفات الذي مات محاصرا .

السلام الذي يضع حدا للاحتلال و للمستوطنات المغروسة في قلب الأراضي المحتلة. السلام الذي تُفكك بمقتضاه المعابر . السلام الذي يختاره الفلسطينيون بمحض إرادتهم. السلام الذي يسمح لفلسطين بالعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل.
إن الخاسر الأكبر في عملية السلام هم الإسرائيليون أنفسهم الذين قد تقودهم وضعية انعدام الأمن المزمن إلى الهجرة نحو بلدانهم الأصلية أو تعمل على الأقل على إيقاف أو تخفيض هجرة يهود العالم نحو إسرائيل. وإذا ما أخذنا في الحسبان انخفاض النمو الديموغرافي في هذا البلد الصغير الذي له تقاليد غربية في تحديد النسل سندرك لا محالة أخطار الزوال المحدقة به في الأمد البعيد وغير المنظور. إن أي روح تُزهق في أي حرب صغيرة إهدار لهذا المخزون الديموغرافي الهش. إن وضع إسرائيل الطبيعي هو كما عبر عن ذلك أحمد شحلان، 2003: 50 «وضع المصعدة (.أي التشدد إلى درجة إهمال العقل والمنطق) أنها في قلب عالم عربي، لا يريد الحرب، ولكنه يريد أن يكون حرا. ومن أبسط أسلحته، بل ربما من أعظمها، أن يقاطعك الكلام والسلام، والسلام يعني هنا التحية إلى الأبد وكفى. إن الحرب الحقيقية اليوم هي حرب الاقتصاد والحصار الحقيقي هو حصار الاقتصاد». ولا شك في أن الإسرائيليين يعرفون جيدا الخسارة الاقتصادية التي تكبدتها الدولة الدانماركية وهي دولة في قلب أوروبا بسبب مقاطعة العرب والمسلمين لها. فما بالك بدولة صغيرة في حجم إسرائيل يحيط بها العرب من كل جانب.

ومع ذلك إن إسرائيل. لا تستطيع حتى وهي تسعى نحو إرساء السلام مع جيرانها العرب والمسلمين أن تزيل من أذهان الملايين من المسلمين والعرب نظرتهم إلى إسرائيل باعتبارها دولة محتلة. كما لا تستطيع أن تفعل شيئا أمام التنبؤات الدينية بزوال إسرائيل. والآن في إسرائيل نفسها بعض القوى الدينية مثل نطوري كارتا (اسم آرامي يُقصد به حراس المدينة) التي لا تعترف بوجود دولة اسمها إسرائيل، وتمتنع عن المشاركة في احتفالات ما يُسمى بعيد الاستقلال، وتصوم خلال ذلك اليوم حزنا وحدادا. وهناك اتجاه في الدراسات التاريخية والأركيولوجية منكب منذ عقود على إعادة قراءة تاريخ فلسطين حاملا الكثير من المفاجآت غير السارة، ومشككا في الكثير من المسلمات.

وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الأفكار المنبعثة من الغرب ومن إسرائيل ذاتها فإن الأمر الذي لا تخطئه العين هو أن إسرائيل أشبه بشركة متعددة الجنسيات. هي خليط من الأعراق والأجناس التي لا يجمعها سوى الانتماء إلى الديانة اليهودية. وجميعنا يعرف الظروف المواتية التي ساعدت الحركة الصهيونية آنذاك على تحقيق مشروع دولة إسرائيل ومهما دافع الإسرائيليون عن إسرائيليتهم فإن انتماءاتهم الأصلية ظاهرة للعيان، ولا أظن بأنها ستتلاشى مع مرور ا الأيام.

إن اليهود المغاربة على سبيل المثال حتى وإن اجتهد بعضهم في إخفاء مغربيته لهذا السبب أو ذاك فإن انتماءهم إلى دولة عريقة مثل المغرب لا يمكن أن تمحى بجرة قلم. إن هؤلاء حسب محمد المدلاوي، 1995: 0«لم يكتشفوا مغربيتهم حتى ألقت بها في وجوههم مرآة المجتمع الإسرائيلي بكل عنفه الإيديولوجي. يقول أحدهم نقلا عن بن شوشان : في المغرب لم نكن يهودا مغاربة. لقد كنا مجرد يهود. إنا لم نصبح يهودا مغاربة إلا في إسرائيل».

ونحن في المغرب نأسف لرحيلهم، ونتساءل كيف طاوعتهم نفسهم على هجر بلدهم الأصلي الآمن، والدخول في حروب هم في حقيقة الأمر غير معنيين بها. نحن في المغرب لا نريد أن يكون هؤلاء المهاجرون أعداء للفلسطينيين. إن أبواب المغرب مفتوحة لمن أراد العودة. ومن فضل البقاء هناك نُحبذ أن يكون من دعاة السلام.

يجب على إسرائيل أن تدرك حقيقة وجودها في الشرق الأوسط. وانطلاقا من هذا الإدراك و بعيدا عن الحسابات الضيقة وبمنأى عن التأثيرات الخارجية التي قد تورطها في منزلقات غير مؤونة العواقب يتعين عليها أن تصوغ سياسة جديدة تضمن لها موطئ قدم.

ماذا جنت إسرائيل من قتلها المئات من الفلسطينيين، ومن اغتيالها في واضحة النهار أو في ظلمة الليل العشرات من القادة أمثال عبد العزيز الرنتيسي والشيخ أحمد ياسين؟ إن اللائحة طويلة وهي مرشحة لاستقبال المزيد من الأسماء. ماذا جنت إسرائيل من اعتقالها الآلاف من الفلسطينيين كبارا وصغارا رجالا ونساء أصحاء ومرضى عقلاء ومعتوهين؟ ماذا جنت إسرائيل من وراء تدميرها الآلاف من المنازل وحرقها ما لا يعد ولا يحصى من الأشجار.؟

هل ستتوقف المقاومة يوما؟ ليس هناك أي مؤشر لذلك. إن إيمان الفلسطينيين بعدالة قضيتهم يفوق كل التصورات. والتاريخ يُعلم كل ذي عقل بأن إرادة المقاوم أصلب من إرادة المحتل. إن العنف الذي تنهجه إسرائيل لا يولد سوى العنف.

إن إسرائيل في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى سلام حقيقي تتفق عليه الأطراف المتنازعة دون أي ضغط من جهات خارجية. آن الوقت لكي يستريح الفلسطينيون والإسرائيليون من حرب ضروس لا تتوقف لحظة إلا لكي تشتعل مجددا حاصدة الآلاف من الأرواح. إن منظر جثث الضحايا الفلسطينيين وهي توضع داخل الثلاجات أصبح مألوفا في نشرات الأخبار إن منظر الدم المراق في قارعات الطرق والشوارع يُبكى حتى من لا قلب له. ولكن ما لا نراه هو أن الكثير من الإسرائيليين يتألمون لما يقع. وقد عبرت صراحة إحدى المتدخلات الإسرائيليات في قناة الجزيرة إبان اندلاع انتفاضة الأقصى بأنها تخجل لكونها إسرائيلية.

إن الإسرائيليين من لحم ودم. وإذا ما استثنينا منظري الحرب من عسكريين مغامرين ورجال دين يهود متعصبين فإن المجتمع الإسرائيلي لا يخلو من دعاة سلام حقيقيين ومن محبين للتعايش بين الأديان. إن إسرائيل في حاجة إلى اسحاق رابين آخر هذا العسكري الذي اكتوى بنار الحرب حينما كانت إسرائيل في عز انتصاراتها. ومع ذلك اختار طريق السلام المحفوف هو أيضا بكل أنواع المخاطر. ويجب الاعتراف بأن ايهود باراك كان واقعيا حينما انسحب من جنوب لبنان. أما آرييل شارون فقد اختار الطريق الأسهل عندما شن حربا حقيقية على الفلسطينيين، حربا قوامها الدبابات والجرافات والصواريخ والطائرات الحربية .ومع كل حماقاته فإنه أعقل من أن يورط إسرائيل في حرب مباشرة وغير ضرورية مع حزب الله. إن ايهود أولمرت أضاف إلى حماقات شارون حماقاته الشخصية التي أظهرت للعالم أجمع أن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر فيها الكثير من الخيال والكثير من المبالغة.

الآن وقد انتهت الحرب الأخيرة بكل تداعياتها ألم يئن الوقت بعد لكي تتغلب الحكمة اليهودية على الفكر الإسرائيلي الحربي غير المجدي؟ ألم يئن الوقت لكي تُضمد جراح الفلسطينيين؟، ألم يئن الوقت لكي ينعم الإسرائيليون كبقية البشر بالأمن؟
هناك في الأفق مبادرات خجولة وغير مقنعة تقدم بها شمعون بيريس ذو الحظ المتعثر الذي يقترح على الفلسطينيين مفاوضات سياسية وفق شروط تمليها إسرائيل.

ويضيف شمعون بيريس قائلا لتعزيز موقفه: في أيامنا، كما جاء في (هآرتس 31/08/06) «لم يعد هناك شعب يسكن وحده . العِلم والتكنولوجيا حوّلا كل دولة الي جزء من المنطقة والعالم. هذا لا يعني أن من الواجب إلغاء الهوية القومية، ولكن من الممكن منح فرصة موازية وأكثر ثراء لعملية السلام وبركاته. ليس الماضي هو الأمر الضاغط والمُلح ـ فالماضي غير قابل للتغيير. الأمر المُلح هو المستقبل ـ وهو مسألة يمكن تغييرها». غير أن استمرار إسرائيل في اعتداءاتها على الفلسطينيين، وفي اعتقالها لأعضاء في البرلمان الفلسطيني، ووزراء في حكومة منتخبة من شأنه أن يعرقل أي مسعى نحو السلام سواء مع الفلسطينيين أو غيرهم. وفي جميع الحالات فإن شمعون بيريس الحائز على جائزة السلام إلى جانب ياسر عرفات واسحاق رابين سنة 1994 ليس هو المؤهل للقيام بهذا الدور.

وفي انتظار أن يمُن الله على الجميع بالسلام الشامل والدائم فلنعود أعيننا على رؤية الدماء المراقة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولنعود آذاننا على صراخ الجرحى، وعويل الأمهات، وأنين الأطفال، ولنلقن أفئدتنا دروسا في الصبر والجلد.

التعليقات