وقائع سيطرة اليمين على إسرائيل (1-4)../ أنطـوان شلحـت

لعل أبرز عنصر اتسم به المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي خلال العام 2010 هو تكريس سيطرة اليمين على الخريطة الحزبية وعلى المناخ السياسي العام

وقائع سيطرة اليمين على إسرائيل (1-4)../ أنطـوان شلحـت

[نص الفصل الخاص بالمشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي في "تقرير مدار الإستراتيجي 2011: المشهد الإسرائيلي 2010" والصادر مؤخرًا عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار]

 

 

توطئـة

 

(*) لعل أبرز عنصر اتسم به المشهد السياسي الإسرائيلي الداخلي خلال العام 2010 هو تكريس سيطرة اليمين على الخريطة الحزبية وعلى المناخ السياسي العام.

وثمة من يعتقد أن اليمين الأيديولوجي في إسرائيل "أنجز" في هذا العام "انقلابًا تامًا" ظل يعمل على دفعه قدمًا على مدار الأعوام العشرة الفائتة.

غاية هذا الانقلاب تمثلت، ضمن أشياء أخرى، في منع فلول اليسار من أن تعرب عن آراء مغايرة. وهذا المنع تم بداية على المستوى العام ثم انتقل، خصوصًا في العام 2010، إلى المستوى التشريعي.

وليس من المبالغة القول إن ما يسعى اليمين في إسرائيل نحوه هو كبح الجدل الديمقراطي بشأن السياسة المطلوبة إزاء حل الصراع، والتجنّد العام من حول سياسة إدارة الصراع بما يخدم المصالح الإسرائيلية.

وما يتعين الانتباه إليه هو أن عملية سيطرة اليمين يتم تكريسها من الأعلى (من طرف الكنيست والحكومة والمؤسسة العسكرية والاستخباراتية) وكذلك من الأسفل (من طرف حركات يمينية جديدة على غرار حركة "إم ترتسو" التي تشكل تنظيمًا فوقيًا للحركات اليمينية، ومن طرف معاهد أبحاث ذات موارد مالية كبيرة مثل "مركز شاليم" و"معهد الإستراتيجيا الصهيونية"، وصحف في مقدمها صحيفة "يسرائيل هيوم" المجانية المقربّة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو واليمين الإسرائيلي والمموّلة من جانب الثريين اليهوديين شيلدون إدلسون ورون لاودر، وصحافيين، ومن طرف قوى دينية مرجعية مثل الحاخامين، ومن طرف المستوطنين).

وهناك تركيز كبير على الجانب التشريعي، أي على سنّ القوانين، التي تهدف من دون مواربة إلى تجريم أي معارضة لسياسة الحرب، وأي نقد لممارسات الجيش الإسرائيلي بما في ذلك ضد السكان المدنيين (كما انعكس الأمر في الهجوم على منظمات حقوق الإنسان المتعددة وتحميلها وزر ما ورد في تقرير لجنة غولدستون بشأن الممارسات العسكرية في أثناء الحرب على غزة في شتاء 2009)، وأي تماثل مع غير اليهود (كما كانت الحال في أثناء الحرب على غزة)، وأي بحث عن حل أو تسوية للصراع تنأى عن الغاية الأمنية وعن المشكلة الديمغرافية.

هذا الوضع أجملـه دان ياكيـر، المستشار القانوني لجمعية حقوق المواطن في إسرائيل، قائلاً: "خلال آخر عامين تزداد يومًا بعد يوم الإشارات الميدانية التي تُظهر مفهومًا مدنيًا جديدًا لدى الإسرائيليين فحواه أن الأفكار السياسية التي تتجاوز الإجماع (القومي) تشكل خطرًا، ومن يجرؤ على توجيه النقد إلى السلطة يتم النظر إليه على أنه يشكل تهديدًا".

ولا ينحصر مسار تكريس سيطرة اليمين وهيمنته في إسرائيل فقط، حيث بيّن تقرير نُشر أخيرًا في صحيفة "هآرتس" (25/3/2011) أن هناك تواترًا في محاولات كبح التيارات النقدية بين صفوف الجاليات اليهودية في الولايات المتحدة من خلال اتهامها باللاسامية.

إن ذلك ناجم، من جهة أولى، عن الحالة التي آل إليها اليسار الصهيوني. وبلسان أحد أقطاب هذا اليسار، وهو الرئيس السابق لحزب "ميرتس" حاييم أورون، الذي استقال مؤخرًا من عضوية الكنيست ورئاسة الحزب، فإن إيهود باراك، الرئيس السابق لحزب العمل، هو الذي سدّد الضربة الأكبر لهذا اليسار منذ أن ثبّت في أذهان الرأي العام مقولة "لا يوجد شريك" (فلسطيني) في العام 2000. كما أن أورون كشف النقاب عن أن رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت أسرّ له أن باراك هو من حال في أثناء ولايته دون دفع العملية السياسية الإسرائيلية- الفلسطينية قدمًا (من مقابلة أدلى بها إلى صحيفة "هآرتس" عقب استقالته ونُشرت في 19/3/2011).

ومن جهة أخرى فإنه ناجم أيضًا عن حالة المجتمع الإسرائيلي، حيث تشير آخر استطلاعات الرأي العام المعمقة إلى تفاقم الاستحواذ الديمغرافي وإلى اتساع الفجوة بين المبدأ الديمقراطي وبين السلوك العملي بهدي هذا المبدأ.

ونتيجة لهذه الوقائع شهد العام 2010 ازديادًا في نطاق الجدل بشأن ما إذا كانت إسرائيل سائرة نحو الفاشية؟. وينصب الجدل في مترتبات "الحراك" الذي يقوده حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المتطرّف بزعامة وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، وأساسًا ضد الفلسطينيين في إسرائيل وضد المنظمات اليسارية. وفي المقابلة المذكورة أعلاه يقول أورون إن ليبرمان يخيفه، مؤكدًا: ما أراه يخيفني، وما لا أراه يخيفني أكثر. ولا شك في أنه (ليبرمان) يقود خطوات غايتها الفشستة المخططة سلفًا. وتجدر الإشارة إلى أن ليبرمان لا يعتبر زعيم اليهود الروس فحسب، وإنما يتطلع إلى أن يكون زعيمًا فريدًا من نوعه لليمين في إسرائيل، فضلاً عن أنه يتغذى على قاعدة شعبية تتسع باضطراد.

وبموجب تقرير جمعية حقوق المواطن فإن المسّ بحرية الصحافة في إسرائيل تصاعد خلال آخر عامين من خلال الظواهر التالية: استخدام أوامر حظر النشر من أجل إخفاء عمليات اعتقال؛ تقييد التغطية الصحافية لخدمة أغراض سياسية كما حدث في أثناء الحرب على غزة وعملية سيطرة الكوماندوز البحري على قافلة السفن التي كانت متجهة إلى غزة في أيار 2010 (أسطول الحرية)؛ تنكيل الجيش والشرطة بالصحافيين. كذلك جرى مسّ بمؤسسات ثقافية ترفض أن تشترك في نشاطات داخل مستوطنات المناطق المحتلة.        

في الفاتح من نيسان 2011 مرّ عامان على تأليف الحكومة الإسرائيلية الحالية (حكومة بنيامين نتنياهو الثانية) والتي اتسمت لدى تشكيلها بطابع يمينيّ سافر. وعلى ما يبدو فإن هذا الطابع قد تعزّز أكثر فأكثر على مدار العام 2010، وخاصة في ضوء تصاعد الهجمة التي يؤججها حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المتطرّف على المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، وعلى الحريات الديمقراطية عامة، والتي تحظى بمزيد من تأييد سائر عناصر الحكومة.

كما أن طابع الحكومة اليميني تعزّز في إثر قيام وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك بتفكيك حزب العمل (محسوب على "اليسار الصهيوني") والانشقاق عنه وإعلان إقامة كتلة مستقلة باسم "استقلال" (عتسماؤوت)، وفي ضوء اتهام مسؤولين كبار في العمل باراك بأنه "ليس نسخة ثانية عن الليكود وإنما نسخة طبق الأصل عن ليبرمان". وفيما بقيت "كتلة باراك" في الائتلاف فإن سائر أعضاء كتلة العمل استقالوا منه فور حدوث هذا الانشقاق.

كذلك فإن هذه الحكومة استمرت في تنفيذ مشاريع الاستيطان ولا سيما تلك المتعلقة بتهويد القدس المحتلة، وفي عرقلة استئناف المفاوضات السياسية.

هذا الفصل يتناول الوقائع الرئيسة لتعزّز طابع الحكومة اليميني وانعكاس ذلك على سياستها الداخلية بقدر انعكاسه على السياسة الخارجية.

كما أنه سيعرض أبرز المستجدات التي شهدها العام الفائت والمرتبطة بالمشهد السياسي والحزبي الداخلي في إسرائيل.  

 

نتنياهو يصبح رئيسًا لحكومة يمينية - حريدية

 

قام وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، يوم 17 كانون الثاني 2011، بتفكيك حزب العمل (المحسوب على تيار "اليسار الصهيوني") الذي كان يرأسه وبالانشقاق عنه وإعلان إقامة كتلة مستقلة باسم "استقلال" (عتسماؤوت)، تضم خمسة أعضاء كنيست من العمل، هم متان فلنائي وشالوم سمحون وأوريت نوكيد وعنات فيلف، فضلاً عن باراك نفسه. وقد أسفر ذلك على الفور عن قيام ثلاثة وزراء من حزب العمل بالاستقالة من الحكومة، وهم وزير الرفاه الاجتماعي إسحق هيرتسوغ، ووزير شؤون الأقليات أفيشاي برافرمان، ووزير الصناعة والتجارة والعمل بنيامين بن إليعازر، وكذلك عن انسحاب الحزب من الائتلاف الحكومي (في وقت لاحق صادق الكنيست على تعيين ثلاثة وزراء جدد في حكومة نتنياهو من كتلة "استقلال" بدلاً من المستقيلين، وذلك على النحو التالي: شالوم سمحون وزيرًا للصناعة والتجارة والعمل؛ أوريت نوكيد وزيرة للزراعة؛ متان فلنائي وزيرًا في ديوان رئيس الحكومة لشؤون الجبهة الداخلية والأقليات. وقد احتفظ باراك بمنصب وزير الدفاع).

ورأى كثيرون، بمن في ذلك بعض كبار المسؤولين في حزب الليكود الحاكم، أن وزير الخارجية ورئيس حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان أصبح بمثابة "رئيس الحكومة الفعلي" في إسرائيل عقب انشقاق باراك وما تلا ذلك من انسحاب حزب العمل ببقية أعضائه من الحكومة والائتلاف. وقد أشير في هذا الصدد إلى أنه حتى يوم حدوث هذا كله كان الائتلاف الحكومي برئاسة نتنياهو يضم 74 من مجموع 120 عضو كنيست، وعقب استقالة حزب العمل (الذي بقي مع 8 أعضاء كنيست بعد انشقاق باراك ومؤيديه) فإن هذا الائتلاف أصبح يضم 66 عضو كنيست، بمن فيهم 5 أعضاء كنيست من كتلة "استقلال" التي أعلن باراك تأسيسها. وبناء على ذلك فإن قوة حزب "إسرائيل بيتنا" (15 عضو كنيست) باتت أكثر أهمية لسلامة هذا الائتلاف، حيث أنه في حال انسحابه فإن ذلك سيعني سقوط الحكومة اليمينية. والأمر نفسه ينطبق أيضًا على حزب شاس (11 عضو كنيست).

ونوهت صحيفة "يديعوت أحرونوت" بأن أحد كبار المسؤولين في الليكود كان أشد صراحة من غيره حين قال: "إن ليبرمان يمكنه أن يسقط الحكومة متى يشاء، وإذا كان الثنائي نتنياهو- باراك حتى الآن هو صاحب القرار الأول في الحكومة، فإن ليبرمان يمكنه من هذه اللحظة المطالبة بأن يصبح شريكًا كاملاً في عملية اتخاذ القرارات السياسية. في الوقت نفسه فإنه لم يعد بإمكان باراك الاستمرار في إشغال منصب وزير الخارجية الفعلي، ذلك بأنه أضحى يتزعم كتلة تضم 5 أعضاء فقط لا 13 عضو كنيست كما كانت حال كتلة حزب العمل، ولا شك في أن ليبرمان يدرك ذلك جيدًا ويعرف ما هي التداعيات التي يجب أن تترتب عليه"(1). وبموازاة هذا فإن الوزير أفيشاي برافرمان أكد، لدى تقديم استقالته من الحكومة، أن خطوة باراك "جعلت ليبرمان هو صاحب القول الفصل في الحكومة والائتلاف". وأضاف: "إننا نفهم الآن لماذا لم ينبس باراك ببنت شفة عندما كان ليبرمان يطلق تصريحاته العنصرية الهوجاء. إن باراك ليس نسخة ثانية عن الليكود وإنما نسخة طبق الأصل عن ليبرمان"(2).

مع هذا فإن رئيس الحكومة أعرب عن قناعته بأن تفكيك حزب العمل وانشقاق باراك ينطويان على بشائر جيدة بالنسبة لحكومته "التي ستصبح أكثر استقرارًا من الآن فصاعدًا"، على حد قوله في اجتماع كتلة الليكود في الكنيست. ولا شك في أنه يقصد استقرارها من الناحية السياسية تحديدًا. وأكد نتنياهو خلال أحاديث مغلقة أن هذه الخطوة "ستبعد شبح الانتخابات، وعلى الجميع أن يتعوّد على أن هذه الحكومة باقية فترة طويلة"(3).

وذكر مقربون من رئيس الحكومة أنه كان شريكًا كاملاً في خطوة باراك الانشقاقية. وأضافوا أن تلك الخطوة كانت ضرورية لكليهما، ذلك بأن "نتنياهو كان راغبًا في استقرار حكومته، في حين أن باراك كان راغبًا في الحفاظ على بقائه السياسي". وأكد هؤلاء المقربون أن التعاون بين الاثنين كان ضروريًا من أجل ضمان بقاء المناصب الوزارية التي كان حزب العمل يشغلها وخاصة منصب وزير الدفاع في يد أعضاء الكتلة الجديدة. وقد اتفق على أن تبقى وزارة الدفاع في يد باراك وعلى ألا تنتقل إلى مسؤول كبير في الليكود مثل الوزير موشيه يعلون. وأشار هؤلاء المقربون أيضًا إلى أن هذه الخطوة تنطوي على رسالة إلى الفلسطينيين فحواها أن يكفوا عن الاعتقاد "بأن حكومة نتنياهو على وشك السقوط بسبب مواقف حزب العمل"(4).

وقبل هذا التطرّف اليميني للحكومة تراكمت إشارات تدلّ على أن "زعامة" نتنياهو السياسية قد استنفدت نفسها، وأن أقصى ما يمكن أن يفعله هو شراء الهدوء السياسي في الحلبة الداخلية، وصدّ الضغوط الدبلوماسية (الخارجية)، إلى أن يحين أوان الانتخابات العامة المقبلة (5)، التي لا يستطيع أحد التكهن بموعدها من النقطة الزمنية الراهنة، خاصة في ضوء نجاح الحكومة في الحفاظ على استقرارها سياسيًا، وإلى حدّ ما اقتصاديًا واجتماعيًا. ويجمع المحللون السياسيون على أنه فضلاً عن استنفاد نتنياهو لنفسه، فإن هذه الحكومة تفتقر إلى زعامة جادة، أو حتى إلى قدرة على اتخاذ أي قرار حاسم، سواء أكان الأمر متعلقًا بمستقبل الصراع مع الشعب الفلسطيني أو مع سورية.

وحين طُلب أخيرًا إلى أحد كبار الكتاب الإسرائيليين أن يجمل العام 2010 المنقضي، قال إنه إذا كان في إمكانه وصفه بكلمة واحدة فقط فلا بُدّ من أن يصفه بكلمة "بشع"، ذلك بأنه كان عام زعامة إسرائيلية غير جادة، وتفتقر إلى أي رؤية أو طريق، ولا تملك القدرة على اتخاذ أي قرار حاسم أو على تنفيذه، كما أنه كان عامًا بدأت فيه مفاوضات سلام مع الفلسطينيين لكنها سرعان ما توقفت، وليس هذا فحسب بل إن "توقفها تسبّب بأن يتنفس زعماؤنا الصعداء" (6).

ورأى سيفر بلوتسكر، أحد كبار المعلقين الاقتصاديين والسياسيين في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أنه في ضوء ما أسماه "إشكاليات مسار المفاوضات مع الفلسطينيين" تزداد الاحتمالات بأن يتوجه نتنياهو نحو المسار السوري، وذلك كي يتمكن من كسر الجمود المسيطر على العملية السياسية، وعلى ما يبدو فإنه في حال توجهه نحو ذلك المسار سيكون من الأسهل عليه أن يفسر للرأي العام الإسرائيلي الأهمية الإستراتيجية الكامنة في التوصل إلى اتفاق سلام مع سورية، لا سيما في ضوء ما يحدث في الآونة الأخيرة في لبنان، وفي ضوء تحالف سورية مع إيران، وإقدامها (أي سورية) في السابق على بناء مفاعل نووي! كما أشار إلى أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تؤيد في معظمها التوصل إلى اتفاق سلام كامل مع سورية حتى ولو في مقابل الانسحاب الكامل من هضبة الجولان. وبرأيه فإن مثل هذا المسار أصبح ملحًّا من أجل الحفاظ على مستقبل إسرائيل، فضلاً عن أنه يتماشى مع موقف نتنياهو الذي ما انفك يرى أن إيران في الوقت الحالي تشكل الخطر المصيري الأكبر الذي يهدّد إسرائيل (7)، غير أنه حرص على تأكيد أن إطلاق عملية سلام مع سورية الآن يستلزم زعامة وشجاعة، ويبدو أن هاتين الصفتين غير متوفرتين قطّ لدى رئيس الحكومة الحالية (8).

المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس" ألـوف بن أكدّ من ناحيته أن رئيس الحكومة يجب ألا يلوم إلا نفسه على ما آلت إليه حالته. وقد حدّد هذا المعلق نقطة الانكسار، التي بدأ بعدها انتهاء زعامة نتنياهو، في صيف 2010 عندما رفض هذا الأخير عرض تسيبي ليفني، زعيمة حزب "كاديما" (وسط)، الانضمام إلى الحكومة بدلاً من أفيغدور ليبرمان (يمين متطرف)، وبذا فإن نتنياهو فضّل أن تبقى ليفني زعيمة لمعارضة مترنحة على خطر ليبرمان الذي قد يتمكن من أن يسرق منه الناخبين اليمينيين لحزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الحكومة. "ولو كان (رئيس الحكومة) تحلى بالشجاعة كي يعيد تشكيل ائتلافه الحكومي ويخوض عملية سلمية مكثفة مع الفلسطينيين، لكان الضغط الدولي على إسرائيل قد اضمحل، ولكان قد بدا زعيمًا شجاعًا ورياديًا"، على حدّ تعبير بـن (9).

تجدر الإشارة إلى أنه في مناسبة مرور أول عام على تأليف حكومة نتنياهو، في ربيع 2010، أكدت ليفني أن نتنياهو "متعلق إلى حدّ كبير بشركاء يبعدون الجمهور الواسع عن الديانة اليهودية، ويبعدون إسرائيل عن العالم الحرّ، وأن حزب كاديما لا يمكنه أن يكون شريكًا في ذلك كله". وأضافت: "لقد أوضحت لرئيس الحكومة، مرارًا وتكرارًا، أنه في حال قيامه باتخاذ القرارات الحاسمة المطلوبة المتعلقة بالتسوية مع الفلسطينيين فإن حزب كاديما سيكون مؤيدًا لهذه القرارات، وفي حال قيام بعض شركائه بمحاولة إسقاط حكومته، جراء هذه القرارات، فإن الحزب سيصبح شريكًا في الحكومة. غير أن سلوك رئيس الحكومة حتى الآن يدل على أنه لم يغير مواقفه السياسية بصورة حقيقية. كما أن تركيبة الحكومة التي شكلهـا لا تتيح أي إمكان لإحداث تغيير حقيقيّ" (10).

وكان كبير المعلقين في صحيفة "يديعوت أحرونوت" ناحوم برنياع قد أشار في المناسبة ذاتها إلى حقيقة أن نتنياهو لم يتطلع في المجال السياسي إلى فعل أشياء كثيرة، وعلى ما يبدو فإن ذلك وقف وراء قراره إقامة حكومة إسرائيلية تستند أساسًا إلى ائتلاف يمينيّ كبير، ونظرًا إلى كون نتنياهو لم يفكر في حينه إلا بنفسه، فإنه عيّن ليبرمان وزيرًا للخارجية، وقد عمل هذا الأخير، منذ أول لحظة تسلم فيها مهمات منصبه، على عزل حكومة نتنياهو عن العالم أجمع. وبالتالي يمكن القول إن الاستيطان الأخطر، الذي تسبب بتدمير نتنياهو خلال أول عام من ولايته، كامن في استيطان ليبرمان في وزارة الخارجية (11). كما أشار إلى أن رئيس الحكومة خضع للضغوط الأميركية وقام بتبني حل الدولتين، إلا إنه لم يكن مؤمنًا به فعلاً، ولم ينجح في إقناع الجانب الآخر (الفلسطيني) أنه مؤمن بهذا الحل حقًا. وهذا ينطبق أيضًا على القرار القاضي بتجميد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية لفترة عشرة أشهر.

وفي الإجمال العام فإن التحليلات الإسرائيلية بشأن الحالة السياسية المستجدة في مستهل العام الثالث للحكومة تؤكد في معظمها أنه بعد إقدام باراك على الانشقاق عن حزب العمل وإقامة كتلة مستقلة مؤلفة من 5 أعضاء كنيست بقيت شريكة في الائتلاف الحكومي، وبعد انسحاب بقية أعضاء الكنيست من حزب العمل من هذا الائتلاف، فإن بنيامين نتنياهو أصبح رئيسًا لحكومة تتألف قاعدتها من أحزاب يمينية وحريدية (هي الليكود؛ "إسرائيل بيتنا"، شاس، "البيت اليهودي"، يهدوت هتوراة، "استقلال").

وفي رأي إحدى معلقات الشؤون الحزبية فإن حكومة كهذه لن يكون في إمكانها أن تحسّن مكانة إسرائيل المتدهورة في العالم، خاصة في ضوء الضغوط التي من المتوقع أن تكون عرضة لها في الفترة المقبلة. فضلاً عن ذلك، فإن من المتوقع أن يقدم مزيد من الدول في العالم على الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة تُقام في حدود 1967، وهذا الاعتراف لم يعد محصورًا في دول من أميركا اللاتينية بل إنه شمل روسيا أيضًا، كما أن رئيس جهاز الأمن العام (شاباك) يوفال ديسكين أكد أن هناك خشية من أن تقوم بضع دول أوروبية بالاعتراف بهذه الدولة. وما يمكن تقديره الآن هو أن تصبح الولايات المتحدة في ضوء هذه التطورات كلها مضطرة إلى ممارسة ضغوط أشد وطأة على إسرائيل، سيما وأن انسحاب حزب العمل منها قد عزّز صورتها العامة باعتبارها حكومة غير معتدلة مطلقًا. وفيما يتعلق بالموضوع السياسي، فإن نتنياهو لن يكون من الآن فصاعدًا عرضة لأي ضغوط أو تهديدات من داخل الحكومة نفسها كي يعمل على دفع العملية السياسية قدمًا، لكنه في الوقت نفسه أضحى واقفًا على رأس حكومة يمينية- حريدية متطرفة ازدادت فيها قوة حزبي "إسرائيل بيتنا" وشاس، وأصبح في إمكان كل منهما أن يسقط الحكومة متى يشاء. ونظرًا إلى كون رئيس "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان مصرًا على دفع مجموعة قوانينه إلى الأمام، وإلى كون رئيس شاس إيلي يشاي ما زال غاضبًا على نتنياهو جراء قيامه بإلقاء وزر المسؤولية عن التقصيرات التي كشف عنها الحريق في جبل الكرمل (في كانون الأول 2010) على عاتقه (أي على عاتق يشاي)، فإن احتمال أن يقوم كل منهما بإسقاط الحكومة في وقت من الأوقات هو احتمال وارد بقوة كبيرة (12).                  

في المقابل رأت تحليلات أخرى أن خطوة باراك قد تنطوي على أمل بتغيير مسار حزب العمل. وجاء في أحد هذه التحليلات أن إقدام باراك على الانشقاق عن حزب العمل وإقامة كتلة مستقلة هو خطوة جيدة بالنسبة لهذا الحزب، وذلك لأنها من ضمن أمور أخرى تقلل مثلاً من عدد الأشخاص الذين سيتنافسون على رئاسته. أمّا الادعاء القائل أن باراك بخطوته هذه قد أضعف حزب العمل فإنه ادعاء غير صحيح مطلقًا، ذلك بأن العمل هو حزب ضعيف أصلاً، وفي كل انتخابات عامة من الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة كان يخسر جزءًا آخر من مؤيديه وناخبيه التقليديين لمصلحة أحزاب أخرى. وبالتالي فإن أقصى ما يمكن اتهام باراك به هو أنه اختزل أيام احتضار حزب العمل الذي يعاني داءً عضالاً مزمنًا. وبناء على ذلك فإن خطوة باراك هذه بالنسبة للذين ما زالوا متمسكين بالقيم التي كان حزب العمل يمثلها على مدار أعوام طويلة تنطوي على أمل في التغيير، إلى ناحية عودة العمل كي يكون حزبًا يساريًا صهيونيًا وديمقراطيًا يضم تحت كنفه جميع الأشخاص الذين يتبنون أفكاره ويتطلعون إلى تحقيقها. وما يجب قوله هو أن هذا الأمر يعتبر الاختبار الحقيقي الماثل أمام جميع الذين بقوا في صفوف العمل بعد إقدام باراك على الانشقاق عنه (13).

وكانت تحليلات سابقة أشارت إلى أن حزب العمل "أصبح جزءًا من عورات الحكومة". ومما جاء في أحدها ما يلي: إن حزب العمل الإسرائيلي خسر في البداية مبادئه الاجتماعية، وفيما بعد خسر مبادئه السياسية، ثم خسر كرامته ورغبته في الحياة، وإلا فكيف يمكن تفسير استمرار بقائه في الحكومة والائتلاف؟. يقولون لنا إن حزب العمل باق في الحكومة كي يعمل على دفع مفاوضات السلام (مع الفلسطينيين) قدمًا، لكن يجب أن يكون المرء أعمى أو أصم حتى يعتقد أن الحكومة الإسرائيلية الحالية، التي يديرها عمليًا كل من ليبرمان ويشاي، يمكن أن تقدّم التنازلات المطلوبة من الجانب الإسرائيلي لدفع مفاوضات السلام إلى الأمام. لو كان لدى حزب العمل قدر بسيط من الرغبة في الحياة لكان حاول أن يكبح الموجة المعادية للديمقراطية التي تجتاح الكنيست في الوقت الحالي، والتي تفوح منها روائح العنصرية المقيتة. ولا بُدّ من القول إن هذه الموجة تعتبر سببًا وجيهًا كافيًا كي يستقيل الحزب من الحكومة وكي يكف عن أن يكون ورقة توت تستر عوراتها. غير أن عورات الحكومة أصبحت مفضوحة منذ فترة طويلة، وعلى ما يبدو فإن حزب العمل لم يعد ورقة توت بل أصبح جزءًا من هذه العورات (14).

وأشار أحد الأساتذة الجامعيين إلى أن حزب العمل لا يملك برنامجًا سياسيًا بديلاً لبرنامج اليمين. وكتب في هذا الشأن قائلاً: يوحي الجدل العاصف الذي شهده حزب العمل الإسرائيلي في الآونة الأخيرة- قبل انشقاق باراك- بشأن البقاء في الحكومة في ضوء الجمود المسيطر على العملية السياسية، كما لو أن لديه رسالة سياسية واضحة يرغب في تمريرها إلى الجمهور العريض، وفي واقع الأمر فإنه لو كان لدى حزب العمل رسالة كهذه لكان أعلنها منذ فترة طويلة. إن الموقف الوحيد الذي يمكن استشفافه من "ثورة" وزراء حزب العمل هو أنهم يرغبون في استئناف المفاوضات السياسية (مع الفلسطينيين)، وبناء على ذلك فإن السؤال الذي يجب طرحه هو: لماذا يجب استئناف هذه المفاوضات، وما هو موقف حزب العمل من الموضوعات التي ستدرج فيها؟. لقد حوّل حزب العمل انعدام الموقف إلى أكثر ماركة مسجلة له، ذلك بأن قيادته الحالية لا تملك أي برنامج أو حتى أي مبادئ، ومنذ بضعة عقود فإن برنامج الحزب الوحيد هو التمسك بكراسي السلطة. فضلاً عن ذلك، لا بُدّ من القول إن فوز باراك بزعامة حزب العمل في الوقت الحالي لم يكن من قبيل المصادفة، ذلك بأنه يعتبر أفضل من يمثل الحزب في صيغته الحالية، والتي يمكن اعتبارها استمرارًا للصيغة الانتهازية التي رسخها شمعون بيريس (رئيس الدولة الإسرائيلية الحالي والرئيس الأسبق لحزب العمل). لو كانت لدى حزب العمل مبادئ خاصة به لكان يتعين عليه أن يتبنى منذ فترة طويلة مواقف علنية حادّة، وخاصة فيما يتعلق بسياسة الانكفاء التي يتبعها رئيس الحكومة الحالية نتنياهو إزاء الحريديم (اليهود المتدينين المتشددين)، أو السياسة المدمرة التي ينتهجها إزاء العرب في إسرائيل، وكذلك فيما يتعلق بانعدام مبادرة سياسية حقيقية إزاء النزاع مع الفلسطينيين (15).        

 

(يتبع)

هوامش:

 

1) يديعوت أحرونوت، 18/1/2011.

2) المصدر السابق.

3) المصدر السابق.

4) معاريف، 18/1/2011.

5) ألوف بن، هآرتس 29/12/2010.

6) مئير شاليف، يديعوت أحرونوت 31/12/2010.

7) الرؤية القائلة إن المشكلة الرئيسية التي تواجه العالم في الوقت الحالي كامنة في الخطر الإيراني تكررت في خطابات نتنياهو في الآونة الأخيرة، وخاصة في سياق الخطاب الذي ألقاه يوم 11/1/2011 في اللقاء الذي عقده مع مراسلي وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الأجنبية في إسرائيل بمناسبة العام الجديد. وشدّد نتنياهو على أن من الضروري أن يكون لدى إسرائيل ولدى العالم كله خيار عسكري إزاء إيران، أو على الأقل جعل الإيرانيين يشعرون بوجود خيار كهذا.

8) سيفر بلوتسكر، يديعوت أحرونوت 29/12/2010.

9) بـن، المصدر السابق.

10) يديعوت أحرونوت 9/4/2010.

11) يديعوت أحرونوت 19/3/2010.

12) سيما كدمون، يديعوت أحرونوت 21/1/2011.

13) أريئيلا رينغل- هوفمان، يديعوت أحرونوت 20/1/2011.

14) غادي طاوب، يديعوت أحرونوت 10/1/2011.

15) د. أفيعـاد كلاينبرغ، يديعوت أحرونوت 4/1/2011.

التعليقات