العدوان الثلاثي: من مفاعل ديمونا إلى حلف أميركي – إسرائيلي

في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر، عام 1956، أرغِمت إسرائيل على الانسحاب الكامل من سيناء، فيما رفض عبد الناصر مطالب أميركية بتقديم تنازلات للغرب أو لإسرائيل، كان من شأنها أن تمس بمكانته

العدوان الثلاثي: من مفاعل ديمونا إلى حلف أميركي – إسرائيلي

قناة السويس أثناء العدوان الثلاثي

تحل اليوم، السبت، الذكرى السنوية الستون للعدوان الثلاثي الإسرائيلي – الفرنسي – البريطاني على مصر. وبدأت هذه الحرب بهجوم شنته إسرائيل ضد مصر، في 29 تشرين الأول/أكتوبر، في سيناء ووصلت قواتها إلى قناة السويس، وتبعه دخول فرنسا وبريطانيا إلى الحرب، بموجب اتفاق مسبق بين الدول المعتدية الثلاث.

وسبق هذه الحرب اجتماعان بين القيادتين الفرنسية والإسرائيلية عقدا قرب باريس، سعت خلالهما فرنسا إلى إقناع إسرائيل بشن حرب ضد مصر، التي كانت تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وذلك بعد أربع سنوات على ثورة الضباط الأحرار ونهاية الحكم الملكي في مصر.

واعتبرت كل واحدة من الدول المعتدية الثلاث أن لديها أسبابها ودوافعها لشن حرب ضد مصر، التي نفذت خطوات وطنية في تلك الفترة:

-السبب الأول يتعلق ببريطانيا، وهو إعلان عبد الناصر عن تأميم قناة السويس، في 26 تموز/يوليو العام 1956. وقبل التأميم كانت إدارة القناة بأيدي البريطانيين وتدر عليهم أرباحا، إضافة إلى السيطرة على هذا الممر البحري الإستراتيجي.

-السبب الثاني يتعلق بفرنسا، وهو دعم مصر للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، وتزويد الثورة بمساعدات عسكرية.

-السبب الثالث يتعلق بإسرائيل، وهو توقيع مصر اتفاقية مع الاتحاد السوفياتي تقضي بتزود مصر بالسلاح. يشار إلى أن هذه الاتفاقية جاءت في أعقاب رفض الدول الغربية تزويد مصر بالسلاح.

تأييد جماهيري لعبد الناصر بعد تأميم قناة السويس (أ.ب.)

من وجهة النظر الإسرائيلية، حقق العدوان الثلاثي على مصر عدة إنجازات، بينها بروز قوتها العسكرية، وإقامة علاقات مميزة مع الولايات المتحدة، ودفع البرنامج النووي الإسرائيلي. لكن هذه الحرب أثبتت عمق التبعية الإسرائيلية للدول العظمى السابقة، بريطانيا وفرنسا، وبعد ذلك للولايات المتحدة، وأن إسرائيل، عمليا، هي ذراع عدواني للقوى الكبرى ضد أية قوى وطنية وتحررية في المنطقة.

*خلافات في إسرائيل

كان الفدائيون الفلسطينيون، في الفترة التي سبقت العدوان الثلاثي، يشنون هجمات ضد إسرائيل انطلاقا من مصر، بما في ذلك من قطاع غزة، الذي كان تحت السيطرة المصرية منذ نكبة 1948. وشنت إسرائيل عمليات عسكرية شرسة ودموية ضد الفلسطينيين بقيادة أريئيل شارون، عُرفت باسم 'العمليات الانتقامية'.

وقال البروفيسور مردخاي بار – أون ،المؤرخ الإسرائيلي والعميد المتقاعد ومدير مكتب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أثناء العدوان الثلاثي، موشيه ديّان، في مقابلة أجرتها معه صحيفة 'معاريف' ونشرتها يوم الأحد الماضي، إن 'ديان أيّد شن الحرب مع مصر لأنه رأى مخاطر إستراتيجية في المنطقة، ولم تكن لهذا الأمر علاقة مع العمليات الانتقامية، التي استمرت حتى فترة وجيزة قبل نشوب الحرب. ورغم أنه بشنه هذه الحرب ربطها بالمتسللين (أي الفدائيين) من أجل تبريرها أمام الجمهور، لكن كانت لدى ديان اعتبارات أخرى'.  

وأضاف بار – أون أن 'ديان دفع إلى شن الحرب انطلاقا من الرغبة بتوجيه ضربات إلى المصريين من أجل منع استيعابهم للسلاح السوفياتي الذي وصلهم وبذلك تشكيل خطر عليهم. وكان هناك طموحا لدى ديان، وليس لديه وحده فقط، بطرد المصريين من قطاع غزة وشرم الشيخ انطلاقا من رؤية إستراتيجية واسعة، من دون علاقة مع المتسللين أيضا. وعدا كل هذا، فإن الحرب خرجت إلى حيز التنفيذ في ظروف خاصة، إذ طلب الفرنسيون والبريطانيون أن ننضم إلى حرب شاملة ضد عبد الناصر'.

وأشار بار – أون إلى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية في حينه، دافيد بن غوريون، لم يكن متحمسا لهذه الحرب بل وعارضها. وكونه مدير مكتب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، رافق بار – أون ديان إلى الاجتماعات المتعلقة بهذه الحرب، في فرنسا، واطلع على كافة تفاصيلها.

وقال إن الاجتماع الأول عُقد في سان جيرمان قرب باريس، وترأست الوفد الإسرائيلي وزيرة الخارجية، غولدا مئير، وبين أعضاء الوفد مدير عام وزارة الأمن، شمعون بيرس، وديان وبار – أون نفسه.

وأضاف بار – أون أن 'ديان بحث طوال الوقت عن معادلة تبدد مخاوف رئيس الحكومة بن غوريون، الذي عارض مطلب بريطانيا وفرنسا بأن تهاجم إسرائيل مصر من أجل أن توفر لهما ذريعة لمهاجمة القناة. وعندما عاد الوفد إلى البلاد، جمع ديان هيئة الأركان العامة وأصدر أمر إنذار من حرب، وشمل ذلك خططا لاحتلال شبه جزيرة سيناء'.

وتابع أن ديان فعل ذلك 'إثر تقديرات بأنه على الرغم من كل شيء ستندلع حربا في سيناء يخوضها الجيش الإسرائيلي وحده'. وأردف بار – أون أنه 'بعد المحادثات الأولى بقيادة غولدا (مئير) والتي لم ينتج عنها سوى تعهد فرنسي بتزويد أسلح، بما في ذلك 100 دبابة، توجه إلى فرنسا، في 24 تشرين الأول/أكتوبر عام 1956، أي قبل خمسة أيام من الحرب، وفد ثانٍ، وهذه المرة برئاسة بن غوريون. ولم يكن رئيس الحكومة متحمسا لهذا الأمر، لكن قال ساخرا إنه من اللطيف على الأقل التعرف على رئيس الحكومة الفرنسية غاي موليه'.

وخلال الرحلة الجوية، بحسب بار – أون، صاغ ديان في الطائرة أهداف الحرب، وهي إنشاء تهديد عسكري على قناة السويس بواسطة الاستيلاء على مواقع قريبة منها، واحتلال مضائق تيران، وتشويش انتشار القوات المصرية في سيناء من أجل التسبب بانهيارها.

وتابع أنه 'أثناء المحادثات في ساوير اتضح لبن غوريون أن الفرنسيين يشترطون استمرار علاقاتهم معنا، بما في ذلك صفقات الأسلحة الكبيرة التي كانت في طريقها إلى البلاد، بموافقته على القتال معهم ومع البريطانيين في سيناء. وتردد بن غوريون كثيرا خلال المحادثات' لكنه وافق في نهاية الأمر.

مفاعل ديمونا النووي (أ.ف.ب.)

وقبل عودة الوفد الإسرائيلي، بعث ديان برقية إلى رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، مئير عميت، كتب فيها التالي: 'احتمالات كبيرة للحرب باقرب وقت. استدعوا وحدات المدرعات فورا. اهتم بسرية الاستدعاء. فعّل حالا عملية تضليل باتجاه الأردن بما يتعلق بدخول العراق'.

وأشار بار – أون إلى أن ديان، المعروف بانجذابه الشديد إلى الآثار، سرق موجودات أثرية من سيناء وأحضرها إلى بيته، وبينها تمثال فرعوني صغير. وكان ديان بعد العدوان من مؤيدي إبقاء الاحتلال الإسرائيلي على أجزاء من سيناء على الأقل، لكن بعد ضغوط أميركية وسوفياتية، أمره بن غوريون بتنفيذ انسحاب كامل.

وعبر بن غوريون عن رؤيته لهذه الحرب، في رسالة إلى ديان لدى انتهاء ولايته كرئيس أركان الجيش، في بداية العام 1958، معتبرا أن 'سنوات خدمتك الأربع ستبقى لأمد بعيد تحولا بالغ الأهمية وغني بالنتائج للجيش الإسرائيلي. ودرة التاج في عملك هي حرب سيناء المليئة بالبطولة والمجد، والتي أدت إلى سطوع نجم الجيش الإسرائيلي وإسرائيل في العالم'. 

وحصلت إسرائيل في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر على أهم طلب قدمته إلى فرنسا، وهو القدرة على صنع السلاح النووي. ففي مقابلة أجراها كاتب هذه السطور مع بار – أون، ونُشرت في 48 من مجلة 'قضايا إسرائيلية' الصادرة عن مركز 'مدار' في رام الله، أكد بار – أون على أنه 'لدى اتخاذ القرار بشأن عملية سيناء (أي شن العدوان الثلاثي)، أعطى رئيس الوزراء الفرنسي جي موليه إسرائيل موافقة مبدئية بتزويدها بالخبرات ومساعدة المهندسين من أجل إقامة مفاعل ديمونا (النووي). وتم البدء في العمل بعد ذلك بسنتين، في العام 1958'.

*بداية حلف إستراتيجي أميركي - إسرائيلي

وضعت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل هدفا للعدوان الثلاثي على مصر، وهو إسقاط حكم عبد الناصر واستبداله بنظام 'مريح' أكثر، وأن يوقع نظام كهذا على سلام مع إسرائيل، ويوافق على الوجود العسكري البريطاني في مصر ويسمح للدول الكبرى الأوروبية الاستعمارية بالتجارة في المنطقة وعبور سفنها في قناة السويس دون عائق.

لكن هذا المخطط ضد مصر واجه معارضة من جانب الولايات المتحدة، وفقا لكتاب صدر مؤخرا في الولايات المتحدة بعنوان 'رهان آيك' ومن تأليف المسؤول السابق في البيت الأبيض والباحث في شؤون الشرق الأوسط، الدكتور مايكل دوران. وبحسب هذا الباحث، فإن سياسة الرئيس الأميركي، دويت آيزنهاور، وكنيته الشعبية 'آيك'، الذي تولى الرئاسة في العام 1952، كانت تتعارض مع سياسة بريطانيا وفرنسا. وكان أيزنهاور يسعى إلى جذب الدول العربية، وعلى رأسها مصر بقيادة عبد الناصر، إلى المعسكر الغربي ومنع تقاربها من المعسكر الشرقي وتوسع النفوذ السوفياتي.

ووصلت المواجهة أوجها بين أيزنهاور وبين فرنسا وبريطانيا وإسرائيل، عندما شنت الأخيرة عدوانها الثلاثي وغزت سيناء في 29 تشرين الأول/أكتوبر العام 1956. وهذه الدول الثلاث لم تتوقع قوة رد الفعل الأميركي، الذي نأى بنفسه عن هذه الحرب، وحتى أنه هدد بفرض العقوبات على الدول الثلاث.

وبعدما أعلن بن غوريون عن إقامة 'مملكة إسرائيل الثالثة'، أوضح أيزنهاور لرئيس الحكومة الإسرائيلية أن على إسرائيل الانسحاب بأسرع وقت من سيناء، وهو ما حدث بعد عدة شهور. وقد باءت جهود إسرائيل في الكونغرس الأميركي ضد أيزنهاور بالفشل، ويرى مؤرخون وباحثون أن هذه الجهود الإسرائيلية زادت من تصميم الرئيس الأميركي على أن تنسحب إسرائيل من سيناء كلها.

أيزنهاور

رغم هذا الموقف الأميركي الحازم، إلا أن دوران يعتبر أن العدوان الثلاثي شكل نقطة البداية للعلاقات الأميركية – الإسرائيلية والحلف الإستراتيجي بينهما لاحقا. وجاء هذا التحول بعد صفقة أسلحة بين مصر والاتحاد السوفياتي، وبعد الإطاحة بالملك فيصل الثاني في العراق بانقلاب عسكري بدعم من عبد الناصر.

ويعتبر كثير من الباحثين أن نقطة التحول في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية بدأت في حرب حزيران/يونيو العام 1967، لكن دوران أشار في مقابلة أجراها معه موقع 'واللا' الالكتروني، الأسبوع الماضي، إلى أن حرب حزيران شكلت نهاية فترة وبداية فترة جديدة. 'المفهوم الذي كان سائدا لدى النخبة الأميركية بأن إسرائيل هي عبء على الولايات المتحدة، وصل ذروته في منتصف سنوات الخمسين. وفي اللحظة التي اتجه فيها عبد الناصر نحو الاتحاد السوفياتي، بدأ هذا المفهوم يضعف... وجذور الموقف المؤيد لإسرائيل في واشنطن بدأت في نهاية ولاية أيزنهاور'.

وأضاف دوران أنه على الرغم من تغيير أيزنهاور لسياسته، إلا أنه ما كان سيوافق أبدا على بقاء احتلال إسرائيل لسيناء، لكنه كان يرغب بأن يرافق الانسحاب الإسرائيلي تنازلات من جانب عبد الناصر، مثل جعل سيناء منزوعة السلاح والسماح بعبور السفن الغربية بشكل حر في قناة السويس، أو حتى السماح للسفن الإسرائيلية بالعبور في القناة. وقد رفض عبد الناصر شروطا كهذه. وقال دوران إن تنازلات كهذه كانت ستمس بمكانة عبد الناصر.

اقرأ/ي أيضًا | كيف مهد العدوان الثلاثي لحصول إسرائيل على مفاعل نووي؟

التعليقات