31/10/2010 - 11:02

سورية: الإشكالية الكردية تهدد النسيج الاجتماعي/غسان الإمام

سورية: الإشكالية الكردية تهدد النسيج الاجتماعي/غسان الإمام
تربطني بكرة القدم علاقة هوى قديم. كانت أسعد الساعات في صغري تلك التي أقضيها في ملعب الكرة لاعبا أو متفرجا. وكنت اللاعب المسلم الوحيد في فريق المدرسة المسيحية التي أنتسب إليها. سقى الله زمان دمشق. فلم يكن وجودي في المدرسة أو فريق الكرة ليثير أية حساسية لي أو لزملائي المسيحيين. بل كنت أعتبر الكرة عاملا من عوامل الألفة والمحبة التي ربطتني سنين طويلة بهؤلاء الأصدقاء، إلى أن فرقتنا الحياة في الدروب. وكبرت فكبر هَمُّ الكرة معي، ليس كلاعب أو متفرج، إنما كمراقب لنفوذها وتأثيرها في المجتمعات المختلفة. يوما بعد يوم، تزداد خيبتي بها وقلقي منها. فقد تحولت من لعبة تعاونية وتضامنية، إلى لعبة معبرة عن الغرائز الاجتماعية المثيرة للحساسيات، والممزقة لسلام المدن والمجتمعات والدول. في مجتمع التمزق العائلي، وفي مجتمع العنف أو الفقر والاغتراب والإقصاء، بات النادي هو العائلة، والفريق الرياضي هو الانتماء المتعصب، والملعب ساحة للصراع وأحيانا للاقتتال بين جماهير متنافسة، جماهير غوغائية غائبة عن الوعي، وغير مدركة لخطر الشعارات التي ترفعها والاستفزازات التي تتبادلها. أصابني الحزن عندما ضرب الجزائريون اللاعبين المصريين. كان العتب المصري رقيقا ومريرا. ذكروا المراهقين الجزائريين عبثا بأن مصر هي البلد الشقيق الذي دعم نضال آبائهم من أجل الحرية والاستقلال.

في الأردن، تضطر الشرطة إلى التدخل للفصل بين جمهور المخيمات الفلسطينية وجمهور المدن الأردنية. في مصر، الحساسية قديمة بين النادي الأهلي (الشعبي) ونادي الزمالك النخبوي. الجمهور السوري لم يعد غريبا عن الظواهر السلبية التي باتت الكرة تفرزها في المدن والمجتمعات. وها هي مباراة محافظة الجزيرة (الحسكة) مع جارتها الجنوبية محافظة دير الزور تخلف عشرات القتلى والجرحى، وتترجم تصاعد التوتر الاجتماعي، وتعكس عملية الفرز المذهبي والعرقي في العراق البلد الشقيق المجاور. في محاولة لتفسير ما جرى، أقول إن محافظتي دير الزور والرقة تشكلان الخاصرة السورية الشرقية. وهما مسكونتان بعوائل كبيرة تنتمي إلى القبائل والعشائر العربية التي ما تزال تجوب الصحراء على طول الحدود السورية ـ العراقية (600 كلم).

وتعتبر قبيلة شُمَّر الأبرز، ومعظم فروعها وبطونها يستوطن منذ القديم أرض وصحراء محافظة الجزيرة في الشمال الشرقي من البلاد. هذه العوائل والعشائر السنية ترتبط بالقرابة وصلة التواصل المباشرة مع امتداداتها في العراق، وبالذات مع عشائر وعوائل ما يعرف اليوم بـ المثلث السني في شمال بغداد وغربها. وتكاد المشاعر والملامح واللهجات والتقاليد تتطابق على جانبي الحدود. لذلك ليس غريبا أن يسكن هؤلاء جميعا الغضبُ العارم لما يحل بأشقائهم عبر الحدود على أيدي الأميركيين وحلفائهم وأعوانهم في العراق، وفي مقدمتهم الأكراد الذين باتوا يشكلون عددا لا يستهان به من أفراد الشرطة والأجهزة المخابراتية التي توقع بالعرب، بدءا من الموصل شمالا إلى كركوك، امتدادا إلى مدن المثلث وقراه وصحرائه جنوبا. التركيب السكاني لمحافظة الجزيرة (في أقصى الشمال الشرقي) يختلف كليا. فإلى جانب عشائر شمر العربية، تقيم في مدن هذه المحافظة وقراها المجاورة للحدود العراقية والتركية، عوائل وعشائر كردية سنية ويزيدية، بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المسيحيين السريان والأرمن والآشوريين.

وفيما ينخفض عدد المسيحيين بالهجرة، ازداد عدد الأكراد المتسللين الهاربين من قمع صدام وتركيا، بحيث يحتلون اليوم شريط الحدود السورية ـ التركية (800 كم). وهكذا، شكلت كرة النار شرارة الصدام بين هذه الكتل السكانية غير المنسجمة عرقيا وسياسيا. وكان ملعب مدينة القامشلي، كبرى مدن محافظة الجزيرة، مسرحا لمأساة الصدام الدموي، بعدما جاء مشجعو فريق دير الزور حاملين معهم غضبهم العارم على الأكراد. سورية جسر الشرق. عليه عبر تاريخيا غزاة وهاجرت إليه ومنه أقوام. شكل الفتح الإسلامي بوتقة صهر مثالية لهذه الأقوام في لغة وثقافة عربية هيأت لتعايش تاريخي سلمي.

ولا أظن شعبين تزاوجا واندمجا مدنيا واجتماعيا ودينيا كما اندمج العرب والأكراد في سورية والعالم العربي. وتركز هذا الاندماج في المدن، بحيث تأسلمت واستعربت ألوف الأسر الكردية والتركية. ومنها انبثقت قيادات سياسية، كآل مردم وهنانو والقوتلي، قادت النضال الوطني والقومي العربي ضد الاستعمار. لكن أكراد الأطراف والحدود حافظوا على عصبيتهم العرقية. ومع يقظة الذاكرة والتضخم العددي بحكم التسلل المستمر إلى بلد كسورية يفاخر بكرم الضيافة، تحاول الحركات الكردية الآن اختراق النسيج المدني بتذكير الأسر المستعربة بالعصبية المهددة للسلام الاجتماعي! كان تعامل سورية السياسي مع الإشكالية الكردية شديد التعقيد والتناقض.

وصل أبناء أسر كردية مستعربة إلى قمة الحكم (حسني الزعيم. أديب الشيشكلي. فوزي سلو. حسني ومحسن البرازي...) دون أية حساسية. وبرز الكردي خالد بكداش، الزعيم التاريخي للحزب الشيوعي، كأخطب الخطباء ومن أبرز نواب دمشق في القرن العشرين. غير أن عروبة سورية كانت دائما شديدة القلق إزاء أكراد الحدود والأطراف وأكراد العراق.

تعثر الإصلاح الزراعي عندما اكتشف عبد الناصر أن الأرض الخصبة في محافظة الجزيرة ستنتزع من قبيلة شمر، لتعطى إلى أكراد الحدود المشكوك في ولائهم. ثم دفع آخر تمرد مسلح لمصطفى البرزاني بسورية إلى إرسال قوات نظامية لمقاتلته مع القوات العراقية في الستينات. القلق السوري من الأكراد ما لبث أن انقلب إلى غزل بين نظام الرئيس الراحل حافظ الاسد وأكراد العراق، نكاية بنظام صدام الذي راح يغازل موارنة لبنان نكاية بالأسد. واستقبلت دمشق ألوف الأكراد العراقيين، وأقامت علاقة تفاهم واختلاف مع طالباني والبرزاني الابن. وكانت الحكمة السورية تكمن في الرغبة في استمالة أكراد العراق واجتذابهم، للنأي بهم عن إسرائيل بالذات. غير أن العلاقة الحميمة للأكراد مع سورية حافظ الأسد، تلك التي أقامها عبد الله أوكالان الزعيم اليساري لأكراد تركيا. ومكنته هذه العلاقة من جعل سورية قاعدة لنشاطه الانفصالي في بلده، بحيث كادت تركيا تدخل في نزاع مسلح مع سورية، لولا مسارعة الأسد إلى إخراجه من البلاد. لا شك أن مباراة القامشلي الدامية ستدفع سورية إلى إعادة النظر في التعامل مع الإشكالية الكردية المتفاقمة. فلا بد من هدهدة الانتماءات المختلفة والعواطف المتأججة في مجتمع سني شديد الوعي بعروبته، وشديد القلق لما يحدث لأشقاء له في العراق. نعم، ليس مقبولا أن ينتقم عرب دير الزور لأهل المثلث من أكراد أبرياء، سواء كانوا سوريين أو متسللين. كذلك ليس مقبولا أن يأخذ الأكراد القانون بأيديهم، فيثأرون من الديريين بتحطيم البنى والخدمات العامة في القامشلي. وأمر خطير أن يصل الثأر الكردي إلى دمشق التي تحتضن أكرادا سوريين منذ مئات السنين، اختاروا أن يطلوا على دمشق من الجهة الشرقية لجبل المهاجرين، وكانوا مثالا للتعايش الاجتماعي السلمي بالاختلاط والزواج مع مدينة تفاخر بعروبتها على مر العهود. سورية التي اقتُطعت أجزاء واسعة منها في القرن الماضي، لا تستطيع احتواء واستيعاب مئات ألوف المتسللين المطالبين باقتطاع أجزاء أخرى باتوا يسكنونها ويتكاثرون فيها. وإذا كانت من نصيحة لجمعيات حقوق الإنسان السورية، فهي التزام الحذر والحكمة في معالجة الإشكالية الكردية. فهذه الجمعيات تصب الزيت على النار عندما تتبنى، نكاية بالنظام، دعوات مريبة للتجنيس ولانتهاك القانون وتخريب النسيج الاجتماعي باسم حقوق الإنسان ! لم يكن النظام طرفا في الصدام، وليس من مصلحته تأجيج الصراع الاجتماعي، أو غض النظر عن التسلل.

لكن التعامل بالعنف مع هذا الطرف أو ذاك ليس حلا. كان على السلطات الإدارية والحزبية والأمنية بذل جهد أكبر للمصالحة ولتهدئة العواطف، ثم للاستشفاف المبكر لما يمكن أن تحدثه كرة ملتهبة تُلقى في ملعب يشكل أتونا للصراع الاجتماعي.
----------
المصدر: الشرق الاوسط (16 / اذار 2004)

التعليقات