31/10/2010 - 11:02

طريق...

طريق...
درّست الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بير زيت طيلة عشر سنوات لا يتسع المجال هنا للبدء بالحديث عنها. ولكن نكتفي بالقول إن لموقعها وقعاً في النفس يفضحه إيقاع نبض العربي عندما يقترب من الديار، ويطل الحرم الجامعي بعد التواء حول نتوء سفح في الأرض يخفيه، بعد قرية أبو قش.
وقد دعيت قبل أسابيع لألقي محاضرة حول الدين والديمقراطية اليوم في مؤتمر أكاديمي دولي حول الدين والدولة. لبّيت الدعوة وفاءاً لزملاء بقوا مدرسين في الجامعة.

وانطلقت إلى هناك صباح اليوم.
كنت في الماضي أنطلق إلى جامعة بير زيت من شمال مدينة القدس، حيث كنت أقيم، قبل نصف ساعة من الدرس الصباحي الذي يبدأ في الثامنة. فقد كنت أبكر سنا من جيل الإستيقاظ المبكر والنوم المبكر. وكنت أصارح الطلاب بمرارة أنه من بين أسباب اختياري لهذه المهنة أني لن اضطر للخروج إلى العمل عندما يخرج الناس، والعودة منه حين يعودون مبذرا وقتي وأعصابي في حشرة السير وعجقة المرور عبدا شقيا للوظيفة ورتابة إيقاع الزمن وغيرها. وها هي جامعتكم تضطرني إلى التفكير من جديد بهذه المهنة إذا بقيت مواعيد محاضراتي على حالها. ومع ذلك كنت أصل قبل خمس دقائق من الوقت لكي لا أبدأ حديثي عن ماركس أو فانون أو لوك أو روسو أو حتى حسن البنا لاهثا.

اليوم، أي بعد مرور عشر سنين، انطلقت قبل ساعتين ونصف من موعد المحاضرة. ووصلت في الموعد المحدد بالضبط..!

تتطور الدنيا، وتقصر المسافات. وفي داخل الخط الأخضر شق شارع "عابر إسرائيل" مقربا كل مستوطنة في الجليل والنقب إلى تل أبيب، فتوسعت حرية اختيار مكان السكن ومعها حرية الحركة في المكان الذي يتملكه الإنسان بحركته فيه وطنا لا يقتصر على القرية ولا ينحصر في البلدة، يصبح كل الوطن بلد...هذه مقولة شعرية وتكنولوجية في آن كما يبدو.

أما في المناطق المحتلة عام 1967، فتمزق المكان حتى صرت تعبره على قفزات، وبين القفزة والأخرى هوة سحيقة من الجدران والحواجز.
تخرج من بيتك وأنت محتقن، احتقان المسافر إلى مطار عند الفجر. توقع بهدلة التفتيش تطغى على وداع الأهل إلى درجة الندم أنك لم تفكر بفراقهم بقدر ما فكرت ماذا سيسألون وماذا سوف تجيب وهل سيفتحون كل لباس داخلي أمام طابور المسافرين الذين يطلون من خلف كتفك بنظرات منحرفة، أو هكذا تتخيلهم وهم أبرياء من أفكارك الدنيئة.

ثم عليك أن تقرر "طريق عادي أم التفافي"، وان تتصل بعدة معارف لكي تطمئن على الوضع في الطريق. ثم تعبر شارع رام الله القدس التاريخي الذي صار تاريخا. جدار يشقه في الوسط على طوله من رام الله إلى القدس بحيث انقطعت جهة من الشارع عن جهته الأخرى تماما. فوجد بعض من "شعب الجبارين" نفسه بين ليلة وضحاها بعيدا بعد سنة ضوئية عن الدكان الذي كان يتصبح بصاحبه كل صباح على الجهة المقابلة، أو أضحى بلا عمل لأن المؤسسة التي يعمل فيها كانت على ناصية الشارع المقابلة وباتت على ضفة العالم المقابلة...

تسافر وعلى يسارك أقبح قطعة من الجدار في الضفة الغربية وقطاع غزة والمناطق المحتلة عام 1967 و"يهودا والسامرة" وفي مناطق السلطة الفلسطينية المقامة على كل متر وشبر وفتر وإنش محرر..

ثم تلتفت إلى نفسك لتتساءل: هل جننا؟ ماذا فعلوا بنا؟
لقد تعود بعضنا على الحائط المنحط هو ومن حطه إلى درجة استخدامه لوحة إعلانات طويلة لملصقات صور المرشحين في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة ولبعض البضائع..

لن تجد تعبيرا أكثر رمزية عن الإنتخابات والديمقراطية الفلسطينية والخلافات في ظلها من هذا الجدار القبيح المغطاة بإعلانات المرشحين للإنتخابات والخصومات والخلافات التي تجري خلف جدران السجن. إسمنت مسلح وملصقات وجدار يشق الشارع على طوله.

وفي نهاية الشارع الجداري حاجز يبنى كنقطة حدودية كبيرة عند رقبة رام الله حيث يضغط على خناقها. ورشة بناء قذرة وأكوام تراب وغبار، والشارع يلتف حولها ريثما تنتهي الورشة وتنظم الحدود.

في نهاية الطريق الإلتفافي "حاجز طيار" ومئات السيارات تنتظر. لا، إنها لا تنتظر تماما، فأنا أعرف تعابير سأم الانتظار. إنها محبوسة في فخ. قيل لمن وصل الحاجز أن الطريق إلى رام الله مغلقة إلى أجل غير مسمى. ولكن السيارات تكومت في جسد حديدي لا يعرف أوله من آخره. والعودة غير ممكنة. انسدت الطريق بدون سبب واضح ولا أحد يستطيع التقدم أو التقهقر. ولا توجد أية علاقة اجتماعية أو غيرها بين المنتظرين.

تدبرنا أمرنا وعدنا بعد انتظار ساعة بشق الطريق بشق النفس بين السيارات والمشاة "خلفاً در".

دخلنا منطقة الرام بين القدس ورام الله وحاولنا أن نشقها فوجدناها سوقا مزدحمة بباقات الحمص الأخضر والمشمش البلدي، فهذا أسبوعه... ازدحام حي صاخب، حي مزدحم منفرد وحده دون مدينة. خرجنا من آخره إلى شارع مستوطنين يلتف حول رام الله باتجاه الشمال. دخلنا رام لله من جهة نابلس. وأصر جنود الحاجز هناك أن يسألوا لماذا حضرت ومن معي...وهل هنالك تنسيق؟ فأجبت: تنسيق؟ لا، إن حضوري لإلقاء محاضرة هو خطوة فلسطينية من طرف واحد. لا تنسيق ولا مفاوضات"!

دخلنا رام الله بعد سمة بدن. هدوء غير مشوب بالحذر. هدوء.
يستطيع الناس أن يتخيلوا كما يبدو أن هذا هو العالم وأن يتصرفوا في داخله كأنهم في بلدة عادية لأنهم كما يبدو لا يرون الحفر والأكوام الترابية والحواجز والجدار بملصقاته. بلدة، لو أخذتها وحدها هكذا كتجريد، هي بلدة. وربما هكذا يتعامل معها سكانها كي يعيشوا ب"شكل طبيعي" إلى حد ما.

إلى أن وصلنا شارع الإرسال (علق اسمه منذ أن بثت منه إذاعة بريطانيا من عهد الإنتداب)، في أوله حياني أفراد من الشرطة الفلسطينية بأدب بالغ وقالوا إنه من المفضل أن ألتف حول شارع الإرسال من جديد إلى مدخل رام لله ثم غربا إلى بير زيت لان في الشارع مظاهرة موظفين مطالبة الحكومة الفلسطينية بالرواتب.
قمنا بالإلتفاف ووصلنا إلى بير زيت ودخلت لاهثا..
علي الآن أن القي محاضرة في مؤتمر أكاديمي.

قبل عشرة أعوام كان هنالك طريق من القدس إلى بير زيت. وعندما كان الجنود الإسرائيليون يضعون حاجزا بين رام الله والجامعة، كان الطلاب يتظاهرون احتجاجا. وقد سقط شهداء من طلاب الجامعة في مظاهرات كهذه لأن الحاجز منع الطلاب من الوصول إلى محاضراتهم في الوقت.

بمفاهيم اليوم كانت الطريق سالكة، وكان اليوم عاديا. وليس من سبب خاص للتذمر..

التعليقات