بلاد البحر: رواية زمن اللامعقول، والفساد، وشفافيّة البسطاء../ رشاد أبو شاور

-

بلاد البحر: رواية زمن اللامعقول، والفساد، وشفافيّة البسطاء../ رشاد أبو شاور
رواية شجاعة، فاضحة، صارخة، مكتوبة بحرقة الروح، هذه هي رواية ( بلاد البحر) للروائي الفلسطيني أحمد رفيق عوض.*

رواية ( بلاد البحر ) للروائي الفلسطيني أحمد رفيق عوض، رواية تحاور التاريخ، وتفضح الواقع، وتهجو الفساد. تحلّق بالقارئ في السماء ليرى فلسطين بتمامها، بكامل تفاصيلها الجغرافيّة، ومحطّات تاريخها المفصليّة. تستدعي ( بلاد البحر) الأبطال، وتعرّي الأنذال والمتقاعسين، وتلاحق باللعنات وحشية الاحتلالات لفلسطين، وما أكثرها وأقبح من اقترفوها: فرنجة، مغول، إنكليز، صهاينة.

(بلاد البحر) هي سيرة أوجاع الناس، وتقلبات أزمنتهم، وما لحق بهم من أذى، وتسبب بآلامهم وغضبهم.
رواية بلاد البحر، رواية فلسطين التي هي بلاد البحر، البحر المفتوح على الدنيا، بموانئه منذ الكنعانيين، والسفر على شواطئه، واستقباله التجّار، والفضوليين، والمغامرين، واللصوص والقتلة، والغزاة الأوغاد، و..اقتحام البلاد عبر موانئ أعدّت للتواصل مع العالم فحوّلها الغزاة الطامعون إلى مدخل للاحتلال، والنهب،وإشاعة الخراب انتقاما ًمن روح التحضّر،والمدنيّة،والخصب.

كيف يكتب الروائي رواية تمتّد على زمن هو مئات السنين، منذ الحروب الصليبيّة حتى الاحتلال الصهيوني.. وسلطة الحكم الذاتي، وعودة حزب ( المصانعة ) للبروز من جديد، ذلك الحزب الذي ( صانع) الاحتلال الصليبي بحجّة الواقعيّة، والذي أوجع قلب القائد المجاهد الأشرف خليل قلاوون، الأبخازي الأصل، الذي منح حياته لفلسطين، أسوة بوالده، لتطهيرها من الاحتلال الصليبي.

التجّار بكافة أنواعهم آنذاك ، في زمن الأشرف خليل، انطلقوا من مصلحتهم في الربح المادي فبرّروا التجارة مع الصليبيين المحتلين، ودعوا لتجنّب القتال معهم، فهم في (مدنهم) - وهي المدن الفلسطينيّة المحتلّة كعكّا مثلاً- ولذا تنبغي ( مصانعتهم) أي التجارة معهم، فالتجارة تربح والمقاومة تخسّر!.

حزب المصانعة هذا نفر من القتال والجهاد لتحرير المدن الفلسطينيّة المحتلّة، فالمصانعة هي الحكمة، والعقل، وصون الدم والجهد!.( خطاب قديم جديد!).
تحليق بالتاريخ، ومع التاريخ، واستعادة للتاريخ بمعاركه، وأطراف صراعه، بأبطاله، وأنذاله، ووضعه أمام عيوننا لا كأخبار لمعارك، ولكن كردود أفعال فاعلة لبشر من لحم ودّم، كمشاعر، وأرواح، وثقافة، وعلاقات، وآلام،وهموم، كثأر وعقاب، كهمم تنتشل الناس من وهاد اليأس والانكسار ليرتقوا على خوفهم وانخذالهم.

تبدأ الرواية بمشهد مثير، مشوّق: جاءني أبو الفداء في المنام. هبط مثل الرّخ، بوبر وريش ومطر وريح وعتمة، وأنا تحت الشجرة أرتجف مثل أرنب. كنت على سفح أو كتف واد عميق، هوّة واسعة تحتي أو أسفل شجرة. لا شيء سوى العتمة والسواد والمطر الذي لا صوت له، وريح صرصر عاتية تأتي من أسفل الوادي، أو قاع الهوّة وتذهب إلى جهة بعيدة تحمل معها برداً يقّص الحديد ويفتّت الصوّان. قال أبو الفداء وهو يلقي علي رداء ثقيلاً له ملمس الشوك أو الليف الخشن:
_ ما الذي تفعله هنا أيها الولد؟!
ولأن الولد بريء، فهو يلهو حول في مقثاة أبيه مع (الخلند)، يصنع فزّاعة، والمقثاة قريبة من القرية، تبدأ من وادي العبهر حتى خلّة حمدان.. ومنها يرى بحر قيساريّة، الذي يتأمّله ويتشمم رائحته طيلة النهار.

رواية أحمد رفيق عوض لا تبنى بفصول متلاحقة، مسرودة بتتابع زمني، تجري أحداثها في بقعة محدودة، أبطالها يتطوّرون مع الأحداث ومن خلالها، متأثرين مؤثريّن.
( بلاد البحر) رواية تأخذ من (المنامات) تقنيتها وأسلوبها الغرائبي، اللامعقول، لتسرد أحداثاً وقعت وإن كانت فوق احتمال العقل وقبوله للامعقوليتها.

من لم يقرأ مقامات ( الوهراني) الجزائري، فستثيره هذه الرواية، وتستدرجه لقراءتها، وتعيده إلى مقامات وأحلام جدّنا الفلسطيني ( إبن القيسراني)، التي كتبها إبان احتلال الفرنجة معظم بلاد الشام، وقلبها فلسطن، التي قلبها وسرّها القدس الشريف.

المنامات لاعقلانيّة، سرحات، تحليقات، نفثات خاطر، زفرات غضب وقهر، انفجارات شكاوى، وهي تبدأ وتنفتح على استمرارية يمكن أن لا تتوقّف ما دام تاريخ وطننا لا يكّف عن الصراع الدامي العنيف مع الاحتلالات، التي حرمت الأجيال الفلسطينيّة عبر عصور أن تلتقط أنفاسها كباقي البشر على هذا الكوكب.

أبو الفداء يحمل أحمد بن مسعود ويحلّق به في سماء فلسطين، يأخذه من طفولة لاهية إلى وقائع تاريخ مدهش، مخيف، صادم، يفجّر في وعيه أسئلة تزعزع اللهو الطفلي البريء في مقثاة الأب، إلى مشاهد، ووقائع، يخوض به فيها عبر الزمن، فيجمعه بأبطال سمعنا بهم، وعرفنا عنهم بعض ما روته كتب التاريخ، ولكننا هنا في ( بلاد البحر) نشم أنفاسهم، نشاركهم غضبهم وحقدهم على الاحتلال، نراهم في مقدمة جيوش يعدّونها لردع المعتدي، وإنزال القصاص به بحيث لا يعود إلى هذه البلاد، بالسيّف لا بالمصانعة. نسمع أسئلتهم، حرقة نفوسهم، حبّهم وتعلّقهم بهذا الوطن الذي وفد إليه آباؤهم وأجدادهم من بلاد بعيدة، وأخلصوا له برابطة الدين ووفاءً لدم آبائهم الذي سال على ثراه في معارك سلفت. الوطن الذي لم يعد لهم وطن سواه. الوطن الذي يرفع بعضهم إلى سدّة المجد مكافأةً لهم على وفائهم وإخلاصهم له، ويهوي بمن يخونه إلى الحضيض والعار المقيم.

أيمكن للرواية أن تكون صرخة شعب مفجوع؟ نعم يمكن، إذا ما كتبها روائي يعرف عن ماذا يكتب، ولمن يكتب، روائي همّه أن يهّز النفوس، ويرّج الركود، ويهجو الفساد والحقارة والنذالة، فلا يكتفي بتمجيّد الشجاعة، ولكنه يسحب الغطاء عن الفاسدين المفسدين المصانعين عبر كّل المراحل التي ابتليت بها بلاد البحر.

يبدأ الراوي سرده من اللحظة الراهنة الاحتلالية، التي تصادر حقل الأب، مقثاته، لينشئ عليها الاحتلال ( مستعمرة)، فيضيع عقل الأب العاجز عن فعل شئ لرّد هذا الاجتياح الباغي. يفقد الأب اتزانه وتوازنه، فما يحدث غير عقلاني، وهو لا يملك سوى أن يسوح في هذه الأرض، كما لو إنه ( نيص)، والنيص حيوان ليلي، بريش كالزجاج، جوّال ليل، اقتناصه صعب، يدافع عن نفسه بسّم يفرزه بدنه ويدفعه عبر ريشه القاسي الشبيه بالزجاج، لينغرس في أرجل مطارديه...

الفتى المحمول عاليّاً بين يدي شيخه أبي الفداء، يسأل عن أحد الذين اجتاحوا فلسطين وبلاد الشام:
_ صف لي هولاكو يا شيخي ...
_ هو رجل كبده متقيح، خفيف اللحم ولا أحشاء له، له وجه سحليّة مرتعبة، وكان يكره الإسلام والمسلمين، ولهذا كاتب الفرنجة من أجل القضاء على بغداد ودمشق وحلب والموصل والقاهرة ومكّة...
في رواية بلاد البحر يؤنسن أحمد رفيق عوض الأماكن، وهذا ليس بالجديد في الكتابة الفلسطينيّة، ففاقد الشيء مسكون به ، برغبة استعادته، فالشيء المفتقد يهيمن على العقل والروح والنفس، والمفتقد وطن.
تساءل أبو الفداء: مساكين هؤلاء العرب الفلسطينيّون!
قلت: نعم.. مساكين.. هم في منطقة انعدام الوزن تماماً.. هذا ما تفعله الهزائم بالناس ( ص 57).

فلسطين التاريخيّة والجغرافيّة مفتوحة تحت جناحي ( أبو الفداء)، ونظر الراوي أحمد بن مسعود، ولذا فهو يرى عكّا الآن كمدينة حشيش، فهكذا جعلها الاحتلال منذ استباحها في العام 48. ويراها في مشهد تاريخي رهيب مهيب، قبل المعركة الفاصلة التي كللّت باستعادتها وتطهيرها، يراها من حالق وهو بين يدي شيخه أبي الفداء، والأشرف خليل قلاوون يرابط حولها بجيوشه قبل أن تندفع لتثار لهزيمة وانكسار أبيه أمام جدرانها، فالحقد على العدو شرط للانتصار عليه، فحشد الجيوش لا المصانعة هو سبيل الحريّة والتحرير.

حزب المصانعة:
يهبط أبو الفداء بالفتى أحمد بن مسعود، ليجمعه بالأشرف خليل قلاوون وهو يتهيّا لخوض المعركة الفاصلة لتحرير عكّا، فيستفسر الفتى من الأمير المجاهد العنيد عن حزب (المصانعة)، فيجيبه الأشرف خليل:
_ هو حزب كان يدعو إلى عدم طرد الفرنجة من المدن التي يحتلّونها، حتى نبقي على تجارتهم وأموالهم، ودعا أيضاً إلى عدم مقاتلة مملكة (الإيلخان) حتى يظل أمراء الجزيرة والشام في ضعف وفي حاجة إلينا. كانوا يكرهونني لأنني لم أكن من رأيهم، فاتهموني بالقسوة والفظاظة والتساهل في الدين...
قلت:
_ عندنا حزب يشبه هذا الحزب!!
قال السلطان :
_ دائماً هناك حزب (واقعي). يجب التعوّد على ذلك !!

ولأن الروائي يجسّد هذا الحزب كائنات بشريّة بسلوك يعبّر عن (مصانعتها)، فإننا نقرأ هذا في شخصيات ساقطة فاجرة، في حين ينهار الوطن، ويتفسّخ المجتمع، وتواصل هي مصانعة الاحتلال، وخدمته، وتنتفع بالدعم الأوربي ( الأنجزة)، ورعاية المنظمات غير الحكوميّة، وتعرض أحشاء المجتمع الفلسطيني لقاء ما يغدق عليها من أموال ومنافع!.

أخلاق المصانعين في زمن السلطة!

مجموعة أفكار، ونتف من وجهات نظر سياسيّة تستخدم أرضيّة، أو مقدمّة تبريريّة للسقوط، وسلوكيّات بلا خجل ما عادت تتستّر على عارها وخيانتها وتخريبها.

هنا أتوقّف عند واحدة من شخوص حزب المصانعة في رواية بلاد البحر، التي ظهرت في مناطق السلطة بعد أوسلو، في زمن الدعم للمنظمات غير الحكوميّة، والأنجزة، والتي أوجدت شريحة فلسطينيّة ساقطة، متهتّكة، منحلّة، فاجرة ، تروّج للحوار مع ( الآخر)، الآخر الذي يحتّل فلسطين وينكّل بشعبها...
هذه الشخصيّة امرأة خانت زوجها مع عشيق متنفّذ، وهو ما اضطّر الزوج الذي أشاعت عنه إنه عنين، إلى الرحيل والمجاورة في مكّة، بعد أن نجحت في إلحاق الأذى بسمعته وشرفه و.. فازت بالطلاق منه بدعم المتنفذين!.

الكاتب، الراوي، أحمد بن مسعود يلتقي بهذه المرأة التي صارت تنادى بـ( المدام)، والتي دخلت لعبة التمويل الأجنبي، وكتبت- أو كتب لها من كتّاب يؤجّرون عقولهم وضمائرهم- عن زنى المحارم في مناطق السلطة!.
يلتقيها الراوي بناءً على طلبها، فتسأله :
_ عن ماذا تكتب هذه الأيّام؟.
يجيبها مغتاظاً غامزاً من سلوكها وما تمثّله:
_ عن التعريس ...
يعني عن (العرصنة) ، فتضحك ضحكة ماجنة مع تعليق فاجر يدّل على أن شرش الحياء طّق من الجبين:
_ لا يكتب عن التعريس يا عزيزي.. بل.. بل يعاش...
ولأن التعريس ( التعريص ) يعاش، فهي تعيشه بالكامل سلوكاً يوميّاً...
لماذا طلبت اللقاء بالكاتب أحمد بن مسعود؟!
لأنها تريده أن يكتب سيناريو لفيلم يدعو للسلام من خلال سيرة جوار قرية فلسطينيّة ومستعمرة يهوديّة!
هذه المدام خانت زوجها، وعندما واجهها الزوج حرّضت عليه أشقاءها الثلاثة الذين تنافخوا شرفاً وانهالوا عليه ضرباً حتى حطّموا أضلاعه!

يغادر الزوج إلى مكّة ويجاور هناك ويبقى على صلة بالمراسلة مع صديقه أحمد بن مسعود، الذي لا يرغب في مضاعفة آلامه في غربته، فلا يكتب له عن الزوجة التي صارت تنادى بالمدام، التي أدخلت الأبناء الثلاثة في مدرسة عالية التكاليف، والتي باتت تمتلك شركة إنتاج تلفزيوني، وتحمل ثلاثة هواتف محولة بذيل حيوان كان يعيش في البراري ذات يوم، والتي تخبر أحمد بن مسعود أنها تكتب سلسلة مقالات عن زنى المحارم في فلسطين وأثره على المجتمع .. طبعاً تلبية للدعم الأجنبي غير الحكومي! ( ص 108 –109).

هذه المدام هي من طينة ( أبومروان) الذي يحوّل الوزارة التي هو مديرها العّام إلى ورشة بزنسة:
يروي أحمد بن مسعود الموظف في قاع السلّم الوظيفي، رغم كفاءته، عن أبي مروان هذا: كانت الناس تموت بالطائرات وعلى الحواجز، ومن الجوع والذل والسجن، أمّا مديري المعطّر فقد كان مشغولاً بأمر آخر، إذ استطاع بدهاء وتدبير محكم أن يحوّل دائرتنا الحكوميّة إلى هيئة غير حكوميّة أو ما يشبهها. كيف تمّ له ذلك ؟
أحلف أغلظ الأيمان أنني لا أعرف. ( ص239)...
الأب والأم: نبض الروح والحياة

بلاد البحر هي رواية الفلسطيني المتشبّث بأرضه، المسكون برائحة البحر، ونكهة التراب، وخضرة الأشجار، الطاهر النفس، البسيط، العميق الإيمان، وشخصيّة الأب، والد الراوي، هي النموذج الحّي، والأم والأب في الرواية هما شخصيّة واحدة، امتزجتا حبّاً وحزناً وألماً، وجوهرتهما المصائب فصارا كائنين شفافين حاضرين وذاهلين.

الأب حسّي تماماً،متصوّف بحّب أرضه في قيساريّة التي ضاعت عام 48، مسكون بذكرى صديقه (طالب) الذي كان يطلق النار على الجّن والذي استشهد وهو يقاتل الإنكليز تحت خرّوبة في الطريق بين جسر الزرقا وقيسّاريّة...

الأب، النيص الكبير، عندما ينام الناس، يخرج في الليل متشمماً رائحة البحر الآتي من (قيساريّة) محمّلاً بدم صديقه (طالب) الذي أحب فتاة من (كفر قرع ) فرفض والدها تزويجها منه، فاختطفها وهرب بها، فلحقه عشرون من أقاربها ببنادقهم فصدّهم ببندقيته الواحدة !.. بندقية المحّب.

هذا الأب المتحوّل نفسياً، لا بدنيّاً، قادر على مغافلة سجّانيه والهرب من سجن ( النقب): حفر تحت الخيمة نفقاً بدأب نيص متمرّس، وبحاسة النيص أيضاً اتجه نحو الخليل، وعندما تجاوز حدود المعتقل، خرج من بين الرمال في ساعات الفجر الأولى: كانت النجوم في اشّد لحظات لمعانها. مرّت به أرواح لطيفة وهالات ونقاط ضوء. تشمم الهواء، ففرّق بين روائح المستوطنات وروائح القرى الفلسطينيّة التي تأتي من جهة الخليل...( ص257)

الأم الدائمة النواح بغناء شجي، وندب يشلع القلب، تتسامح مع زوجها جوّاب الليل لأنها من طينته. هما لا يتبادلان كثيراً من الكلام، فهما داخل نفسيهما، محزونان ، حالمان، مفجوعان ...
الصديقات ينصحن الأم بالكف عن غناء التراويد المفجعة، ومن بعد ينضممن لها في هذا الغناء الملتاع...

أحمد بن مسعود الذي لا يصدّق أن كّل الذي يحدث حوله ، وأمامه، هو حقيقي ، يحاول استقراء هذا الواقع فيؤلّف كتاباً، يقول فيه: ما بين أخلاقيات الثائر وأخلاقيات الموظّف بون شاسع قطعناه بسرعة البرق، وما كان يجمع الناس ذات يوم صار يفرّقهم الآن...

يفضح الراوي جوانب الفساد والانحطاط في (دولة داخل دولة ) - الدولة هي الكيان الصهيوني، والدولة في داخلها هي سلطة الحكم الذاتي- اسمها الحكم الذاتي، لا يعرف عنها ابن خلدون شيئاً لأنها لم تمّر عليه، فهي دولة هجينة بلا أرض ولا سيادة، ولا قوانين، وهذا ما فضحه في كتابه الذي سمّاه: ( أسرار الدولة)!...
صدّق الثائر أنه صارت له دولة!

هذه العبارة ترد في معرض التهكّم على الدولة الموهومة، ومن (الثائر) الذي انخرط في فساد بزّ فساد الدول الشقيقة، في بلاد شقيّة لا دولة لها ولا سيادة، وبينها وبين الحريّة عناء طويل...

الكتابة نقد، وكتابة بدون نقد شجاع، عميق، لا قيمة لها. وفي الحالة الفلسطينيّة الكتابة مواجهة مع الاحتلال، وفضح للفساد، وتعريّة للعهر السياسي الذي يقود إلى خراب فكري، وأخلاقي، واجتماعي، ولا يغيب عن البال أنها فّن يملك أن يجذب المتلقّي، ويمتعه، ويضيف لوعيه ومعرفته...

في ختام الرواية نقرأ: صاح بي العسكري الأثيوبي على حاجز (حوّارة) القريب من نابلس، في العام2004 :
_أنت.. هات هويّة!
كان هذا الجندي هو ابن سائق الجرّافة الذي هدم أجزاءً كبيرةً من مخيّم جنين.
سلّمت بطاقتي الشخصيّة، فلما قرأها أعادها لي بعصبيّة وقال:
_ أنت ممنوع من المرور.
قلت له:
_ ولماذا يا أدون؟!
أعجبته كلمة (أدون)، فقال :
_أنت من (جنين)، وأهل (جنين) ممنوعون من تجاوز الحاجز.
قلت له:
_ من أي البلاد أنت يا أدون؟!
قال دون أن ينتبه:
_أنا من أوغادين في أثيوبيا.
قلت له:
-وأنا من ( جنين) في فلسطين.. وأنت أدون وأنا لست أدون يا أدون.

تلفّت حولي في ذع .. أين طائر الرّخ الذي كان هنا قبل قليل؟! (ص273و274)
طائر الرّخ، وأبو الفداء، لم يكونا هنا قبل، فالروائي استحضرهما ليستعين بهما على رواية ليروي بعضاً من رواية فلسطين اللامعقولة، حيث المجلوب إليها من أوغادين سيّد - أدون بالعبريّة- وصاحب البلاد يقف على الحواجز، يتلقّى الأوامر، يهدم بيته، يسرق حقله، يغرب في وطنه، يفرّق بين وبين ذويه و.. يراد منه أن يعامله كـ(آخر) يمكن التحاور والتعامل معه بوّد، بل ومصانعته!...

أحمد رفيق عوض الروائي، منذ روايته الأولى ( العذراء والقريّة)1992 تصدّى للأمراض الاجتماعيّة، قبل دخول السلطة، ودفع ثمن جرأته، فاضطّر للرحيل من ( يعبد) إلى رام الله .
بعد أن تكشّف له فساد السلطة كتب روايته (مقامات العشّاق والتجّار)عام1997، وكان أوّل روائي وكاتب فلسطيني في مناطق السلطة يضع إصبعه مبكّراً على بؤس مشروع السلطة...

يواصل أحمد رفيق عوض في روايته ( بلاد البحر) خطّه النقدي، الشجاع، فيكتب الواقع القبيح بفّن عال المستوى، مستلهماً أساليب فنيّة عربيّة تسعفه في ( توصيل) خطابه الروائي...
في روايته الأحدث والصادرة في نهاية العام 2006 يواصل أحمد رفيق عوض ارتقاء سلّم الإبداع الروائي بخطوات واثقة، ويضيف جديداً للرواية العربيّة...


*صدرت رواية ( بلاد البحر ) في رام الله عن منشورات الاتحاد العام للكتّاب والأدباء الفلسطينيين

التعليقات