الحركة العربية السريّة: جماعة الكتاب الأحمر «1935-1945»

الحركة العربية السريّة: جماعة الكتاب الأحمر «1935-1945»
في عام 1935 تأسست حركة قومية عربية سرية في بيروت، وانتشرت فروعها في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والكويت وألمانيا وأميركا الشمالية، وكان لها وجود محدود في بعض بلدان أخرى، عربية وأجنبية. ولم يعط مؤسسو هذه الحركة اسماً محدداً لها، وذلك لأسباب واعتبارات أمنية، لكنها اشتهرت بعد أن انكشف أمرها في السنوات الأخيرة، باسم الحركة العربية السرية - جماعة الكتاب الأحمر، وذلك إشارة إلى دستور الحركة ذي الغلاف الأحمر، والذي حمل عنواناً، هو «كتاب القومية العربية - حقائق وإيضاحات ومناهج». ويوثّق الكتاب الذي بين يدينا حياة هذه الحركة، حيث يسرد تواريخ نشأتها ونقاط اعتمادها وانتشارها وتفككها، شارحاً أهداف الحركة وخصائصها وميثاقها، كما يتناول الظروف المؤاتية لقيامها في مختلف البلدان العربية وأوروبا، وكذلك المؤثرات التي خضعت لها الحركة، وظروف قوتها واضمحلالها، ثم أفولها وانتهائها.


أما مؤلف الكتاب شفيق جحا، فهو أحد أعضاء الحركة الباقين على قيد الحياة، وكان من أوائل الذين انظموا إليها حين تأسيسها. وهو كاتب ومؤرخ لبناني، تخرج في قسم التاريخ من الجامعة الأميركية في بيروت، ثم قام بالتدريس من سنة 1932 إلى سنة 1980 في الانترناشونال كوليدج التابع للجامعة الأميركية، وتولى رئاسة قسم العلوم الاجتماعية فيها، كما درّس في الجامعة نفسها. وله العديد من الأنشطة التربوية المتنوعة.


حيث اشترك في تأليف حوالي أربعين كتاباً مدرسياً، ويعتبر أول من أدخل تدريس مادة «التربية الوطنية والأخلاق» في المدرسة اللبنانية، ومن أحدث مؤلفاته: «الدستور اللبناني: تاريخه تعديلاته ونصه الحالي»، و«دارون وأزمة السنة 1882» و«معركة مصير لبنان في عهد الانتداب الفرنسي».


وكان يأمل المؤلف أن يكتب مقدمة هذا الكتاب الدكتور قسطنطين زريق، «فمن أولى منه بذلك وهو أحد المؤسسين الرئيسيين للحركة العربية السرية موضوع هذا الكتاب، وأول رئيس لها لبضع سنوات. وقد أثنى على عزمي على تدوين تاريخ الحركة، وأعجبه التصميم العام الذي وضعته لهذه الدراسة، ووعد بكتابة المقدمة بعد انتهائي من تحرير النص النهائي الكامل. ولكن القدر كان الأسبق فرحل قسطنطين زريق قبل إنجاز هذا العمل.


وترتب عليّ أن أكتب هذه المقدمة بنفسي، وإن كان لي ما أقوله فيها بهذا الصدد فهو أني أحررها وانشر هذا التاريخ تكريماً لذكرى قسطنطين زريق الطيبة وإظهاراً لدوره القيادي الفاعل في تاريخ الحركة العربية السرية».


مارست هذه الحركة نشاطها في مجال الفكر والسياسة والعمل الاجتماعي، حيث عملت في مجال الفكر بشرح معنى القومية العربية بعمق وشمول، وانشغلت بنشرها، وسعت إلى تحقيق أهدافها مستخدمة لهذه الغاية مختلف الوسائل الإعلامية والأساليب التوجيهية والتربوية. في حين قامت في مجال السياسة بنشاط واسع فعال، إذ ما من حدث مهم وقع في العالم العربي بوجه عام، وفي بلدان الهلال الخصيب بوجه خاص، ما بين 1935ئو1945، إلا وكان للحركة فيه دور ونصيب، فضلاً عن أنها لم تقصر في القيام بدورها في المجال الاجتماعي والنضالي.


وبالرغم من نشاطها وفعاليتها، فإن الصحف والمجلات العربية وكتب التاريخ الصادرة، وعلى مدى أربعين سنة، خلت جميعاً من أي ذكر للحركة، بل أنها لم تشر إليها بأي شكل من الأشكال. والسبب هو اعتماد الحركة على السرية التامة، إذ كيف يمكن للصحفيين والمؤرخين أن يذكروها وهم يجهلون وجودها، ولم يسمعوا بها، أو يلحظوا أي أثر ملموس لها في ما كان يجري في الساحة العربية من أحداث مهمة. وبلغت سرية الحركة في تنظيمها الداخلي بحيث لا يعرف معظم الأعضاء بعضهم بعضاً، .


وفي علاقاتها الخارجية بحيث لا يتسرب شيء من أخبارها وأسرارها خارج نطاقها الحزبي المحدود. وللمحافظة على هذه السرية لم تكن الحركة تقوم بأعمالها وتنفيذ مشاريعها وخططها بصورة مباشرة، أو بأية وسيلة يمكن أن تكشف أمرها وتدل عليها. فإن قام أعضاؤها بعمل «ما» فإنهم كانوا يقومون به في الظاهر بصفتهم الشخصية، ومن دون الإشارة إلى علاقاتهم الحزبية.


وكانت مشاريع الحركة ومخططاتها الخاصة تنفذ بواسطة أحزاب وهيئات وأشخاص غير منتمين رسمياً إليها، بل ويجهلون وجودها، ولكنهم قريبون منها فكرياً وعقدياً وسياسياً. وكانت الحركة تعتبر هؤلاء الأعوان «نقاط اعتماد» لها. فكانت الإنجازات التي تحققها تنسب إلى «نقاط الاعتماد» هذه التي كانت هي الوسيلة والأداة، وليس إلى الحركة ذاتها التي هي المنبع والأصل.


وقد مرّ على الحركة أكثر من نصف قرن، وكاد أن يلفها النسيان لولا مناسبات جرت خلال الثلاثين سنة الأخيرة وورد فيها ذكرها عرضاً، وبشكل مجتزأ، في سياق مذكرات، وسير ذاتية، ومقابلات صحفية، وندوات أدبية، وأبحاث تاريخية، بأقلام وعلى ألسنة حركيين قدامى فيها وباحثين. ويعتقد المؤلف أن «ذلك كله لا يغني، لأنه لا يعطي الصورة الحقيقية الكاملة للحركة». بل يرى أن الحركة تشكل صفحة في تاريخ الفكر القومي العربي والنضال السياسي الوطني التحرري، ولا يجوز طيها ونسيانها.


حيث تفرض الأمانة للحقيقة والتاريخ على المؤرخين السعي لإنقاذ هذه الصفحة المميزة من التلف والضياع، وذلك بوضع دراسة تاريخية شاملة عن الحركة، تتناول بالشرح والتوضيح أهدافها وتنظيمها وأساليب عملها ومنجزاتها في مختلف المجالات الفكرية والسياسية والاجتماعية، وفي سائر الأقطار والبلدان التي تأسست فيها.


وقد تطوع المؤلف لمهمة تدوين تاريخ الحركة بشكل شامل ومفصل وفاء لها، واعترافاً بدورها في تاريخ القومية العربية والمنطقة. ونظراً لأن معظم سجلات الحركة وأوراقها في مطلع الحرب العالمية الثانية ولأسباب أمنية، كانت قد أتلفت، فإن المؤلف اعتمد على مصادر مختلفة، منها ميثاق الحركة أو دستورها المعروف باسم «الكتاب الأحمر» والمنشور بعنوان «كتاب القومية العربية - حقائق وإيضاحات ومناهج»، حيث وضع المؤلف صورة غلاف هذا الميثاق على غلاف كتابه.


ومنها كذلك أوراق كاظم الصلح، وهو من المؤسسين، وكذلك المذكرات والسير الذاتية والأحاديث الصحفية التي أخذت تنشر تباعاً منذ أواخر السبعينيات من القرن العشرين المنصرم، وهي بأقلام حركيين قدامى، مثل قسطنطين زريق وواصف كمال ومنير الريس وزهير عسيران ومحمد علي حمادة ومالك المصري ونديم دمشقية وسواهم. كما اعتمد المؤلف على خبرته الشخصية في الحركة ومعلوماته الخاصة عنها، إلى جانب مقابلات كثيرة أجراها مع العديد من الحركيين القدامى من مختلف الأقطار.


إذاً، يحدد المؤلف مهمة كتابه في كشف الحقائق عن حركة قومية عربية علمانية سرية، عملت قرابة العشرة سنوات، بدءاً من منتصف الثلاثينات في عدد من الأقطار العربية، وكان لها أثر مهم في أكثر من مجال فيها. أما أسباب تفككها فعديدة، منها ظروف الانتداب البريطاني والحرب العالمية الثانية، واضطرار قيادة الحركة إلى اتخاذ قرار انتقال قيادتها إلى العراق.


واشتراك مسئوليها في أحداثه الدامية، مثل ثورة رشيد عالي الكيلاني على البريطانيين وإعدام عدد من هؤلاء المسئولين. كما اشترك الحركيون في هذه الحركة بهذه الصفة اشتراكاً مهما في أعمال عديدة، منها ثورة فلسطين الكبرى سنة 1936-1939 والحرب العراقية ـ البريطانية سنة 1941.


ربما تكون الحركة أول محاولة تنظيمية قومية عربية، عملت في بلدان عربية وفي بعض بلدان المهجر، وانضوى في عضويتها عدد كبير من الأسماء الشهيرة أو التي أصبحت شهيرة، فيما بعد، في مجالات فكرية وتربوية وثقافية وسياسية.


لكن المؤلف ينظر إلى «الحركة العربية السرية» كظاهرة جديرة بالدرس، مدافعاً عن مسيرتها ونضالها، إذ يرى أنه «ليس صحيحاً أنها لم تفعل شيئا يستحق الدرس والتسجيل. لقد كانت حركة سرية لم تعلن عن نشاطاتها وإنجازاتها، إلا أن لها دورها في مجال الدعوة العربية. فميثاقها المنشور في «الكتاب الأحمر» هو أوفى وأدق تعبير عن فلسفة القومية العربية وأهدافها ومبادئها ووسائلها، وكل ما يتصل بها من شئون نظرية وعملية كان قد ظهر حتى ذلك التاريخ، وانه لا يزال كذلك حتى الوقت الراهن. وقد تأثر بمضمون هذا الميثاق.


وتبنى ما جاء فيه كلياً أو جزئياً أكثر من حاكم ونظام ومناضل عربي. وقد وسعت «الحركة» الدعوة العربية في بضعة أقطار عربية. ونشرتها في أوساط الشباب المثقف وطلاب الجامعات بصورة خاصة، وأرستها على أسس علمية عقلانية بعيدة عن الغوغائية والطائفية والانفعالات العاطفية وأعطتها زخماً قوياً وحيوية ناشطة.


وتجدر الإشارة إلى أن عدداً غير قليل من قادة النضال القومي في عدة أقطار عربية، منذ أن توقفت الحركة ذاتها في منتصف أربعينيات القرن العشرين، هم من أعضائها أو ممن تأثروا بها بطريقة أو بأخرى. لذلك يحدد المؤلف ورثة الحركة السرية العربية في «النادي الثقافي العربي» في بيروت، وكذلك «حزب النداء القومي»، وحتى «حركة القوميين العرب» كانت كلها من ورثة الحركة العربية السرية.


وكان قسطنطين زريق أول رئيس للحركة، وموجهها وملهمها، لكنه فوّض إلى كاظم الصلح رئاستها بعد ذلك، حين انتقل مقرها من بيروت إلى بغداد. وفي بغداد جرى انتخاب يونس السبعاوي رئيساً لها، في أواخر نوفمبر 1940، وفي هذه المرحلة أصبحت الحركة تنظيما ديكتاتورياً كاملاً، بالشكل والفعل معاً، حيث أصبح الرئيس السبعاوي هو الحركة، وأصبحت الحركة هي السبعاوي. وبانتقال قيادة الحركة إلى العراق، تكون صفحة من تاريخ الحركة في سوريا ولبنان قد طويت.


وبدأت صفحة أخرى في مقر الحركة الجديد في بغداد. وجعل الرئيس الجديد المنشغل بالأزمة العراقية البريطانية 1940 ـ 1941 سوريا ولبنان وحدة إدارية مستقلة، عيّن عليها كاظم الصلح مسئولاً عاماً بصلاحيات مطلقة. وتلقت الحركة أول ضربة قاصمة لها في فلسطين أوائل 1937 إثر إنهاء الثورة باضطرار الحركيين الذين اشتركوا فيها إلى الهرب، ثم تلقت الحركة في العراق «الضربة القاتلة الثانية»، بعد أن لعب الحركيون «دوراً رئيسياً» في دعم حكومة رشيد عالي الكيلاني، وكان لها وزراء في حكومته.


أما بين عامي 1942 و1945 فإن أحكاماً بالإعدام شنقاً نفذت بحق عدد من القادة والوزراء السابقين، وهم الرئيس يونس السبعاوي وفهمي سعيد ومحمود سلمان وكامل شبيب وصلاح الدين الصباغ.


لكن «الأركان» الذين اجتمعوا في بغداد ومنحوا السبعاوي الصلاحيات المطلقة، كانوا يشكلون «جماعة قليلة حاقدة على دول المعسكر الغربي، حيث لا يخفون إعجابهم بالأنظمة الكلية والأحزاب الديكتاتورية»، وعليه خاضت الحركة العربية السرية تجربة قومية قاسية في العراق، ودفع قادتها وفاعليتها ثمناً باهظاً بالأرواح والاضطهاد والتشرد.


وإن كان تأثير الحرب العالمية الثانية قوياً على الحركة العربية السرية، فإن المتغيرات التي أفضت إليها أدت إلى نهاية هذه الحركة في عام 1945، حيث تنحى قسطنطين زريق عن رئاستها، بعد أن قرر مجلس قيادتها الأعلى نقل القيادة إلى بغداد. وكانت ذريعة زريق بأن عمله كأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، كان يحول دون سفره إلى بغداد. فيما ينقل المؤلف عن زريق رفيقه وصديقه القول بأن السبب الحقيقي لتنحيه يعود «إلى حصول تطور مهم في فكره السياسي بلغ حد النضج في أواخر الثلاثينيات»، وذلك مع ترسخ إيمانه بالديمقراطية التي لم تكن تتوافق مع نظام الحركة الديكتاتوري.


إذاً، حاول المؤلف تقديم تاريخ دقيق وعلمي لهذه الحركة التي عاشت في ظروف اشتداد المدّ القومي والوطني في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين المنصرم، وقد اعتمد على وثائق عديدة ومهمة، ضمنها في ملاحق الكتاب. ويرى في الختام أن الحركة العربية السرية انتهت وزالت كتنظيم سياسي، ولكنها لم تمت كفكر مسئول، ذلك أنها تركت رسالة مازالت متقدة إلى يومنا هذا.

الكتاب: الحركة السرية العربية


جماعة الكتاب الأحمر «1935- 1945»


الناشر: دار الفرات ـ بيروت 2004


الصفحات: 477 صفحة من القطع الكبير

(عمر كوش، عن "البيان")

التعليقات