سليمة مراد... بغداد في أغنية/ عناية جابر

-

سليمة مراد... بغداد في أغنية/ عناية جابر
إذا كان الاحتلال العسكري الأميركي للعراق، يجهد الى اجتثاث العراقيين، مادة وحضورا وذاكرة وتاريخا، فإن في بعض التراث الفني العراقي، الموسيقى والأغنية تحديدا، ما يبقى يترجم جماليات الفنانين العراقيين، ثقافتهم وتاريخهم، الى حقائق تعبيرية تعصى على الابادة لما لها من خبرة في فهم هويتها المحلية، واطلاعها العميق على تاريخها وعدم تشكيكها في امكانية موسيقاها ورسوخ اشعارها ونصوصها. سليمة مراد المطربة العراقية الراحلة، سليمة مراد، أكثر من سواها، لما في أغنياتها من أدوار وظيفية، أي غير منفصمة عن مناسبات الحياة البغدادية المختلفة من أفراح وأحزان وحالات عشق، في الطابع الغنائي الشجي لصوت سليمة مراد التي أرّخت بأغنياتها لحقبة من حياة بغداد، خصوصا في اغنياتها ذات الوزن الايقاعي العراقي (الجورجينه) مثل <<هذا مو انصاف منك>> او <<الهجر مو عادة غريبة>> او <<قلبك صخر جلمود>> وغيرها، التي تشكل وثيقة لحقبة زمنية قريبة توشك الحرب الأميركية على اقتلاعها من الذاكرة، هي حقبة حياة الطرب العراقي، وحياة الليل وجماليات التعبير الأدائي قبل وبعد انتصاف القرن العشرين. هذا النوع من الاغنيات الذي عبَّر يوما عن هموم معاصرة وواقع وبيئة، باجتماع التعبير الغنائي والشعري واللحني في آن، يوضح لنا كمستمعين، التصوير التفصيلي عن التسلسل التاريخي للحياة البغدادية بشكل خاص، وعن التطور الأدائي للاغنية العراقية المتنوعة في حياتها المدينية (كباريهات ونواد ليلية وحانات وسواها) ودلالات هذه الانواع وتلك الأماكن.

في <<هذا مو انصاف منك>> نرى ان تماسك البناء اللحني المستقى روحيا من الخزين التراثي المقامي، وكذلك تماسك مفردات كلمات هذه الاغنية وبنائها الأدبي والشعري بلهجة بغدادية واضحة المعنى دون أي غموض، <<هذا مو انصاف منك/ غيبتك هلقد تطول/ الناس لو تنشدني عنك/ شرضى جاوبهم شقول/>>، من ثم ملاحظة اقتراب اللحن من التصوير المتقن لكلمات هذه الاغنية ومعانيها. هذه الصور من التعابير المختلفة، نراها ونحسها موجودة في أغلب الأغاني الباقية لسليمة مراد. فقرات الغناء تبدو هنا في نسيج نهائي منسجم، ذي ميزة عراقية صافية يتبدى في ايقاع الجورجينه، بجموع عناصره المكونة للأغنية وتفاعل هذه العناصر المتوفر في رص المعاني ذات المناخ الواحد، كسبيكة ذهبية براقة. نجاح مقاطع هذه الاغنية، من كونها تعتمد على الفطرة العراقية في الصوت مصحوبة بتقسيم الآلات اللحنية القليلة. المتميز أيضا، ان ايقاعاتها تلعب دورها الحقيقي بعيدا عن أي زخرفة اضافية من شأنها الاختلاط مع الغناء والطغيان عليه.

بشكل عام، ركزت سليمة مراد جل اهتمامها في الغناء، على الخزين الفولكلوري لتنطلق منه الى التعبير عن روح عصرها ومحاكاة اذواق الناس المعاصرين لها، كما ان اغنيتها <<والهجر مو عادة غريبة>> تحديدا، تتمتع بصفة السحرية، لأنها نتاج الخيال البيئي رغم اختلاط التعابير الواعية بتلك غير الواعية، لأن الخيال نفسه يقوم بسحره ذي التأثير الخارق والنتائج المدهشة لعواطف الانسان، بسبب من المنطلقات الخصوصية لتراثه التي تمثل لغة وأسلوبا معبرين عن حقيقة شعورية كامنة، ولكن موجودة وممتلكة.

من حيث الأداء في <<هذا مو انصاف منك>> بدت سليمة مراد كثيرة الاسهاب في غنائها الشجي لا تختزل من شدو صوتها، وكثيرة التكرار للجملة اللحنية، كما تفرد مساحة للآلات العازفة لمحاورتها موسيقيا او لمحاورة صوتها، وتعطيها وقتا كاملا انما ليس على حساب ترابط العلاقة الغنائية والموسيقية مع بعضها، فلقد كانت تُدرك بحسها الغنائي السليم خطورة ترك الموسيقى <<فالتة>> على صياغة عمل غنائي موسيقي كوحدة متكاملة، وخطورة هذا المنحى في الغناء أي عدم ضبط الموسيقى يكمن في احتمال الوقوع في شرك تجزئة الجمل اللحنية في وحدات متفرقة ضمن عملية بناء الاغنية.

مقاربة أغنية من أغنيات سليمة مراد في الماضي الفني المرهف للعراق، ورغبتنا الى مقاربة أغنيات أخرى لسواها من المطربين العراقيين والمطربات، لا تأتيان هنا اعتباطا او لمجرد المقاربة، بل تحفزهما <<المهازل>> الجارية حاليا على الأقنية الفضائية بشكل عام، وقناة <<الخليجية>> بشكل خاص، التي بدأت بثها بعد الاحتلال الأميركي، عارضة نماذج ممن يدعون الغناء، وهم يسطون على اغنيات لأعلام الغناء العربي، من بينهم الراحلة سليمة مراد.

لا يقتصر الأمر في <<الخليجية>> على استعادة الخزين الفني العراقي على لسان هذه وتلك، فهذا أمر أصبح متداولا وشائعا، أي ان يأتي كل من هبَّ ودب الى غناء الكنوز التي تحفل بها خزانتنا العربية. لكن ان تكون هذه الاغنيات ذريعة لعرض قطيع من النساء العاريات، متمايلات على ألحانها وكلماتها، فهذا ما يجب التوقف عنده، والسؤال عن ماهية الهيئة الرقابية التي ترعى مثل هذه الامور، ما دامت مجتهدة الى مصادرة الكتب ومنعها. هذا، مع الإشارة الى الجرائم التي تُرتكب بحق هذه الأغنيات وألحانها ومطربيها وكاتبيها حين يُصار الى تحريف كلماتها، وتسريع ألحانها، وبالتالي تغييرها بالكامل، لتأتي صاخبة، وراقصة ومتآلفة مع روح العصر!!

سليمة مراد وسواها من مطربات العراق الراحلات، فعلن خيرا بالرحيل باكرا، قبل ان يقعن على ما جرى ويجري بأغنياتهن، وهي خلاصة عمرهن كله.

التعليقات