08/07/2006 - 21:18

الخائن..(قصة) / سعيد نفاع

-

الخائن..(قصة) / سعيد نفاع
"استغفر الله العلي العظيم"! رددها محمد بين سره وخالقه أكثر من مرة، وهو ينقر بأناة أرض الحديقة العامة في "جان ساكر" في القدس الغربية بفأسه الصغير، ليعود بعد ذلك لإرواء شبقها النهم بعد أن تعودت الإرواء مميتة الحنين له عند أترابها وحتى أصحاب أترابها في القدس الشرقية.

ينكشها نقرا منفذا تعليمات " المعلم" خوفا على ثمرات بطنها التي مازال يؤلمها تأودها الشمسي والأرضي على السواء، وخوفا على أجساد تلك التي رأت النور مالئة كل ثنية من ثناياها، على بريق أعينها وينوع وجناتها واكتناز صدورها، فهكذا يحبها طالبو يدها من الغرب ليهنأوا بأحضانها، وعليه هو أن يجهزها أحسن جهاز.

لم يكن هذا ما دعاه أن يطلب المغفرة من الله، فليس هتك عرض أرض الحديقة عملا يستدعي غضب الله لترجى مغفرته حتى وإن تسبب فأسه بإجهاض بعض من بناتها أو لم يوف الأخريات إرواء.

تناول الكيس الذي ناولته إياه "أسماء"، وكعادته دون أن يسأل ما الذي دسته له فيه كفاف يومه، فلم يكن ذلك بشاغله ولم يشغله يوما، فمنذ سنين طويلة فقد الطعم، وتحديدا منذ أن بدأ يأكل مما توزعه سيارات "الأونروا"، الخالي من طعم عرق والده الذي كان تعوده مجبولا حتى في حليب أمه.

شاغله كان ذهابه لتحقيق حلمه بحق العودة، ورغم أن ذلك جاء بطريقة لم يحلم بها بعد أن شارف حلمه الذي لم يبخل عليه بشيء طوال سنيه الستين على التبخر. فقد جاء بقبوله عامل حدائق في "البلدية الموحدة" وكان قد أعلم مساء على يد المعلم ابن جلدته: أنها فرجت وليوافيه غدا عند "باب العامود"، فالـ"سدور" غدا في "جان ساكر" في الغربية. وال-"سدور" هذه، توزيع العمال على أماكن العمل، التي دخلت العربية دون استئذان مثلها مثل ال-"محسوم"، لم تكن تهمه أو يهمه معناها، ما همه أنه وجد أخيرا عملا، وأكثر من ذلك أن اليوم الأول سيكون في الغربية. لم ينم الليل وها هو في طريقه إلى باب العامود حاثا الخطى وجلا تماما مثلما كان حاله حين كان يقوم بالمهمات قبل أن يسجن.

اندس بين الوجوه الناعسة التي تنتظر مثله تحقيق حلم حق العودة الصغير أو مارسته قبلا، وظل صامتا لا يريد أن يفتح حديثا مع أحد حتى لا يفسد عليه أي كلام رهبة تحقيق الحلم - طبيعة الناس أن تكتفي بالأحلام الصغيرة إن عجزت عن الكبيرة أو ضيعوا لها أحلامها الكبيرة- عبر المكان الذي كانت تقوم عليه يوما بوابة "مندلباوم" وصدره يكاد ينفجر من فرط دقات قلبه.

كان قد قام لتوه من حضن إحدى بنات الحديقة التي غوته بظلها ثم بحبها الجارف القاتل، حزينا مكسور الخاطر. ليس لأنه خان أسماء لأول مرة في حياته إنما لعدم استطاعته ممارسة لذة الحلم الذي حلم به طوال الليل يقظا حتى النهاية، فلم يشعر البتة بأي تأنيب ضمير على خيانة أسماء التي لا تستحق منه إلا كل الخير هي التي ذبلت عطشى بانتظاره السنين الطويلة رغم كثرة المطر.

كان قد افترش حضنها الذي لم تدعه إليه دون تردد، وما كاد يفترشه ورغم عدم دعوتها لم تبخل عليه بعذوبته، بل أكثر من ذلك راحت تنشف عرقه بأنفاسها العليلة إلى أن بلغ الذروة، فأغمض جفنيه على هدهدة صوتها الهامس خوف أن تّسمع وهي تحكي له حكايتها ،وراح في سبات اليقظ يسمع بقية الحكاية دون أن يسأل لأنها في سردها أجابت على كل سؤال كان يداعب نومه الهاديء في حضنها.

" كنت قد بلغت العاشرة قبل نصف قرن ونيف، ومثلنا ببلوغ هذا السن تدفق أحشاؤه خيرا لأهله ولا يخيب الظن، فكانت أحشاؤنا مليئة بالأجنة ننتظر وتنتظر الولادة، خصوصا وأن بحر "عكا" وأحبابنا من أهل" البروة" هيأوا لنا تلك السنة كل أسباب الحمل إلا أننا أنجبنا وبدون قابلات، فالقابلات غبن يومها ودون أن نراهن، غيبهن دوي كان يصمّ الآذان وألسنة لهب كانت عالية لفنا دخانها، وعندما ذهب نسيم بحر عكا بالدخان شرقا غابت معه كذلك بيوت القابلات والأحباب فأكلنا تلك السنة ثمرات بطوننا ... ولم ينم في حضني منذها حبيب رغم شدة اشتياقه لدفء مثل الذي كان يمنحني إياه محمد... غير شيخ كان يجيء لسنوات لا يفترشني إنما يجلس متكئاً على قبضتي يديه القابضتين على أعلى العكاز باكيا منتحبا ثم يسير متجها نحو الشمال .آخر مرة مد يده ماسحا خدي ثم شق قطعة من منديلي أخذها ولم يعد".

صار همسها، الذي ابتدأ ناعما منوما، أزيز رصاص يخترق حناياه وأحد من ذلك الأزيز عند اختراق تلك التي مزقت أحشاءه قبل سنوات. وتحول الحضن الذي يفترشه أشواكا حادة تُشك في كل أنحاء جسده. لكنه كما الحالم الذي إذا تحول حلمه كابوسا فيحاول الفكاك ولا يستطع إلى ذلك سبيلا مهما حاول، لم يعد يفهم حديثها الهامس إلا لماما . ما استطاع أن يلملمه: أنها اقتلعت وكل أخواتها وجيء بها وببعضهن إلى هنا مهجرات لتصير أحضانهن فرشا للغرباء ممن هب ودب، ليس قبل أن يموت بعضهن فتحسدهن الأخريات على موت المصونات. وأنها لم تشعر يوما بلذة الافتراش إلا هذا اليوم لأنها شمّت فيه ما أن افترش حضنها رائحة أحبابها ومن فرط اللذة حكت حكايتها بعد صمت لخمسين ونيف.

عند هذا الحد انتفض مرة واحدة هاربا من حضنها خجلا، ليس لأنه أحس ألما لخيانة أسماء بل هربا من حضن الخيانة هذا، عائدا إلى فأسه يضرب الأرض حيث اتفق، دافعا حلمه الصغير لاحقا ثمنا لذلك، ليس قبل أن يتهم حتى الله فيما هو وهي عليه مستدركا مستغفرا.

التعليقات