24/09/2010 - 18:09

احتمالات قليلة.. مسافات أقصر/ نسب أديب حسين

تنفس الصعداء بعد أن تمكن أخيرًا من اتخاذ مقعدٍ، راح ينظر عبر النافذة، يتابع المارين. مرت بضع لحظات حتى أتخذت عجوز المقعد بجانبه. استمر يحدق نحو واجهة محل تجاري قبالته يحاول أن يميز ملامح وجهه ويتساءل: تُرى كيف يبدو؟ هل تظهر عليه علامات السهر؟

احتمالات قليلة.. مسافات أقصر/  نسب أديب حسين

تنفس الصعداء بعد أن تمكن أخيرًا من اتخاذ مقعدٍ، راح ينظر عبر النافذة، يتابع المارين. مرت بضع لحظات حتى أتخذت عجوز المقعد بجانبه. استمر يحدق نحو واجهة محل تجاري قبالته يحاول أن يميز ملامح وجهه ويتساءل: تُرى كيف يبدو؟ هل تظهر عليه علامات السهر؟

تحركت الحافلة حانت منه نظرة باتجاه الركاب، رآها تقف قريبًا تتمسك بواقٍ حديدي مثبت الى المقاعد، راحت تمعن النظر في عينيه، وشعر بنوع من الغضب أو الحقد في عينيها، أشاح وجهه عنها، وعاد ينظر الى الطريق. الناس يمرون بسرعة كل في وجهته، عجائزٌ يجلسون على مقعد يراقبون ، متسولة تجلس قرب مركز تجاري.. هذا هو حال مركز المدينة ازدحام واناس من جميع الاصناف.

تتوقف الحافلة عند محطةٍ أخرى، تجمهر الركاب خلف الطرف الثاني من زجاج النافذة، فمنعوه من رؤية نفسه على زجاج المحل التجاري. أشاح بنظره الى داخل الحافلة، فوقع نظره عليها، لا تزال ترمقه بذات النظرة، شعر بالضيق والاختناق فتنهد تلقائيًا، أشاح نظره عنها لينظر الى ساعته إنها الحادية عشرة، ترى هل سيتمكن من الوصول الى موعده بعد نصف ساعة؟

بات يشعر بالضيق من نظراتها، لكن حتى نخوته لن تساعده اليوم لكي ينهض ويترك امرأة عجوزا تجلس مكانه.

عندما صعدت الى الحافلة، وتقدمت وقع نظرها عليه فاقتربت، فشكله في البداية بعث الراحة في نفسها، يبدو من ملابسه الفاخرة وملامحه الهادئة أنه يمتلك الكثير من اللباقة كي ينهض ويدعو عجوزًا مثلها للجلوس. إلا أنها بعد أن وقفت قريبًا، وراحت تنظر الى يديه المتكاتفتين، ونظره عبر النافذة اعتبرته تجاهلا منه لوجودها . اشاحت نظرها عنه وراحت تنظر عبر النافذة ، تتساءل لماذا هم شبان اليوم بهذه الوقاحة بحيث لا يحترمون ولا ينهضون لاجلاس امرأة عجوز؟ صحيح أنها لا تمتلك الكثير من المشاكل الصحية، وهي تحمد ربها على ذلك، لكنها تتعب بسرعة ومن المفروض أن شابًا مثله يقدر هذا وينهض لأجلها.

تحدق في عازف الساكسفون الجالس هناك قرب المركز التجاري، تتساءل كم من الاعوام قضاها هذا الرجل وهو جالس هنا في هذه الزاوية؟ وراحت تحاول التذكر وعندما عجزت وعادت لتنظر اليه كان قد اختفى عن نظرها.

ينظر الى أعلى نحو زرقة السماء، ويفكر بسوادها في الليل، كم صار يخشى ظلام الليل، بات يقضي معظم هذه الفترة من اليوم بصحبة القمر، يقرأ وينظر اليه بين الحين والآخر الى أن ينهكه النعاس، يراقبه كيف يغير زاوية ظهوره كل مساء؟ غدا القمر فجأة صديقه الوحيد، وكلما تأخر ظهوره ازداد ضيقه. كانت ليلة أمس عصيبة لم يستطع أن يطلع أحدًا عما يلم به، غاب القمر وظهر شيء اخر عند النافذة يطرقها، ويبتسم له يطلب منه أن يتقرب اليه أكثر، وأجهد نفسه طيلة الليل وهو يحاول أن يطرد ذاك عن نافذته وعن مخيلته وعن ليله وكم خشي الفشل.

هي لا تزال واقفة في مكانها بينهما مسافة قصيرة، ويتقاسمان النظر عبر نافذة واحدة، هي تحدق في وحدتها التي لم تعد تدري كيف تتجاوزها، لا تنجح في الفرار منها لا في بيتها الصغير، ولا في الحافلة ولا في الطريق. كانت ترى ذاك الشيء قريبًا بعيدًا منها وأكثر ما تخشى أن يتسلل اليها وهي وحيدة في بيتها، لكنها الان تنتبه أنها وحيدة في جميع الأمكنة، حتى بين المقربين منها، فلماذا تقلق من موعد تسلله اليها.

توقفت الحافلة، كانت هناك فتاة على المحطة على الطرف الاخر من الزجاج، لم تحاول أن تسارع الى الحافلة، راحت تنظر اليهما عبر النافذة، وتفاجئت عندما رأت ذات النظرات في عيونهما، وما كادا ينتبهان اليها حتى تحركت الحافلة، فنظر كل واحد منهما باتجاه الآخر في ذات اللحظة، وأشاحا بصرهما في اللحظة ذاتها أيضًا. نظر الى ساعته...انها الحادية عشرة والربع، بقي ربع ساعة، ويتضح له كل شيء.

تقترب الحافلة من المحطة المركزية، حيث سينزل العديد من الركاب، ولن يبقى سوى محطتين حتى تصل الحافلة محطتها الاخيرة التي هي وجهته، تتوقف الحافلة، شاب وشابة يتعانقان، عددٌ كبير من الركاب ينزل، وعددٌ أقل يصعد، وعندما صعد الراكب الأخير تركت الفتاة يد صديقها، أُغلق باب الحافلة، صديقها يناديها، الحافلة بدأت بالتحرك، الفتاة تعدو، وجد نفسه يصرخ مناديًا السائق كي يتوقف، لكن السائق لم يعره انتباهًا، واستمر في طريقه، استدار الى الخلف، رآى الفتاة وقد توقفت وجاء صديقها يعدو خلفها ليضمها من جديد، عاد لينظر الى الأمام. ماذا يعني أن تفقد هذه الحافلة ستأتي أخرى بعد ربع ساعة، ستكون قد منحت للقاءها بحبيبها عمرًا أطول بربع ساعة، أليس هذا أجمل من أي موعد آخر ستذهب اليه متأخرة ربع ساعة من الزمن؟

فجأة تذكر تلك العجوز التي كانت تحدجه، نظر باحثًا، المقعد بقربه خال ٍ، أما هي فتجلس في المقعد المقابل... تأمل قبعتها البيضاء، أحمر الشفاه الذي يطلي شفتيها المزموتين، قميصها الأزرق وتنورتها البيضاء، وتأكد أنها أكبر مما يوحيه مظهرها الخارجي.

هي تنظر الى الجهة المقابلة للشارع باستغراب، كيف يبدو الطريق مغايرًا عندما تنظر اليه من وجهة أخرى؟ لقد اعتادت ان تنظر الى هذه الجهة في طريق عودتها بالحافلة، وليس في الذهاب، وها هي الآن تنتبه الى تفاصيل من المكان لم تكن تراها من قبل، توقفت الحافلة.. نظرت الى الركاب الثلاثة غيرها... نزل اثنان واستغربت أن الشاب لم ينزل، أغلق السائق الباب واستمر في الطريق وهي لا تزال مندهشة، هل يقصد المكان الذي تقصده؟ لكنها لم تره هناك قبل ذلك، أهو موظف جديد؟ أم جاء لزيارة قريب.

نظر الى الساعة...انها الحادية عشرة وخمس وعشرون دقيقة ...يزداد توتره.

تتوقف الحافلة نهضت العجوز بسرعة، نزلت وبدأت تسير، صوت محرك الحافلة لا يزال مرتفعًا، الحافلة لم تغادر بعد، استغربت.. استدارت الى الخلف، رأته عند باب الحافلة يحاول النزول بصعوبة، عادت اليه مدت يدها لتمسك بيده، وعندما أنزل رجله الى الارض صرخ متألمًا. اشتدّ استغراب العجوز... وعندما وقع نظرها على بقعة بنفسجية على ذراعه الأيسر صرخت : يا الهي!! ما هذا..

ابتسم، هز رأسه، وراح يسير ببطء قربها، ويحاول أن يعدل مشيته لتكون مثلما كانت سابقًا "أيام الشباب" لكن آلامه تمنعه، قال: ـ انها آثار فحوص الدم التي أجريتها، ففي الفحص الأخير تعبت الممرضة وهي تبحث بنصل الابرة عن الوريد وكانت هذه هي النتيجة.

ـ يا الهي يجب أن تذهب الى مستوصف آخر، يجب أن لا تسمح بهذا .

وصلا الى مدخل المشفى اتجه هو نحو الاستعلامات، وهي غابت في الدهاليز، أرشدوه الى مكان العيادة، وعندما وصل اليها كانت الساعة 11:35 طلبت الممرضة منه الانتظار بعد أن أخذت بطاقته الصحية، جلس بصعوبة، واستغرق في التفكير ...ترى ماذا ستقول له هذه الطبيبة، أخبروه أنها أفضل المتخصصين في المشفى، عليه أن يستمتع بهذه اللحظات التي لا يعلم فيها مدى خطورة مرضه، قبل أن يراها وتؤكد انه لم يبق له من العيش اليسير الكثير... يسند رأسه الى الحائط يحاول أن يتخيل الوضع الذي يلم بعضلاته، بعظامه، كان هذا آخر ما يتوقع من امراض، اعتقد أن قلبه هو من سيخونه لكثرة ما نزلت به من عواصف، وصواعق ولكثرة ما نشبت به من حرائق، لقد خانه جسده وراح رماد حرائقه يترسب في عظامه ينهشه ببطء، ليجعله عاجزًا.

في الساعة 11:45 طلبت منه الممرضة الدخول، دخل ببطء وقبل أن ينظر الى الطبيبة راح يستدير

ليغلق الباب، فجاءه صوتها :" هذا أنتَ اذَا .." استدار، ذهل من هول المفاجأة انها العجوز ذاتها.

اشارت له أن يتقدم ليجلس، بعد أن جلس ابتسمت بود، استغرب فمنذ زمن لم يبتسم له أي طبيب، ينظرون اليه بفتور ويهزون رؤوسهم غير راضين. قالت :" لا تقلق يا بني لقد اطلعت على فحوصاتك الأخيرة وملاحظات الأطباء، ان مرضك ليس بالخطورة التي تظن، انها التهابات بسيطة.."

استمرت بالحديث طويلا عن كيفية العلاج، لكنه كان بعيدًا عنها بفكره، كان يفكر بغرفته، بذاك الشبح الذي يطرق النافذة في الليل، يحدق فيه ويأمره أن يذهب معه، أخيرًا سيرحل عن نافذته.. أخيرًا سيتمكن من النوم دون قلق..



8\9\2010



.

التعليقات