08/09/2012 - 15:40

مكان قرب البحر/ إياد برغوثي

لا قمر في السماء ولا لون للبحر. صوت مذياع سيارة قريبة يعلو عند تمام الساعة بنشرة أخبار حرب مؤجّلة وغلاء أسعار وحرٍ شديد، الكلمات العبرية المدعية الرصانة تبتعد وتتركه وحيدًا عند شاطئ لم يعد له، لهما، أقصد. جملة أبيها بصوتها تطفو فوق الموج الخفيف.

مكان قرب البحر/ إياد برغوثي

كاد أن يصطدم بعمود الكهرباء، إلا أنّه أزاح المقود باللحظة الأخيرة، من حظّه أن المسلك المحاذي خالٍ من السيارات في هذه الساعة المتأخرة. هي ليست المرة الأولى التي ينجو فيها من الموت، وهو يتباهى دومًا بأنّه "محروس" و"حربوق" وأنه يَنْفذ دومًا بسلاسة من أيدي عزرائيل، لكنه الآن يمنع نفسه من ابتسامة المظّفر المحظوظ، يضرب المقود بيده اليمنى ويسرع عند المنعطف. جملة أبيها بصوتها تعلو فوق الموسيقى الصاخبة التي رفع صوتها على غير عادته "فش بيت مِلْك..فِش زواج!".

البحر من أمامه والجبل من ورائه، والسيارة تصدر صوتًا خفيفًا خلفه كأنها تلتقط أنفاسها مرعوبة. كان يتوقع منها أن تتصل بها لتعطيه موعد زيارة أهله لهم، فقد قررا أنّ الوقت قد حان ليتقدما خطوة إلى الأمام وأن لا يضيعا المزيد من الأيام. يعرف جيدًا رأيها بأبيها، حتى أنّه كان قد طلب منها أن تتسامح معه وتقبله وتفهم تشدّده و"دقته القديمة" كخوف عليها فهي ابنته الوحيدة والصغيرة، وطمأنها بأنّ كلّ شيء سيتغيّر بعد زواجهما واستقلالهما. لم يتوقع هذا النفي المسبق.

لا قمر في السماء ولا لون للبحر. صوت مذياع سيارة قريبة يعلو عند تمام الساعة بنشرة أخبار حرب مؤجّلة وغلاء أسعار وحرٍ شديد، الكلمات العبرية المدعية الرصانة تبتعد وتتركه وحيدًا عند شاطئ لم يعد له، لهما، أقصد. جملة أبيها بصوتها تطفو فوق الموج الخفيف.

يترك السيارة مصدومة، بعدما هدأت قليلا، ويمشي على مهل، سمع صوت هاتفه النقال المرمي على الكرسي، توقف للحظة، ثم أخذ يركل حجرًا رافقه في مساره غير معلوم الوجهة. يعرف أنّ الأمور لن تنتهي عند هذه الجملة، لكنها تشعره بالعجز، تحمله وزر أزمة أكبر منه، تتوقع منه أن يبدأ حياته في نقطة النهاية، تقزّم شخصيته أمام أرقام لئيمة وإنجازات وهمية، هذه البيوت ليست لأصحابها بل للبنوك! كان يتساءل دومًا لماذا تجاوز الثلاثين ولم يتزوج أي واحد من الشلة؟...كان يظنّ أن ندرة الحبّ السبب أو الخوف من الالتزام، فأضاف للإجابة الخجل من "معيش" و"معنديش".

اقترب من بعيد رجل يمشي مشية عرجاء تتكئ على كتفه عصًا طويلة يمسك طرفها في يده اليسرى، على بعد ركلة حجر وقف الرجل وركل له الحجر معيده إليه.

- هذه الطريق لا توصل إلى أيّ مكان.
- حسن، هذا ما أريده، لا مكان لي هنا أصلاً.
- كلّ ما تريده لكي تكون الآن هو المكان.
- لكي أكون معها...
- لا، لكي تكون أنت بالأساس، بدون أن تكون لن تكونا، ولا كيان دون مكان.  
- من أنت؟!
- مجرد صيّاد.
- أين تسكن؟!
- في حي المحطة، والحياة محطات. لا تنكسر أمام أولى المواجهات.

عاد معه من حيث أتى، على إيقاع مشية الصياد الأعرج وحكمه القصيرة.
- ظننتك عزرائيل...
- ولست جبرائيل أيضًا!

عند السيارة، أكمل الصياد مشيته دون كلمة وداع فابتلعته العتمة، أما هو فنظر إلى البيوت المضاءة على الجبل، اتصل بها، كان هادئًا، قال لها "المهم أنتِ".

التعليقات