03/01/2013 - 02:04

الصديق الذي حدث فجأة/ طارق خميس

لقد كان يوم خميس، مكتظ كعادة عمان بركاب يتوسلون "الكوستر"، إنه وقت الذروة لاتستهين في ذلك؛ الناس تفقد انسانيتها فيه. أتظنني أبالغ لقد كان يوم خميس، حين توسلت عجوز "للكوستر" أن تصعد، لكنه منعها لقوة لأن المقاعد كانت ممتلئة حتى آخرها ، كانت وجوههم بلاستيكية الملامح يارفيقي، وكأنها نُقِعت للتو في عصارة "البلادة".

الصديق الذي حدث فجأة/ طارق خميس

"كأس إضافي؟!!." وكأنه يبحث عن نديم يقاسمه مالايقبل القسمة بطبيعته، تلك الليلة  كانت تخط تداعيات "صديق حدث فجأة"، في الواقع هناك سلسلة من مقدمات التعارف، متعارف عليها بين البشر، هي وهمية ومتسمة بالمجاملات وكلا المتعارفين يدركون ذلك، لكن الجميع يلتزم بها وبصرامة تامة يجري اتباعها، دعونا إذن نسمي هذه الليلة ليلة "عدم الالتزام في لزوم مالايلزم".

كان هو النقيض الشبيه لي تماماً، حريصا كيف أبدو، فيما هو بوهيمي الخارج والداخل، بالنسبة له إن كان يجلس داخل نفسه في مكان يحبه، فالاضجاع على أي متر خارجه لم يكن بالأمر المهم، فيما كنت أتفقد المكان خارجي كقطة تتحسس فروها.

مرت برهة من الزمن -لم أقدرها- لم استطع سماع صوته بوضوح فيها، ولكنه أخذ يعلو:
"صدقني، إن المكان يحمل من السطوة ما يفوق تخيلنا, كل الأماكن التي عبرناها عبرتنا ايضاً, ويبدو المكان الذي كنت فيه وقتها أشدها خشونة عند العبور، يكاد يخلع أعضائي لضيقه ويخنق رئتي المعنى. 

كان يوم الخميس كعادة  عمان مكتظاً بركاب يتوسلون "الكوستر"، إنه وقت الذروة لاتستهن بذلك؛ الناس تفقد انسانيتها فيه. أتظنني أبالغ لقد كان يوم خميس، حين توسلت عجوز "للكوستر" أن تصعد، لكنه منعها بقوة لأن المقاعد كانت ممتلئة حتى آخرها ، كانت وجوههم بلاستيكية الملامح يارفيقي، وكأنها نُقِعت للتو في عصارة "البلادة".

  دفع "الكونترول" العجوز إلى الخارج، فسقطت على الأرض، لم يتحرك أي من الركاب، دعك من هذا، لم تتغير ملامح أي منهم. لك أن تتخيل ذلك.

إن كان نزولي لتركب العجوز مكاني مدعاة للبطولة إذاً فلنرثِ العالم، نزلت وتبعتني شتائم "الكونترول" ، هل سبق لك وشعرت بلحظة ثقيلة لاأتكلم عن لحظات الحزن أو الضيق هذه خبرتها البشرية جمعاء،  أتحدث عن اللحظة الثقيلة، هل تظنني أشفقت على العجوز ليس هذا تماما ما خطر ببالي، أحسست بركبتي ترجفان من ثقل اللحظة.

وقفت على الرصيف وكان الله يمد عمان بالدموع، كنت أحاجج دفاعا عن جدوى الحياة في سجال اشتعل داخل رأسي، ولكن ماذا ستفعل إن غلبك منطقك. في الواقع كانت لحظة مفزعة تحمل محاججتها الحاسمة وكأنها درس فلسفة مليء بآراء عن الكون.

خُيّل لي من وقتها أن "الكوستر" هو مقعدية حمام لم تسحب سيفونه منذ خلقت البشرية.

(لنطل على المشهد أيها السادة. جالس وحدي أتخيل أن العام سينتهي ومعه العالم مصدقا نبوءة "المايا"، وأفكر بالطريقة التي سيتحطم فيها كل هذا الوهم البشري، فخيل لي تماما أن قوة ما ستسحب سيفون هذا العالم ونستريح، هل كان توافق الخيالين هو مادفع الارتياح داخلي للصديق الغريب الذي حدث فجأة، أم أن الكأس فعل فعليه. المهم في الأمر هو: بدت لي-على غير عادتي-  فكرة الفضفضة -على اعتاب نهاية العالم- مغرية، ماذا لو صح وجود حياة خالدة بعد هذه الحياة، لن يكون من اللائق وقتها أن نتحدث بأي حديث عَفِن يمس هيبة الخلود، ليس من اللائق أن تكون ثرثراتنا الدنيوية بحضرة الملائكة والنعيم الأبدي، فمن لم يقل الآن لن يقول غدا، وستستقر غصة التجربة غير المحكية في روحه فيكون خلوده مشوها).

لن تصدقني إن قلت لك إن عمان أجمل من القدس، تبدو لي القدس كفكرة مقدسة ومدينة لاتاريخية متجاوزة، أما عمان فهي المدينة التي يتاح لك تقبيلها والبصق عليها دون ان تشعر بوخزة الضمير، هي اختبار الشبق فينا، والزمن الفاعل للذكريات، أقول لك ذلك حتى لايمسها "كوسترك" بسوء. ليس في خيالك أنت، فتجربتك لن يستطيع أحد مس تراكيبها، ولكني أحدث نفسي بصوت عال، خشية مَس تراكيبي الهشة، لقد كانت حياتي بين عمان (مدينة  تتحس انوثتها بكامل الثقة) واربد (مدينة كفت عن محاولتها في أن تكون مدينة)، وبين الثقة الزائفة والإخفاق، ينسل بين لحظات الزمن خيط متعة خفيف، فتح الوجود على مصرعيه؛ فوقعت في أسوأ ما يقع فيه عابر السبيل، أسوأ ما تقع به سيارة في محطة بنزين؛ أن تحب المكان المؤقت. لقد جمعتني المدينتين برفاق أسوأ مافعلوه أنهم رفعوا شرط الوجود الإنساني لحدود السماء.

كنت أسكن يارفيقي في اربد، داخل عمارة اختار لها صاحبها اسم "تالا" وهنا أسكن في عمارة تدعى "نوح" في حي يطلق عليه اسم "أم الشرايط"، هل تفهم ما الذي أريد قوله انظر للاسم كيف أصبح خشنا، ولأن النظم هو مايحكم الكون فإن لكل شيء معنى، حتى فاتورة الكهرباء تقول شيئا ما. 
هذه المدينة  التي نسبت نفسها إلى الله "رام الله"،  تشكلت على خلسة من التاريخ، في لحظة غفوته تماما، فماذا تظن يارفيق لقد عَبَرتُ فيها سنة واحدة وعبرت  فييَّ دهراً، تساقط شخوصها  أمام شرط الوجود الانساني الذي شُيِّد بمجاورة السماء، لقد صبتهم "رام الله" في كؤوس تدعى "المؤسسات" وارتشفهم العالم برشفة.

تشكل وعيي على صفيح ساخن، أو دعني أقول داخل فرن مغلق وهل يخبز الفرن المفتوح يارفيق !!

  (كان الصديق الذي حدث فجأة يتأمل كل حرف أقوله، وأنا لحظة انتهيت في دلق كل ما قصصته عليه وعليكم دفعة واحدة، رجعت خطوة في ذهني إلى الخلف، مهلا، أليس ما أقوله عن "رام الله" سببه أنني أصبت ب"العشى العمَّاني"، تلك الرؤية الضعيفة للمكان وكأنه معتم، لأن ضوءاً قوياً وساحراً، عبر حياتي تاركاً ماءً أبيض في عيني، ربما في لحظة أدار فيها الوجود/الفرن لي ظهره، أو بلغة أدق لحظة فٌتح باب الفرن رأفة بالطحين لمدة لاتكفي لإفساده).

( اقترح علي تفسيرا أقنعني، يشرح: "لماذا نسكن مدينة نشتمها كل يوم؟")
إنك لم تختر أن تستقتر في قريتك الصغيرة مسقط رأسك، وجئت هنا لتصدع رأس الناس في شتم المكان الذي اخترته للعيش، أتعرف لماذا؟ لأنك هنا فقط تشعر أن ثمة قلق يستفز جوهرك فيما القرى هادئة حد الموت، لكن احذر "القلق المدلل"
-القلق المدلل؟!! وما يكون
-أوه يارفيقي، ألا تعرف أولئك الذين ينتزع يومهم إن لم تمدهم المدينة بكأس "طيبة" مسائي.
-ولماذا يضطرون للقلق المدلل
-كل منا له طريقته في الضغط على الأحرف التي يحبها حين ينطقها.  

(لم أعرف على وجه الدقة ماذا كان يقصد حينها بالأحرف، لكني تخيلت جارنا الأربعيني وهو يشرح لي أنه لايشتري أحذيته إلا من شركة "فابي" الايطالية، وكان يضغط بشدة على حرف الفاء حين نطقها)

حدثته عن قلقي لأن فكرته عن "القلق المدلل" أرعبتني:
   هذا المكان يا رفيق يحولنا لمحاربين يوميين، نحارب لئلا  يمس جوهرنا، ضد أن تدلقنا المدينة في كأس يسهل شربه في رشفة واحدة، إن ذاك المحارب الذي يغفل لحظة عن حربه اليومية في سبيل الجوهر، قد يخسر إلى الأبد، قد يُرتشف بلحظة ولن يعود هو، إنه من الإنصاف ان نقول أن أيَّ واحد في "رام الله" يحارب عن جوهره، خير من عشرة ملائكة جالسين يشاهدون غروب الشمس بين اربد وعمان في الطريق المطل على مخيم البقعة .

(أخذت أضواء "لافيه" تخفت شيئا فشيئا هذه اللحظة التي يستعد الناس لاستقبال العام الجديد وكأن تبديل الرقم"3"بالرقم"2" سبب كاف للتفاؤل)
هذا أمل، أمل زائف كمقصلة بحجم الوجود ذاته، قال الصديق (الذي حدث فجأة) وأخذ يشرح: لايختار أحد أن يحارب ولا آخر يصبّ بسهولة مهزوماً في جوهره، لاتفهم من كلامي أني عدمي فالعدمية في زمن المواجهة تواطؤ للضحية مع المنتصر ولحظة التقائهما في تقاسم الأدوار، دعني أوضح ما أقصد بالأمل الزائف، في أزمان سابقة على تشكل المدن، قبل ولادة المصنع أقصد فكرة المصنع تحديدا، كان من السهل على سقراط أن يكون في التاريخ، مع أنّه لم يكتب كتابا واحدا، لو وجد سقراط اليوم فستجرجره الأكاديميا/المصنع من شَعره نحو مفترق، إما أن يكتب بحثاً أكاديمياً محكماً أو أن يقلع عن الإدعاء أن لديه حكمة ما، وإن اختار الطريق الأول سيكف عن أن يكون هو ويَسهل ارتشافه بلغتك، أما إن اختار الطريق الثاني فسيمنحه الجميع بكرم متناهٍ قلادة الإخفاق، كل المنضوين في نادي الإخفاق غير المصبوبين بكؤوس، كافون لإقناع الوجود باستمرار دورانه، ليس لأنه لم يتم ارتشافهم بعد، بل لأنَّ الوجود يجد من الحماسة مايكفي لاستمراره في صناعة الكؤوس في أشكال وأحجام مغايرة، هذا تماما ما أقصده بوهم اختيار المعركة، لا أحد فينا اختار معركته، وليس سبباً كاف أن نولد على نقطة في إحداثيات الزمان والمكان قرر الوجود فيها شكل المعركة لكي نخوضها حتى اخر نفس.

ثم أخذ يحرك رأسه بشكل دائري ويهذي:
أحلم بالوقت الذي يمكنني أن أقاتل فيه من أجل جملة معترضة، أو نقطة في آخر سطر، أو من أجل همزة تهمل على رأس حرف الألف.

وأخذه الإنفعال:
وإلا ماذا يعني أن يصفق لك ألف واحد والكائن الذي في داخلك حزين
ماذا يعني ان يغضب منك الف واحد ويصفق اللامرئي  داخلك
أي أفهام ستولد يا رفيقي حين تكف اللغة عن أن تكون كؤوس لاحتواء المعنى أي أفهام!!!.
بدأت ثوان الدقيقة الأخيرة في العام المنصرم تلفظ أنفاسها، وقف على كرسيه وكأنه يمثل دوراً مسرحياً، رفع كأسه عالياً واتكأ على الدخان المتصاعد من سيجارتي، وقال فيما يشبه "البيان الوجودي":
من قال لك أني أقاتل كي أنتصر، أنا فقط أبحث عن هزيمة تليق بي.

انحنى النادل مقترباً مني، وقال: سيدي، لم تجبني "كأس إضافي"؟!.


____________________________________________

** إلى نجوان
 

التعليقات