يوليو ومهام المرحلة المقبلة*/ د.عزمي بشارة

يوليو ومهام المرحلة المقبلة*/ د.عزمي بشارة
كان مشروع ثورة 23 يوليو مشروع استكمال الاستقلال الوطني وبناء الدولة، وتحول بسرعة إلى مشروع تحرر وتحرير. فقد كان منحازا من البداية للجماهير الواسعة من عمال وفلاحين وطبقات شعبية ومثقفين. وكان الضباط الأحرار وطنيين راديكاليين، قادتهم وطنيتهم إلى محاولة التوصل إلى أفضل التعبيرات المتاحة، في ظروف العالم الثالث في عصرهم، عن إرادة الأمة. وكان منطلقهم ومنطلق ثورتهم أن الشرط لذلك هو تحريرها من إملاءات الاستعمار والقوى الاجتماعية المرتبطة به، ومن التخلف الاجتماعي والثقافي داخليا.

لم يتفرد الضباط بين أترابهم ومعاصريهم في دول أخرى مستقلة حديثا شكل فيها الجيش رافعةً لأبناء الفلاحين والطبقات الوسطى، وأهمَّ تجمع لصهر الأمة، وأحدثَ مؤسسة من مؤسسات الدولة من ناحية درجة الانضباط والتنظيم وحساسية المهمة التي يقوم بها. ولكن خصوصيتهم كمنت في: غنى التجربة المصرية الاستقلالية في الطموح للحداثة منذ محمد علي، وفي أهمية ووزن مصر عربيا (وبالتالي دوليا)، وفي الكاريزما الناصرية التي لا يمكن فصلها عن العنصرين السابقين. فرجل بنفس صفات عبد الناصر في بلد أصغر وأقل وزنا ما كان ليحظى بهذه الأهمية، وحتى العَظَمة. وقعت هذه الكاريزما الناصرية ببعديها العقلاني والرومانسي، الناضج والساذج، على طموحات شعبية خصبة، وتطلعات جماهيرية واسعة للتحرر والانعتاق والوحدة في زمن زوال الاستعمار.

لم يكن الضباط الذين قاموا بالثورة إسلاميين، ولا كانوا علمانيين إيديولوجيا، بل رغبوا بإقامة دولة وطنية تملي نوعا من العلاقة مع أنماط التدين يعلو فيها شأن الدولة والوحدة الوطنية. كانوا وطنيين مصريين مسلمين مؤمنين دينا، ولكنهم لم يكونوا أصوليين. ولم يكونوا قوميين ولا شيوعيين، بالمعاني الإيديولوجية المنتشرة اليوم بعد أن مرت السياسة العربية في مراحل الاستقطاب. ولكن وطنيتهم ونفورهم من النظام السياسي للنخب التي عملت في ظل الوصاية الاستعمارية، وهو النظام الذي جمع الإقطاع الاجتماعي مع العبودية السياسية في العلاقة مع الجماهير الواسعة، دفعاهم الى تبني أشكال اشتراكية من العدالة الاجتماعية بدءا من فتح أبواب التعليم لأبناء الفلاحين وحتى الإصلاح الزراعي وبناء الصناعة الوطنية والقطاع العام والتأميمات.

وقد قادتهم هذه المهام إلى صراع ضد بقايا النظام الملكي (الذي يحاول البعض إعادة الاعتبار له في تزوير علني راهن للتاريخ)، وضد ما بات يسمى الرجعية والإقطاع. كما قادتهم مهام بناء الاقتصاد والتحديث ليس فقط إلى إدراك أن الاستعمار الأميركي هو وريث خصمهم البريطاني، وليس فقط إلى إدراك كونه قوة غير محايدة إقليميا وأنه أبعد من أن يكون مشروعا ديمقراطيا في السياسات العربية الداخلية... بل قادتهم بالضرورة إلى الصدام معه ومع إسرائيل المعادية أصلا لأي بناء لدولة عربية حديثة.

وكانت لقضية فلسطين وللسلوك المخزي للأنظمة العربية في الصراع مع الصهيونية على هذه الارض العربية أثرٌ عميقٌ أصلا في صياغة تطلعات هؤلاء الضباط السياسية. لقد مرت طريق قيادتهم فلسطين إلى العروبة السياسية من البداية عبر فلسطين. ودفعهم مجال مصر الحيوي ووزنها الدولي بحزم في نفس هذا الطريق. أما المؤدلجين قوميا من بينهم فقد كانوا قلة في البداية.

لقد قادتهم وطنيتهم المصرية وصراعهم مع الخصوم الداخليين والخارجيين، الذين وسموا بلقب أعداء الثورة، الى إدراك العمق القومي المعاصر للمصريين وغيرهم من العرب، وهو العمق القومي الجامع لوادي النيل، مصر والسودان، وبلاد الشام والجزيرة والمغرب الكبير، ألا وهو البعد والعمق القومي العربي. الهوية العربية الثقافية المسيسة هي قومية هذه الشعوب الحديثة، وهي التي تزداد وتغنى مضمونا كل يوم.

كانت هذه في عصرهم طموحا سياسيا يمنحهم قوة وعمقا استراتيجيا. كانت في عصرهم هدفا وحدويا مبنيا على اللغة وتصور التاريخ المشترك والطموح إلى مصير مشترك، فباتت القومية العربية بعد فشل هذه المشاريع السياسية تزداد غنى بفعل التفاعل مع العولمة وتوحيد السوق الثقافي والإعلامي العربي، بعد أن فشلت الدول العربية في المهمتين.

وها هم العرب ينظرون كيف يتفاعل الأتراك مع الحداثة والعولمة والدين والعلمانية في دولتهم القومية، وكيف يتخذ هذا التفاعل أشكالا أخرى في إيران بالقرب منهم، ويرون بحسرة كيف يجري ذلك بثقافة (قومية مارقة عابرة!!!) في دولة استيطانية حسبوها مزعومة، في حين أنهم ينقسمون إلى إثنين وعشرين دولة جزء منها من هو مهدد بذاته بالتقسيم... وهم لا يستطيعون التفاعل مع تحديات العولمة والدين والعلمانية والحداثة إلا عبر ثقافتهم القومية كعرب.

كانت قضايا الوحدة وتحرير فلسطين والتنمية ورفض القواعد العسكرية والوجود الأجنبي و"ثروات العرب للعرب" في مركز المشروع القومي الذي قادته مصر الناصرية في تلك المرحلة. وإن تجلى ذلك أكثر ما تجلى في المد التضامني الذي اجتاح الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه عام 1956، فقد تجلى ضعفه القاتل في عام 1967، في عدم إتقان بناء المشروع الوطني الصلب وبناء الدولة الحديثة بدءا بعملية بناء المؤسسات، بما فيه الجيش والأجهزة الأمنية وإدارتها، بحيث يمكنها من المواجهة والدفاع عن المشروع القومي الكبير. ففي الوقت الذي طغت فيه الرومانسية (ولو كانت صادقة) على الشعار القومي، طغت طرق الإدارة الإقصائية التي تخلط الأمن بالسياسة بالمعايير المهنية والكفاءة على عملية بناء الدولة محليا. لقد بدا أن بعض قيادات هذا المشروع الكبير كانت تجمع بين المراهقة السياسية خارجيا والتعنت الأمني القمعي داخليا. وكان بعضها أنضج منذ البداية. ولكن تحالفاتها الدولية الاضطرارية لم تساعدها على تصحيح هاتين النـزعتين تحديدا، بل قوتهما.

ولكي لا ينشأ انطباع خاطئ لم يكن هؤلاء القادة في مصر وفي الجزائر وسوريا والعراق فاسدين، كما يدعى حاليا ناقلا الى الماضي تجربة الحاضر إسقاطا. فربما انتشر نوع من سوء الإدارة أو ربما كانت هنالك حالات من الفساد الفردي. ولكن صناع القرار لم يتحولوا إلى أثرياء عبر استغلال الموقع السياسي، ولم يسد لديهم حكم العائلة والأقارب، "نيوبوتيزم". ولا يقارن كل هذا مع فساد نيو لبراليي اليوم، وحلفاء اميركا، أو ذلك الذي استشرى في الدولة القومية الكاريكاتورية المتأخرة بالفئات الطفيلية التي تخلط الفساد السياسي بالفساد المالي.
وقد سعوا فعلا إلى بناء ثقافة وطنية ودولة حديثة وإلى تطوير الزراعة والصناعة وإلى العدالة الاجتماعية. وطبعا تحول جزء كبير من المشروع كما في حالة الدول الاشتراكية إلى رأسمالية دولة بيروقراطية. ولكن كانت هذه أولوياتهم فعلا. كانوا أصحاب مشروع عام. أما الطبقة السياسية في أيامنا فهي صاحبة مشاريع خاصة.

لم يشفع حسن النوايا، ولم تشفع نظافةُ اليد لعبد الناصر، فقد كانت هزيمة يونيو 1967 مفصلية. وإن تم تجاوزها عبر التحضير الى نصر عام 1973 من قبل نظام عبد الناصر نفسه إلا أن من قطف نتائج النصر هو نقيضه الذي نشأ من داخله. وهو الذي استخدم النصر لينشئ الجمهورية الثانية... التي تدير ظهرها للمشروع القومي والباحثة عن مسار منفرد مع الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي حولت اقتصادها الى التبعية الكاملة وسياستها الى التبعية للولايات المتحدة، ثم إلى السعي الدائم لإرضاء إسرائيل كمفتاح لكسب ود أميركا.

لقد رافق هذا كله انهيار المرجعية الأخلاقية في غياب مشروع عام، كما رافق ذلك حالة انحلال سياسي وثقافي لم يسبق لها مثيل في الحداثة العربية، بما فيها المرحلة الاستعمارية. وقد ثبت أن غياب المشروع السياسي والاجتماعي يغيِّبُ أمورا وجودية أخرى بالنسبة للمجتمعات، خاصة تلك التي لم تكتمل فيها بعد عملية بناء الأمة، وحتى بالنسبة للأفراد.
وقد مر وقت كاف لكي نحكم فعليا، وليس نظريا فحسب، أن طريق السلام المنفرد مع إسرائيل والابتعاد عن المشروع القومي لم يساهم في عملية التحديث والتنمية والديمقراطية خلافا لم روج منظروه. بل بالعكس، تعثر بناء الدولة أكثر واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، واتخذت المسألة الطائفية أبعادا غير مسبوقة، وتعمم الفساد حتى أصبح عرفا سائدا في الطبقات الحاكمة، وفي بيروقراطية الدولة وأقربائها وأنسبائها. ونشأ الانطباع عن وجود فرز عمودي بين ثقافتين واحدة استهلاكية والأخرى أصولية... لقد ثبت أن من يتخلى عن العدالة في القضية الوطنية وعملية بناء الأمة والتضامن العربي هو نفسه الذي يتحرر من القيم والمعايير في السياسة الداخلية وفي الإدارة والاقتصاد.

كما تبين أن سياسة أولئك الذين اعتبروا المعركة وفلسطين عبئا على الاقتصاد والسياسة هي الوجه الآخر لـ"لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". فسياسة لا صوت يعلو فوق صوت التسوية والتحالف مع أميركا، ولا صوت يعلو فوق الإثراء الفردي والتحلل من المصالح العامة أدت إلى إهمال بناء الاقتصاد الوطني والتنمية والتحول إلى الخصخصة غير المنضبطة لمرافق الدولة عودة إلى ازدواجية الإفقار من جهة، والثقافة الاستهلاكية من جهة أخرى. أما الديموقراطية فباتت تعني تهميش الجماهير وإقصائهم من الحياة السياسية.

ولكن هؤلاء لم يعودوا نفس الفقراء ونفس الجماهير الذين عاشوا كفلاحين محرومين قرونا طويلة. فقد غيرتهم الثورة، وأصبح لديهم طموح سياسي وتطلعات لحقوق اجتماعية وسياسية باعتبارهم وباعتبارها مصدر شرعية النظام الجمهوري.

لقد حلت الأحزاب الحاكمة، حزب السلطة، أو حزب الرئيس المؤلف علنا من أصحاب المصالح، محل مجلس قيادة الثورة والتحاد الاشتراكي، ومحل الاحزاب الإيديولوجية في السلطة عموما. كانت هذه المؤسسات الأخيرة غير ديمقراطية، ولكنها كانت صاحبة مشروع عام وشعبي. أما التي حلت محلها فهي غير ديمقراطية، وهي تتباهى في الوقت ذاته أنها لا تحمل مشروعا عاما، وأنها عبارة عن تجمع من المصالح الخاصة تحلقت حول الذراع الأمني للنظام. إنها عبارة عن تقسيم عمل بين المصالح الخاصة (ضد، أو على الأقل بتجاهل، مصالح خمسة وتسعين بالمائة من المجتمع) المتحلقة حول الأنظمة والمتنازلة عن السياسة للأمن في مقابل حماية الأنظمة لها... بونابرتية عربية كاركاتيرية متأخرة.

ولذلك كان المشروع الأول قادرا على الأقل على إنتاج متخيل عام لأمة، ولصالح عام، ولحيز عام. وشملت هذه تطويرا غير مسبوق للفن والأدب والثقافة وانتشار القيم التقدمية والتحررية.

لم يكن قوميو تلك المرحلة ديمقراطيين بالمعنى الذي نعرف اليوم، بل كانت ديمقراطيتهم أقرب إلى اليعاقبة الفرنسيين، الذي رأوا أنهم يعبرون عن إرادة الناس ومصالح الغالبية في وجه قوى الثورة المضادة. وهم بالتأكيد لم يكونوا لبراليين لا اقتصاديا ولا سياسيا.

وطبعا لم يشبهوا اليعاقبة أيضا في أنهم لم يقطعوا مع الدين، بل كانوا متدينين علنا، وفي أنهم لم يكونوا علمانيين مؤدلجين. لقد اصطدموا مع التيار الديني السياسي، لأن الأخير لم يرض بأقل من تسيير الدولة كما يرى... ولأن تصور قيادة الثورة خلط الأمن بالسياسية، وتدهور إلى التعميم. ولم يعد كل هذا مبررا في عصرنا فالقومية لا تتناقض مع الدين، وهما يتكاملان في حالة العروبة والإسلام. كما أن التناقض ليس بين الدولة والتدين، بل مع أنماط من التدين تؤدلج الدين وتجعله نظرية تكفيرية تحتكر القداسة لذاتها. ونحن نفترض أن التيار الديني الرئيسي قد استفاد من هذه التجربة، كما استفاد التيار القومي منها. ولا بد من استخلاص العبر للمستقبل.

ويخطئ خطأ قاتلا كل من يحاسبهم بأثر رجعي بمقارنتهم بالحركات القومية في أوروبا. ونقصد بشكل خاص أولئك الذين لا يعرفون شيئا في نشوء القوميات ودورها، وفي النظريات حول دور القومية المتأخرة في أوروبا.

فالقومية العربية التي انتشرت من نموذج لتوحيد بلاد الشام والهلال الخصيب إلى مشروع عربي بعد ثورة يوليو هي تجاوز للعصبيات الطائفية والمذهبية والعشائرية وليس فقط للحدود الاستعمارية، وهي استنفار لطاقات الأمة في مقاومة الظلم والاستعمار والعدوان الخارجي والتخلف، وليست، ولم تكن أداة احتلال وتوسع. وهي رفض لتشظي لا ينتهي لهذه الأمة. فهذا التفتت يقود إلى الدولة القطرية ومنها إلى دويلات تعيش صراعات حدودية، ثم إلى تفتيت طائفي ومذهبي داخل الدولة القطرية... والقومية العربية هي تسييس لانتماء ثقافي حضاري استيعابي وليس أقصائيا، وهي ليست عرقا ولا عرقية بكل تأكيد. إنها ليست قومية عدوانية استعمارية.

ولكن كما أنه لا يمكن لخصومها تلويث الناصع في صورتها وما خلفته من أهداف وقيم وأجيال من المتعلمين من أبناء الفلاحين، وطموحات جمهورية متعلقة بدور الجماهير ووعود المواطنة والعدالة الاجتماعية، كذلك لا يمكن لـ"مريدي" هذه المرحلة تحويل القومية إلى حلقة صوفية تدور حول قطب أو شيخ طريقة. فقد ارتكبت جرائم لا تغتفر باسم القومية العربية، كما أن القوميين العرب حكموا بلدانا عربية فترات طويلة بشكل متزامن ولم ينجحوا في تحقيق الوحدة فيما بينهم.

ولا يمكن إحياء هذا المشروع ولا تجديده بل المطلوب الاستمرار على الطريق، وهذا يعني الإتيان بجديد، وليس تجديد القديم. القديم هو تاريخ الحركة الوطنية والتيار القومي. وهو تاريخه الحي. والتيار القومي المعاصر هو استمرار لهذا التاريخ. ولكن لم يعد التجديد والإصلاح بالأدوات القديمة كافيا، كما لم يعد الحنين والاجترار مقبولا. ولا بد من طرح مشروع سياسي جديد منتم إلى هذا التاريخ. قد يصح الحديث عن تجديد الفكر، ولكن لا يمكن ترقيع وتجديد المشروع السياسي. لا بد من طرح مشروع وبرنامج جديد في ظروف عصرنا.

ونحن نؤكد على طرح مشروع جديد، ليس فقط لأن الناس لا تؤمن بإصلاح تقوم به نفس القوى (خاصة انها ليست حاكمة وبالتالي لا أحد يجبر الناس على منحها فرصة لتصلح ذاتها، كما تمنح الأنظمة الحاكمة مضطرة )، وإنما أيضا لأننا لا نعرف متى يكون الإصلاح فعليا، ومتى يجري التظاهر بالإصلاح للمراوحة في المكان. قد يكون استخدام للخطاب الإصلاحي ضريبة كلامية في التغطية على الجمود الفعلي. كيف يمتحن قادة ليسوا حاكمين ولن يحكموا قريبا فيما إذا كانوا فعلا قد قاموا بتجديد أعمق من مجرد تبني الخطاب الديمقراطي لفظيا وفجأة؟

وطبعا لسنا بحاجة لأن نصور كيف ينظر الناس إلى من قضى حياته في الحكم في أنظمة تبنت القومية إيديولوجية رسمية، ولم يُعرَف عنه ميلٌ إلى الديمقراطية، ولا نزوعٌ إصلاحي، ثم بات يكرر في الشيخوخة خطابا نقديا ليبرئ نفسه أو ليحظى ببقايا نجومية، أو بعض القبول، عند التيار النيولبرالي من أجل البقاء أو نتيجة لطموحات سياسية مراهقة متأخرة؟

إن كل أصناف الحديث عن الإصلاح والتجديد هي إما أشكال مختلفة من الحنين، أو لتبرير ما كان والاعتذار عليه لقوى لا تقبل أصلا بالفكرة القومية برمتها.
وأسوأ ما يمكن ان يحصل في تقييم التجربة هو محاسبة الماضي ظلما بلغة الحاضر ومفاهيمه، (وهي لم تكون مطروحة في حينه) من جهة، وتشخيص الحاضر بلغة ومفاهيم الماضي التي نفذ مفعولها من جهة أخرى.

وبرأينا تكمن المهمة الأكثر إلحاحا في طرح المشروع. ويفترض ألا يستفاد فيه من أخطاء الماضي أو قصوراته فحسب، بل أن يتواضع عند تقييم الماضي بأدوات الحاضر ومعارفه، وأن ينظر الى قضايا الحاضر وهمومه بلغة الحاضر.
ويفترض أن يتطلع المشروع في النهاية إلى هدف بناء الأمة والمجتمع والاقتصاد والنظام ومنظومة الحقوق والعدالة الاجتماعية التي تتيح للإنسان في النهاية نشدان السعادة والحرية في بلادنا.
وعلى التيار الذي يدعي أن مشروعه يمثل هذا الطموح ويجسده أن يطرحه كمشروع سياسي في المجتمعات العربية.

ولا شك أنه قد تم إنتاج الكثير فكريا حول تلك المرحلة وحول تجديد الفكر القومي. ولكن التحدي يكمن حاليا في طرح المشروع السياسي. وقد تجرأ عليه هؤلاء الضباط، لا كعمل أهلي ولا كحركة احتجاج ولا كحزب سياسي كتب له منذ قيامه أن يكون في المعارضة "الرسمية"، أو يكتب هو لنفسه أن يكون "غاوي معارضة"، بل كمشروع دولة.

إن المشروع الذي يقنع الجماهير فيما وراء الديماغوغيا الدينية أو القومية هو الذي يطرح كيف سيدير هو الدولة، ولماذا، وماذا سوف يكسب الناس من وراء تحقيق مشروعه؟
لهذا الغرض يجب أن يطرح التيار القومي العربي مشروعا جديدا شاملا لأهم تساؤلات وهموم الشعوب العربية والمواطنين العرب على الأقل. والحديث هو ليس عن عمل فكري بحثي، بل عن مشروع تحمله قوى سياسية وعن مشروع قادر على إلهاب خيال الجماهير والنخب العربية. ويجب أن يساعد التيار القومي المواطن العربي العادي أن يتخيل كيف يبدو مشروعه لو تحققت محاوره الأساسية:

1. مسألة الوحدة، وإمكانية تحقيقها وما يجنيه المواطن من تحقيقها.
2. المواطنة في المشروع القومي العربي، وطبيعة الحقوق الفردية والجماعية الممنوحة لغير العرب كمواطنين متساوي الحقوق.
3. الإجابة المدنية والمواطنية على القضية الطائفية.
4. المبادئ الدستورية الأساسية.
5. إمكانية تطبيق اللبرالية السياسية في الحقوق بانسجام مع حقوق الجماعات من جهة، وتقييد اللبرالية الاقتصادية لصالح أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية من جهة أخرى.
6. علاقة الدين بالدولة في هذا المشروع وما يجب ان يتفق عليه المشروع القومي مع قوى الإسلام السياسي من مبادئ ديمقراطية دستورية مشتركة ينبغي احترامها كشرط لمشاركة القوى السياسية كأطراف سياسية شرعية في إطار المشروع القومي.
7. السياسات الاقتصادية والاجتماعية في الدولة التي تحقق المشروع القومي العربي، ونوع العلاقات التي يجب أن تربط مناطق الوطن العربي المختلفة ووحداته السياسية في هذا الإطار.
8. كيف يتحقق الأمن العربي المشترك؟ وماذا يعني هذا على مستوى العالم والإقليم والدولة؟

في الطريق إلى تطبيق المشروع المطروح لا بد أن تتبلور اقتراحات مرحلية يـنبغي تحقيقها أو المطالبة بها، مثل إلغاء تأشيرات الدخول في التنقل بين دول الوطن العربي، وتحقيق التكامل الغذائي والتعليمي، وعلى مستوى مشاريع تزويد الطاقة والمياه وتلوث البيئة. وفي هذه الحالة يجب أن تكون الاقتراحات المرحلية أيضا واضحة وقابلة للصياغة على شكل برامج تتبلور حولها تحالفات.

إن الوقوف في نفس الخط التاريخي لثورة 23 يوليو يعني رؤية هذه المهام المشتركة والتصدي لها المهام ببرنامج لا بد أن يختلف في عصرنا عن برنامج تلك الثورة وبأداء أنضج يختلف عن أدائها ويستفيد منه.

_____________
* مقال افتتاحية عدد تموز من دورية "المستقبل العربي" الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت

التعليقات