بشارة في حوار مع "البيان": لا توجد ذات عربية تخوض معركة حل شامل مع إسرائيل

-

بشارة في حوار مع
الدكتور عزمي بشارة رجل غني عن التعريف، فهو كاتب ومفكر ومناضل سياسي لم تمنعه عضويته في الكنيست الإسرائيلي من خوض المعارك السياسية ضد الدولة التي يجلس تحت قبة برلمانها. وهو رغم أفول القومية وتبعثر رجالاتها، قومي عربي حتى الثمالة. ولكن من نوع جديد يصر على البعد الانساني وعلى الديمقراطية والمواطنة.

ولأن العالم العربي بحاجة إلى أفكار تخرجه من مأزقه أكثر من أي وقت مضى كان هذا الحوار المطول مع عزمي بشارة، وطوف الحوار معه بالعديد من القضايا من محاولة اقتحام الأقصى، وقد التقيناه بعد يوم من محاولة الاقتحام، إلى الأزمة اللبنانية والوضع السوري، ومن الجدار العازل إلى هرولة العرب للتطبيع مع إسرائيل، ومن الفكر السياسي السائد حالياً داخل المجتمع الإسرائيلي إلى اللافكر العربي واللاذات العربية الحاضرة بقوة تجعلها تخيم وحدها على المشهد.

تحدث بشارة عن الصراع الفلسطيني مع إسرائيل، وعن الصراعات الداخلية على الساحة الفلسطينية وعن سباق القادة العرب للهبوط بسقف مبادرة السلام العربية التي أعلنت في قمة بيروت عام 2002 وشيوع جو المناقصة بينهم خلال اتصالاتهم بالإدارة الأميركية. وسخر بشارة من الجدار العنصري العازل الذي تبنيه إسرائيل بالقول هل خطر في بال بريطانيا أن تبني جداراً يعزلها عن ايرلندا بعد عمليات الجيش الجمهوري الايرلندي؟


ـ ما تقييمك لمحاولة اقتحام الأقصى الأخيرة؟ ماذا قصد بها وهل كان المقتحمون لديهم نية حقيقية لإيقاع الأذى بالأقصى، أم كان هدفهم تكتيكياً للتغطية على ممارسات الحكومة الإسرائيلية وربما باتفاق معها؟

ـ محاولة الاقتحام الأخيرة هي نوع من الدراما التلفزيونية أكثر منها أي شيء آخر، وهي تثبت أن سرعة ذوبان الرأي العام العربي توازي سرعة انفعاله.

الأخطار المحدقة بالأقصى ليست عشرات المجانين يريدون اقتحامه. وأعتقد ان إسرائيل تملأ أشداقها ضحكاً على ما يجري، اذ إن هؤلاء المهووسين اعلنوا قبل شهر نيتهم، وردت إسرائيل بمنعهم ثم توقيفهم، ونتيجة الصورة ان إسرائيل تبدو معتدلة وشارون يكافأ في واشنطن على أنه اعتقلهم، أربعون مهووساً عنصرياً وصلوا الى التظاهرة الإسرائيلية، ولو كانوا جديين لما أعلنوا قبل فترة وكرروا اعلانهم يومياً ليساعدوا في عملية تعبئة وتجييش الرأي العام الفلسطيني.

ولو حصرنا أنفسنا عند البحث عن خطر في الصورة التي كانت في يوم العاشر من هذا الشهر، لوجدناه حتى هنا. الخطر الأكبر يتمثل في السيادة الإسرائيلية، في حقيقة ان إسرائيل تستطيع ان تمنع المصلين المسلمين من الصعود للأقصى في اليوم نفسه تجعلنا ندرك ان الخطر ليس العشرة او المئة متطرف يهودي، بل في الحكومة الإسرائيلية ذاتها التي تجري حفريات تحت الاقصى في اشرافها ومن دون متطرفين، كما انها يوميا تمنع المصلين المسلمين في الضفة الغربية وغزة من الوصول إلى الأقصى، أنا أتساءل: متى صلى آخر غزاوي فيه؟

إضافة إلى حقيقة ان إسرائيل منعت من هو دون الثلاثين من دخول المسجد، هنا يكمن الخطر، وليس في نسج النظريات التلفزيونية بالبث المباشر حول المتطرفين المئة. وطبعاً لا استبعد وجود خطر مادي يتعلق بمباني الحرم، وإنما ليس من هؤلاء المئة وإنما من مئات غير مرئيين، ولا يعلنون نيتهم الحاق الأذى ولكن النية موجودة وتشير اليها حتى تقارير المخابرات الإسرائيلية.
ـ ولكن هؤلاء الذين قادوا الدعوة لاقتحام الحرم ليسوا مئة وانما تيار كامل داخل المجتمع الإسرائيلي، فهناك 11 منظمة تدعو لهدم الأقصى واعادة بناء الهيكل ويدعمها اعضاء كنيست ومتطرفون تضمهم حكومة شارون؟

ـ بالطبع، هذا صحيح، ألم يقتحم شارون نفسه الحرم القدسي الشريف؟ وقد لعب هذا الدور حين لزم ان يلعبه. ولكن الحقيقة الماثلة والمستمرة هي وجود سيادة إسرائيلية على الحرم القدسي الشريف. هذه السيادة تمارس يوميا من دون ان تعبأ بذلك لجنة القدس في المؤتمر الاسلامي ومن دون ان يعبأ الرأي العام العربي.

هناك نزعة لدى فئات من المجتمع الإسرائيلي لفتح الحرم القدسي الشريف في البداية امام سياح يهود، وقد كان مفتوحاً قبل الانتفاضة شأنه شأن أي معلم سياحي اسلامي في آسيا الوسطى يزوره السياح، او في أي مكان في العالم، ولا بد من التساؤل: كيف يسمح بالسياحة ولا يسمح للمصلين بالوصول الى مكان هو في الواقع مسجد؟

ليس هذا هوالموضوع، التيارات التي تتحدث عنها تريد السماح لليهود بالصعود الى الحرم كخطوة اولى، ولكن الخطوة الثانية هي اقامة الصلاة هناك، والأخيرة لابد ان يتبعها مع الوقت اقامة مرافق للصلاة وبالتالي تقاسم الحرم القدسي الشريف كما حدث في الحرم الابراهيمي، وبرأيي هذا هو المخطط.

اذا كان هناك مخطط للتيار المركزي في المجتمع الإسرائيلي، فهو يرى وجوب عدم التسليم بأن الأقصى للمسلمين فقط. ويجب ان نلاحظ ان ما حدث من تقسيم الحرم الابراهيمي حدث في ايام حكومة رابين وليس في أيام رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق مناحيم بيغين أو شارون أو في فترات تطرف وما الى ذلك.

لايزال هذا التوجه قائماً، واذا تمكنوا من ذلك سيفعلونه. وما يمنعهم هو أنهم لا يستطيعون، فبحسن تقديرهم سيثير هذا المسعى الاجرامي رد فعل هائلاً. لذلك لا بأس بمظاهر التضامن العربية التي ظهرت يوم العاشر من هذه الشهر، ابريل، ولا بد من توسيعها ولكن لا ينبغي ان يكون ذلك عملاً موسمياً، فرد الفعل يحدث لدى الاقتحامات ثم يهبط، وفي فترة الهبوط، لا يعير احد اهتماماً لما تفعله إسرائيل.

يجب ان يتوفر لهذا العمل نوع من الثبات والتواصل والاستمرارية في مقاومة أي تهويد للحرم القدسي الشريف. لا انكر ان هناك تيارات عربية واسلامية تستخدم الرموز الدينية ومن بينها الحرم القدسي الشريف من اجل التعبئة والتحشيد لصالح شعبيتها هي، وربما كان هذا من حقها بالمفهوم الحزبي، لا أدري، فإسرائيل هي التي تقوم بالاستفزاز.

ـ في رأيك هل كان رد الفعل على التهديد باقتحام الاقصى كافياً؟ وكيف استفاد شارون من ذلك لدى زيارته للولايات المتحدة؟

ـ شارون استفاد، فالذي اقتحم الاقصى من قبل معززاً بحشود أمنية هو نفسه الذي اخذ علامات اجادة بسبب منعه لهؤلاء المتطرفين، علما بأنهم كل سنة في هذا الموعد يمنعون الناس من الصعود الى الحرم، ورغم ان ريفافاه (وتعني جيش من عشرة آلاف بالعبرية القديمة) تنظيم جديد، الا ان هناك منظمات قديمة تفعل الشيء نفسه في كل عام، أي تحاول تنظيم مسيرة للصعود الى الحرم للصلاة، مثل منظمة أمناء جبل الهيكل.

ليس رد الفعل الموسمي ما يفترض أن نبحث عنه. فالأكثر اهمية برأيي هو المقاومة الدائمة والمستمرة لعملية تهويد القدس، وهذا لا يحدث اطلاقاً. فحتى كنوع من رد الفعل لا توجد خطة عربية واضحة تنظم ردود الفعل حتى على محاولات اصحاب الملايين في الولايات المتحدة شراء املاك في القدس لصالح منظمات يهودية متطرفة، هذا وحده جزء بسيط ولكنه اساسي، فما عدا منطقة ما يسمونه اليوم بالحي اليهودي، معظم بيوت البلدة القديمة التي تم الاستيلاء عليها، تم الاستيلاء عليها بهذا الشكل، اضافة الى المناطق المحيطة بالحرم.

وهذا وحده يحتاج الى جهد ليس كبيراً للرد عليه. ففي الجزء الشرقي من القدس وحده اصبحت تستوطن غالبية يهودية. والاحياء العربية اصبحت محاطة بأحياء يهودية، وهناك عمليات شراء داخل الاحياء العربية وعندما تدخل مجموعة مستوطنين حيا عربيا فإن ما يحدث يشبه مسمار جحا. فالجيش يأتي لحمايتهم وتتحول حياة كل من حولهم الى جحيم، ويجعلون العرب يسأمون الحياة في الحي.


ـ ما الذي كان بالامكان فعله عربياً لمواجهة ذلك؟

ـ كان بالامكان فعل الكثير مما لم يتم فعله، فأنت تقاوم خصماً مصمماً يخطط ويفرض بالقانون الإسرائيلي ما يريد، من نوع سحب هويات المقدسيين وهدم المنازل التي يطلق عليها غير قانونية، ومنها ما بني قبل ان يضعوا خططهم، فحسب الخطط يفترضون ان المنازل لا ينبغي ان تكون موجودة في مواضعها ولذلك تصدر أوامر بهدمها، كما حدث لكل منازل التلة الفرنسية التي توجد بها الجامعة العبرية، فهي وفقا لخططهم يجب الا تكون هناك.

وانت تحتاج الى ان تدافع عن بيت فبيت وهذه عملية مضنية، اذ يجر أصحابها للمحاكم ويجبرون على الحديث بلغة إسرائيل القانونية، وعلى ملعبها، وفي هذا خسارة مؤكدة.


ـ ولكن هناك ارقام تؤكد ان الجدار صنع غالبية عربية داخل القدس؟

ـ نعم، بعد الجدار زاد عدد السكان العرب في المدينة لأن الكثير من حملة الهوية المقدسية عادوا إلى القدس لئلا يكونوا شرق الجدار، وتقطع عليهم طريق العودة، فعدد السكان العرب لم يتغير، بل ظلوا كما هم لكنهم نقلوا أماكن سكناهم من المدن الفلسطينية الأخرى، ولكن مع الوقت سوف تصبح حياتهم مستحيلة، وتدفعهم الى العمل خارج البلاد لعدم وجود فرص عمل في القدس وقطعها عن سوقها الحقيقي في الضفة الغربية، واذا ما خرج شخص للعمل بالخارج لفترة كما يحدث في دول العالم الثالث فإنه سيفقد بطاقة هويته، أي إقامته.

والذهن الإسرائيلي يتفتق باستمرار عن أفكار من هذا النوع. وهم في حالة بحث مستمر عن وسائل تقليل عدد المواطنين العرب في القدس، سواء بالاستيلاء على الأملاك أو بالتضييق عليهم في رخص البناء، أو برفع أسعار العقارات بشكل مهول، بحيث يصعب حتى على من هو مثلي استئجار بيت، وأنا أتحدث عن تجربة شخصية، ولا توجد نسبة بين المداخيل في القدس وبين سعر العقارات نتيجة لهذه السياسة.

ـ من المسؤول عن حماية المقدسات الدينية في القدس الشريف؟

ـ من ناحية القانون الدولي، إسرائيل كدولة محتلة (خلافاً لما تعتقده هي) تعتبر حماية المقدسات أحدى مسؤولياتها. وأي ضرر يلحق بها هي مسؤولة عنه، ليس ذلك اعترافا بالسيادة الإسرائيلية ولكنها قوة احتلال، وهي كذلك مسؤولة عن ضمان حرية العبادة وهي لا تضمن وصول المسلمين الى أماكن العبادة.

وأحد معالم القدس الشهيرة كان الاحتفال بأحد الشعانين وسبت النور قبل الفصح بيوم واحد، وهو احتفال فلكلوري كانت تمتزج فيه الاهازيج الشعبية الفلسطينية بطقوس المسيحية الشرقية، وكان احتفالا كرنفاليا يذكر باحتفاليات اميركا اللاتينية. وخلال الاحتفال كان مسيحيو منطقة القدس يتدفقون من بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور وجفنا، وقرى منطقة رام الله الى القدس في مسيرات تعطي طابعاً للقدس القديمة، مثل هذا الاحتفال انتهى، وقضت إسرائيل على طقس تاريخي كامل.

الشيء نفسه با لنسبة للمسلمين إذ كانوا يتدفقون على المدينة للاحتفال بالاسراء والمعراج، وكان لا يوجد موطيء قدم في باحات الأقصى خلاله، اذ كان الناس يصلون في الشارع مضطرين. إسرائيل لا تؤمن حرية العبادة ولا حرية وصول المصلين.



ـ هل تعتقد ان تكرار محاولة اقتحام الاقصى في 9 مايو المقبل يمكن أن يفجر انتفاضة ثالثة؟ ويكسر بذلك حالة التهدئة؟

ـ بالنسبة للهدنة او التهدئة واضح انه تجري في ظلها ممارسات إسرائيلية كثيرة. اهمها توسيع المستوطنات، والطرف الفلسطيني يبدو مكتفيا بما يسمى عملية السلام، فيما يغير الإسرائيليون الحقائق على الارض عبر استقرار فكرة ان فك الارتباط في غزة يعني زيادة وتكثيف الاستيطان في الضفة الغربية.

خطة فك الارتباط التي وصلتنا في الكنيست تتضمن ذلك صراحة، فأحد بنودها يقول إن من أهداف الخطة توسيع الاستيطان في الضفة. هكذا وضعت امامنا، كذلك فإن رسالة الضمانات من بوش الى شارون تمثل جزءاً من الخطة، لكن العرب يتجاهلون ذلك، غير هذا كله يجري فعلا توسيع الاستيطان واقتراح باقامة 3400 وحدة سكنية في معاليه أدوميم.تصل مستوطنات شمال شرق القدس بمستوطنات شمال غرب القدس وتطوق القدس العربية تماما.

وفك الارتباط زائد الهدنة يعني ان إسرائيل لن تتعرض الى ضغط اميركي في هذه المرحلة. لأنه اولاً توجد هدنة و«لا يوجد مشاكل» بلغتهم، وثانيا برأي الأميركيين والاتحاد الاوروبي واللجنة الرباعية ان اللعبة الاساسية هي فك الارتباط ويجب عدم المس بها الآن، وعدم إزعاج شارون على مستوى رأيه العام الداخلي في هذه المرحلة بما في ذلك عدم اثارة قضايا الاستيطان في الضفة.

طبعاً هذا يتطلب ان يقدم جورج بوش وكوندوليزا رايس بضريبة كلامية للعرب. والأخيرة تبدو حادة اللسان ولكنها غير مستقيمة، فقد يكون حاد اللسان غير مستقيم ايضا. واقع الحال يقول إن هذه ضريبة شفوية للرأي العام العربي ولكن لن يمارس ضغط على الإسرائيليين في سنة فك الارتباط.

هناك حالة سهلة لا يحتاج فيها الاميركيون للضغط وهي النقاط الاستيطانية غير القانونية (بموجب القانون الإسرائيلي نفسه) وهذه اصلا تشكل ازعاجاً حقيقياً لأي حكومة إسرائيلية من كل النواحي لأنها بؤر خطرة جداً وتضم مهووسين يأتون من الولايات المتحدة ويتحولون إلى عنصر ازعاج بمفهوم الأمن الإسرائيلي نفسه. ولذلك لا تحتاج إسرائيل إلى ضغط كبير لإزالة نقاط الاستيطان، ولكن حتى هذه لن تزيلها في فترة فك الارتباط حسب اعتقادي.

بالنسبة لموضوع الاقصى باعتباره شرارة تفجر الانتفاضة، أود ان اذكر بأن الانتفاضة الاولى لم تتفجر في الاقصى وإنما في جباليا بقطاع غزة، وأدت الى تأسيس القيادة الوطنية الموحدة مباشرة مع انفجارها، ثم حركة حماس بعد ثلاثة اشهر من اشتعالها لأن الشباب احسوا بالحاجة الى تنظيم انفسهم.

ودخول شارون الى المسجد لو لم يكن هناك نية سياسية في تلك المرحلة وهدف سياسي وجاهزية جماهيرية لما ادى اقتحام شارون بذاته الى تفجير انتفاضة. فحتى حرق المسجد الاقصى لم يسبب انتفاضة، عندما لم تتوفر القوى التي تريد تنظيم انتفاضة، فإذا لم يكن الهدف السياسي والمقصد لدى قوى سياسية، فنعم يمكن ان يمر ذلك بدون انتفاضة، والانتفاضة لا تتفجر عفويا وان حدث ذلك لا يمكن الحفاظ على استمراريتها عفويا.

السلطة الفلسطينية كانت قد حشرت في كامب ديفيد وكانت بحاجة الى دعم شعبي للوقوف في مواجهة الضغط الأميركي والضغط العربي، فكان تفجر انتفاضة الاقصى.


ـ يبدو مشهد الهدنة وكأنه التقاط للأنفاس، ولكن الا يفترض ان الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني قد انهكا واقتنعا ان العنف المتبادل لن يقود الى حل، فالعمليات الاستشهادية الفلسطينية لم تجعل الفلسطينيين يحصلون على شيء، كما أن شارون استخدم كل ما هو متاح من أسلحة دون ان يحصل على الأمن.

ـ يتم تعميم مزاج من نوع كهذا، ففي السنة الأخيرة من مرحلة ياسر عرفات التي حدثت فيها الحرب على العراق والحصار الشديد على حركة التحرر الوطني بعد احداث 11 سبتمبر، وسياق الاغتيالات المنهجية تجاه قيادات الحركة الاسلامية والتي لم يقف في وجهها أحد.

منذ ذلك الحين تجلى تيار فلسطيني يبحث بشكل سافر عن نماذج من نوع وثيقة جنيف ويروج لفكرة ان استمرار الانتفاضة والعمل المسلح لا يجديان، هذا المزاج لايزال موجوداً، وإذا أراد من لديه القرار السياسي ان يأخذ منحى معيناً في العمل السياسي يستطيع ان يستخدم هذا المزاج في سياق التبرير، كما يستطيع ان يغيره، فهذا المزاج بعيد عن أن يكون مزاج الغالبية ولا حتى بين القوى السياسية المنظمة في إطار السلطة.


ـ هل هذا المزاج أيضاً موجود على الجانب الآخر في الطرف الإسرائيلي؟

ـ في الحالة الإسرائيلية، هذا المزاج ينشر بنجاح أقل، لأن شارون يستطيع ان يقدم سياسته التي تتضمن استخدام القوة كسبب للنجاح. فشارون ليس فقط استقبل عربياً كرجل سلام بعد ان كان العرب يعتبون على بلجيكا أنها لم تحاكمه، بل قبلت أموراً لم تكن مقبولة في السابق كالتهدئة من طرف واحد والاستعداد للتعامل مع خطة إسرائيلية (من انتاج واخراج إسرائيلي) وكأنها عملية سلام، ويتم التعامل معها وكأن العرب طرف فيها وتعقد حولها مؤتمرات.

بهذا يمكن لشارون ان يتوجه للمجتمع الإسرائيلي ويقول أنا قلت لكم ان القضية قضية صمود واستخدام صحيح لعنصر القوة العسكرية، وهذه هي النتائج.

خذ مثلاً موضوع اصراره على محاصرة عرفات كل هذه الفترة رغم التحذيرات المستمرة بأن هذا سيؤدي إلى كوارث، فقد حوصر عرفات واستشهد تحت الحصار ولم يحدث شيء. لذلك يتجه شارون للإسرائيليين ومعه ايصالات بأن سياسته قد أتت بنتائجها، كما انه ليس الطرف الذي خفف استخدام القوة ومعسكر شارون الحالي يشمل أوساطاً من حزب العمل.


ـ وماذا عن تصريحات ياتوم الذي اخترع دفاعاً عن شارون إمكانية تنفيذ انقلاب عسكري يميني؟

ـ لم يكتف تيار حزب العمل الذي كان يطرح سياسة شارون كسياسة كارثية، لم يكتف بالانضمام إلى شارون وإنما أصبح بمثابة قوات دفاع أمامية في خدمته. أحد الأسباب الأساسية لذلك ان حزب العمل يعيش مأزقاً تاريخياً وليس لديه بديل يطرحه إطلاقاً، وايهود باراك جرهم إلى وضع جعلهم بلا بديل يطرحونه أمام شارون، لذلك أصبح شارون هو خيارهم الوحيد، لذلك يدافعون عنه أمام اليمين، وهذا تجلى اخيراً في نقاشات داخل الكنيست.

فقد تبنى أعضاء حزب العمل ميزانية أمضوا السنة الماضية كلها وهم يهاجمونها، ودافعوا بذلك عن شارون ضد أوساط حزبه هو. ودعم حزب العمل لشارون ليس دليلاً على أن شارون أصبح أكثر اعتدالاً، بل هو ناجم عن المأزق التاريخي الذي يعيشه.


ـ إذن ليس هناك مشاريع أخرى غير مشروع شارون على الساحة الإسرائيلية وعلى الساحة العربية أيضاً؟

ـ إسرائيلياً هناك مشروعان، مشروع شارون ومشروع اليمين المتطرف، الذي لا يستحق ان يسمى مشروعا لأنه لا يدعو الا لاستمرار الوضع القائم بانتظار أن تسنح فرصة ترانسفير ضد العرب او التأثير باتجاه هجرتهم التدريجية. للمرة الأولى تختزل كل القوى السياسية الإسرائيلية لتدعم هذا التيار اليميني أو ذاك التيار اليميني أي أن الصراع في المجتمع الإسرائيلي اختزل إلى صراع داخل الليكود، أو داخل اليمين. أما أين ذهبت وثيقة جنيف وغيرها، فما عليك ان تسأل الى القيادات العربية التي شجعت عليها، وعلى مثيلاتها، ولم تسمع لنا.


ـ بما انه ليست هناك غير مشاريع من طرف واحد، هل يعني ذلك اقتراب ساعة الحسم في ما يتعلق بالحل الدائم؟

ـ في مرحلة من المراحل نعم، إذا كان هنالك من يدفع باتجاه وبعقلية الحل، إذا كان من يتعامل باللغة الأميركية في تعريف الصراع بأنه «مشكلة تحتاج إلى حل»، ولا أذكر قضية استعمارية أخرى استخدم فيها هذا المصطلح، فلم يسم أحد استعمار الجزائر أو الهند بالمشكلة الجزائرية أو المسألة الهندية.

كأن الموضوع هو اشكال، معضلة، مشكلة يحتاج إلى حل، أو الى إبداع نماذج حلول. وغالبية العرب الآن تفكر بهذه الطريقة الكارثية، وبالتالي يصبح الموضوع ان تبدع أشكالاً من الحلول ومن روجرز إلى اليوم، طرح عشرون حلاً ولم يتحقق أي منها. وما زالت صناعة التعايش والحلول ومن يعتاش منها تنجب حلولا وتقارير بانتظار المعادلة السحرية. لماذا لم يطبق أي منها؟

ولماذا نشهد تطبيقاً اسرائيلياً لافكار من طرف واحد رغم كل هذه المبادرات، ومشاريع الحلول؟ لأن هذا تفكير خاطيء، فالمسألة ليست معضلة تحتاج الى مشروع حل. وإذا ساد هذا النهج في التفكير، لا بد ان تتجه الأمور اما لقبول الاملاءات الإسرائيلية ـ الأميركية تحت سقف رسالة الضمانات من بوش إلى شارون وهي التفسير الوحيد لخريطة الطريق التي تمسك بها العرب، أو لفرض الأفكار الإسرائيلية من طرف واحد.

فحل خريطة الطريق تحول إلى مطلب عربي، وصاحب خريطة الطريق وهو بوش أرسل رسالة لشارون يوضح فيها ماذا يقصد ويتبنى فيها الموقف الإسرائيلي من الحل الدائم.

هذا أيضاً سيضع العرب أمام عدم القدرة على قبول كل ما يسمى اقتراحات حلول. لأن أي «مشروع حل» يترجم بموازين القوى لصالح الإسرائيليين. عندها تضطر القيادة الفلسطينية أو القوى الفلسطينية الفاعلة القادرة على صنع القرار إلى قبول الاملاءات الإسرائيلية أو الدخول في صراع من جديد.

وأنا أقول لكم إن الإملاء الحالي هو محاولة إجبار القيادة الفلسطينية بعد فك الارتباط قبول مرحلة انتقالية طويلة المدى تتضمن دولة، وتنفيذ التزام خريطة الطريق بـ «تفكيك البنى التحتية للإرهاب بلغتهم»، أي الدخول في حرب أهلية، وقد تجنبت القيادة الفلسطينية كلا الاملاءين حتى الآن. ولو قبلت الدولة كمرحلة انتقالية من دون حق العودة ودون انهاء مسألة الحدود والاستيطانات والقدس، فسوف تتحول الى دولة كحل دائم، وقضية اللاجئين تصبح مسألة مغتربين وبقية القضايا تتحول الى نزاع حدودي بين دولتين يوجد مثله حتى بين دول عربية.

وقبول الاملاءات حالة وهمية لأنها ستؤدي إلى صراعات داخل السياحة الفلسطينية، ومهما كانت القوى المعارضة ضعيفة ستفتقر هذه الحلول إلى الشرعية، نقول ذلك رغم إدراكنا لوجود تيار فلسطيني جدي يدفع في اتجاه قبول ما لم يتم قبوله في كامب ديفيد بتفسيرات أسوأ وتحت سقف رسالة الضمانات من بوش إلى شارون.

ـ ولكن هنالك صراعات داخل حركة «فتح» المؤهلة لأن تتخذ مثل هذا القرار؟

ـ هناك صراعات تأخذ أشكالاً، ولكن بعض مصادرها شخصية ووظيفية متعلقة بالاستفادة من وضع ما، وهذه ليست صراعات سياسية حقيقية وإنما دلائل أزمة معنوية حقيقية ناجمة عن ترك مواقع حركة التحرر الوطني. فهنالك انسحاب من موقع حركة التحرر، وهذا يخلق صراعات على الوظيفة ومن يصبح وزيراً أو نائب وزير وأنا لا علاقة لي بالكلام عن هذا النوع من الصراعات، أما سياسياً فهناك برأيي تيار كبير نسبياً يقول إنه يجب القبول بشكل من أشكال أفكار كامب ديفيد أو طابا، ويجد صراعاً سياسياً حقيقياً مع هذا التيار داخل وخارج فتح، ولكن في داخل فتح تختلط الاجندات الشخصية والطموحات الفردية مع الأجندات السياسية.


ـ ولكن حجمه ليس كبيراً؟

ـ أنا أتحدث عن أوساط في القيادة السياسية لحركة فتح وحولها، . وليس عن كتائب الأقصى ولا عن الأفراد الذين وقعوا وثيقة جنيف، فهؤلاء تعبير عن حالة تكاد تكون ملتزمة فكريا، وفي حالة كتائب الأقصى هنالك حالة نضالية، ويختلط فيها التهميش السياسي بالتهميش الاجتماعي.


ـ والحرس القديم؟

ـ وأين الحرس الجديد؟


ـ عدد من أعضاء المجلس التشريعي الجدد من أوساط فتح الداخل؟

ـ هؤلاء ما هو خطهم؟ جزء منهم كان في جنيف.


ـ أبومازن؟

ـ لا، أبومازن انتقد جنيف، وطرحه برأيي متماسك أكثر من جنيف، فهو على الأقل يعارض أي تنازل قبل مفاوضات الحل الدائم، ويعتبر المراحل النمتقالية مناسبة للأخذ لا للعطاء، وهناك وهم بأن الشباب أكثر صمودا، ووهم آخر ان من كان في الداخل هو أكثر صمودا. وهذه التعميمات ليست صحيحة، وفي بعض القضايا يصمد جماعة الخارج أكثر من جماعة الداخل.


ـ ولكن هذا التيار لا رصيد له في الشارع؟

ـ على أي أساس يمكننا ان نحكم بذلك، هل على أساس انتشار ظاهرة الاستطلاعات وكأننا نعيش في فنلندا؟ هذه الاستطلاعات تصمم مسبقاً، أليست هي الاستطلاعات التي كانت تعطي أبومازن 3 في المئة ومع ذلك فاز بالانتخابات الرئاسية؟

نحن نتحدث عن ديناميكية سياسية على ساحة قد تلعب فيها العوامل الخارجية في مراحل معينة دوراً أقوى من العوامل الداخلية دور مصر ـ الأردن ـ إسرائيل ـ أميركا، نسبة القمع الاحتلالي، تحقيق منجزات في النضال، الوضع العربي .

كلها تلعب دورا، . هذا يختلف عن قضية المزاج وما إذا كان يلقى الاعجاب أم لا، فالمزاج السياسي يختلف عندما تتحرك الماكينة الإعلامية وماكينة توزيع الوعود، والتخويف والتأميل، وخاصة عندما تتحرك ووراءها دول وتمويل وتكون قادرة على الوصول لكل مواطن، ولا تزال الماكينة الأساسية ممثلة في السلطة فهي صاحبة المشروع السياسي، وحولها دول توفر لها الدعم.

وهناك مقاومة للمشروع العنصر الأساسي فيه الحركات الاسلامية.


ـ ومنظمة التحرير الفلسطينية وتيار فاروق قدومي؟

ـ منظمة التحرير كنت أطالب بالحفاظ عليها منذ توقيع اتفاق أوسلو، كما طالبت بفصلها عن السلطة خاصة في ما يتعلق بمهمات الشتات وحركة التحرر، وضروة انضمام حماس إليها، ولو حدث ذلك لضمن أن هناك منظمة تحرير تختلف عن السلطة وتقدم شيئاً مخالفاً لأوسلو، فالسلطة نتاج اوسلو، . منظمة التحرير هي نفسها من وقعت أوسلو، وتوقيعها هو ما أوجد السلطة الفلسطينية، ويفترض ان تكون لديها نشاطات أخرى اضافية.

هناك غياب استراتيجية موحدة وغياب للحركات المعارضة داخل المجلس التشريعي الذي يمثل العنوان القانوني أمام العالم، ومقاطعتها للانتخابات السابقة، أي الاولى، كان خطأ. هذا الغياب همش مشروع المعارضة السياسي. وزاد من اعتمادها على العمليات المسلحة، ليس كوسيلة في خدمة مشروع سياسي، وباتت تؤدي ما هو أبعد من غرضها.

أنا أتكلم عما هو موجود وليس عما هو مرغوب، ما هو مرغوب هو أن تخضع وسائل النضال لمصلحة النضال وحدها. وأن تدخل الفصائل في منظمة التحرير الفلسطينية فوجودها فيه ضمان لأن هذا الشخص او ذاك، مهما كان تاريخه ناصعا، وحده ليس ضماناً، وكذلك أن تدخل انتخابات المجلس التشريعي، هذا يصنع عناوين سياسية لحركات يراها الغرب إرهابية.

وأنا أود أن أرى أوروبا كيف تتعامل مع أعضاء مجلس تشريعي منتخبين من حماس، وهذا يضمن صوتاً سياسياً داخل المجلس التشريعي لضبط العملية التفاوضية في ما يتعلق بالحل الدائم، ساعتها تقول إن هناك صراعاً سياسياً بين مشروعين مختلفين وليس أن يقول أحدهما هذا مشروعي ويكتفي الآخر بالرفض هذا لم يتم حتى الآن، وإذا تم يكون شيئاً جيداً.

الأمر نفسه بالنسبة للهدنة، لو كانت هناك استراتيجية موحدة وترشيد لوسائل النضال (وقف ما يضر والاستمرار في المقاومة التي تفيد) لما وصلت المنظمات الفلسطينية إلى هذا الوضع المربك والمحرج، ولما تمكنت إسرائيل من بناء الجدار بحجة الأمن. ،اقول حجة الأمن لأن هدف الجدار لا علاقة له بهذه الحجة.

ـ أنت من اقترحت مصطلح اللاشامية، سوريا إلى أين هي ذاهبة في الفترة المقبلة؟

ـ هناك فرق أيضاً بين الموجود والمأمول، بالموجود الوضع صعب جداً، وهناك تضييق على سوريا، إذ أصبحت تتحكم في صياغة السياسة الأميركية تجاهها ورقة قدمها نتانياهو عام 1996 بعنوان «قطع نظيف» وهي تنفذ الآن بحذافيرها، لدرجة أن الورقة تخضع الموضوع العراقي لصالح الموضوع السوري فقد أوصت الورقة بتسخير اللوبي الصهيوني في الكونغرس لإقناع الأميركيين بضرورة شن حرب على العراق لأن هذا يفيد في المعركة ضد سوريا.

كذلك تضمنت كلاماً عن دور دول عربية ضد سوريا أصبح وكأنه ينفذ حرفياً، فالتوجه الذي انتصر في الإدارة الأميركية هو مع التضييق على سوريا، الى درجة التدخل ضد نظام الحكم فيها، ان لم يكن بالحرب فبوسائل أخرى.


ـ هل تتوقع تدخلاً عسكرياً أميركياً ضد سوريا؟

ـ لا يوجد مبرر أمام الولايات المتحدة للتدخل عسكرياً ضد سوريا حتى بالمنطق الأميركي، كما لا توجد خلفيات تتيح ذلك.


ـ ألا يمكن أن تختلق أميركا أية مزاعم مثل اغتيال الحريري مثلاً كما اختلقت مبررات ثبت كذبها في العراق؟

ـ حتى هذه المزاعم لا تقود إلى تدخل عسكري، فلا أرى أي مبرر يدفع الولايات المتحدة إلى إرسال جيوش لاحتلال سوريا، وهناك خيارات أخرى.

التيار الذي يرى ضرورة التخلص من سوريا الحالية من جوانب عديدة، يقترح خنق النظام السوري وعدم مساعدته، ولا حتى في دخول مفاوضات مع إسرائيل كما رغبت الإدارة السابقة وأفشلتها إسرائيل، أو إعطائه أي شيء يمكن أن يقويه، ولكن في نفس الوقت لا يمكن لهذا التيار الدفاع عن التدخل عسكرياً ضده، وهنالك ساحات أخرى من بينها تشجيع خصوم النظام للاستقواء عليه، وهناك خصوم داخليون وخارجيون ومن الواضح أن هذه العملية قد بدأت.

فالأزمة الموجودة مع لبنان في السنوات الخمس الأخيرة لم تشهد شيئاً جديداً، الانتقادات على السياسة السورية وحلفائها في لبنان معروفة وجزء كبير منها مشروع وصحيح. والمتغير الأساسي الكبير هو الوجود الأميركي في المنطقة والذي مكن من قرارات مثل 1559 وشعور المعارضين بأن هامش حرية تحرك سوريا ضدهم صار أقل بكثير، ولا يوجد تفسير آخر لتحول فئة من الساسة اللبنانيين من التحالف الكامل وحتى التبعية لسوريا الى مهاجمتها علنا.

وأنا لا أطرق موضوعات النقد، فجزء كبير منها صحيح، ولكن هذا ليس الموضوع في هذه الحالة. ابحث عن الانتهازي تعرف اين تهب الريح. هنالك من يحاول أن يشجع خصوم سوريا، لأسباب صحيحة أو لتجنٍ ظالم، باعتبار أنها ليست بالحرية التي كانت، لذلك فأي خطوة براجماتية من قبل سوريا لا تستقبل ولا حتى بكلمة إيجابية، وهناك محاولة مغرضة لإظهار أي شيء تقوم به سوريا كأنه غير كافٍ وينم عن ضعف، وبالتالي يشجع على طلب المزيد في عملية تبدو وكأنها لا تنتهي.

بكل المعاني هذا وضع صعب يحتاج إلى توازن دقيق وموازنة حكيمة جداً بين فعل الشيء الصحيح وعدم الامتناع عن فعله لئلا يفسر على أنه ضعف وتراجع، وهذا الأمر يحتاج إلى كثير من الحكمة والثقة بالنفس، ويفترض ان تكون سوريا مقبلة على تغييرات في شهر يونيو المقبل.

ولا أدري كم ستكون عميقة، لكن لا يوجد أمام السوريين بديل غير الركض للأمام عبر تشجيع سياسة الإصلاحات خاصة في الموضوع الإداري والاقتصادي وإجراء إصلاحات حقوقية وسياسية يجب أن تكون بعيدة المدى، والتوجه إلى الشعب السوري لأن هذا هو العمق الاستراتيجي الحقيقي، ورفض السياسة الطائفية لأن مقتل الحركة الوطنية ومقتل الحداثة في المشرق العربي هو القضية الطائفية.

لذلك أيضاً أعتبر أن هناك كارثة حقيقية أن نصل للكلام عن وضع طائفي في العراق بهذا العمق، فقد كانت في السابق موجودة لكن على الهامش وليس كهوية سياسية أساسية للإنسان العراقي، هذا شيء غير معقول أن تفرض بالحرب عقلية فيدرالية بمضمون ما قبل وطني، ما قبل قومي، ما قبل الدولة الذي هو الطائفي، الفيدراليات الديمقراطية تبنى على المواطنة الواحدة، وعلى الأقاليم ولا تبنى على الطائفة. هذا مسار يقود بعيدا عن الديمقراطية.


ـ هل هذا يمثل عقداً اجتماعياً بدائياً يتم تطبيقه في المنطقة؟

ـ لا، حتى العقد الاجتماعي البدائي افترض بين أفراد لبناء دولة وليس بين طوائف ولا عشائر، وإنما بين مواطنين أفراد لإقامة نظام غير ديمقراطي ، دولة مطلقة في البداية عند هوبس مثلا، الدولة الحديثة بداية هي الملكية المطلقة التي كانت، الآن هم يعيدونا إلى ما قبل ذلك.

فالحديث عن طوائف سياسية، طائفية سياسية لا يتناقض مع الديمقراطية فحسب بل مع كيانات الدول، لأنه أصبح مطلوباً من الحزب الشيعي أو الدرزي أو المسيحي على سبيل المثال ألا يتحدث عن مصلحة الدولة ككل وإنما عن مصلحة طائفية والذي يتحدث باسم لبنان ككل هو أميركا، والتوجه الأميركي هو هذا.


ـ ولكن أميركا تتحدث عن حكم الأكثريات؟

ـ ليست الأكثريات السياسية وإنما الأكثريات الطائفية، ففي كل الديمقراطيات تحكم الأكثرية وإنما أكثرية على الموقف أو البرنامج السياسي أو الفكر، وحتى الحزب الذي يحصل على 2 في المئة من الأصوات، فمن أين تأتي شرعيته إلا من انه يمثل البلد كلها. ولذلك هو حزب ديمقراطي، فمهما كان أنصاره قليلين إلا أنه يعتقد ان برنامجه هو مستقبل البلد الذي ينشط فيه.

وهناك حزب يحصل على 40 في المئة أو حتى 50 في المئة ولكنه مجبر على أن يمثل فقط مصلحة هذه النسبة، أي مصلحة طائفته فقط، ولا علاقة له بمجمل البلد، وهذا يتناقض مع مفهوم الدولة وليس مفهوم الديمقراطية وحده. على فكرة، من ناحية الديمقراطية كمفهوم حزب الـ 2 في المئة أقرب الى تمثيلها من حزب ال 40 في المئة لأن الأول ينطلق من رأي لصالح المجتمع ككل ينافس ديمقراطيا ضد آراء أخرى هذا منطلقها.

وهناك خلط غربي مقصود ما بين التعددية السياسية والتعددية الطائفية مع أنهما أمران مختلفان تماماً. السياسية هي تعددية برامج وأفكار حول مصلحة الدولة ككل وليس فقط مصلحة هذه العشيرة أو تلك الطائفة، هذا فكر ما قبل حداثي يختلط بالحداثة ووسائل اعلامها ووسائل القمع الكامنة فيها والخطاب الحداثي الجماهيري فينجب كوارث، وهم يروجونه باعتباره تعددية وديمقراطية.

إضافة الى ذلك تتضمن الطائفية السياسية اختزال الفرد والمواطن إلى منتمٍ لطائفة.


لعل هذا توجه أميركي، لكن العراقيين ليسوا مرتاحين لهذه المسألة ولا مستسلمين لها، بل يتحلون بوعي تغليب المواطنة على الاعتبار الطائفي؟

ـ طبعا، ولو كانت هناك حياة في المجتمع العربي يفترض أن يرفض هذا، والمجتمع العراقي تعامل معه الأميركيون بمفهوم الصدمة. ولكن الإطار السياسي الذي يقر ينجب تيارات سياسية على صورته ومثاله، والسؤال هو أين الاحزاب الوطنية العراقية، أين المشروع الوطني العراقي الشامل كرد على هذا. سوف يحتاج الأمر الى وقت.

وما يحاولون تسويقه في لبنان رغم أن هناك هوية لبنانية سياسية، وهذه الهوية لسخرية التاريخ تشكلت من أتون الحرب الأهلية، بمعنى أن اضطرار اللبناني العادي أن يدخل في أتون الحرب الأهلية أدى إلى قناعته بضرورة تجنب تكرارها في المستقبل، وصنعت وعياً لبنانياً مشتركاً قائماً على كره الحرب الأهلية، التي صنعت نقيضها في الوعي اللبناني. تحاول أميركا الآن تحويل السنة في لبنان إلى طائفة، وهم نقيض الطوائف، ومحاولة الغمز باتجاه سوريا تعكس تكريس ذلك حتى ولو أدى إلى حرب أهلية جديدة.

وليس هناك أحد في المعارضة اللبنانية يدفع في اتجاه الحرب الأهلية، ولكن هناك طرف اسمه إسرائيل وآخر اسمه أميركا، وهذان يفكران أن هذا هو ما يخلصهما من ارسال قوات على المدى البعيد للتخلص من حزب الله أو من النظام السوري، وهناك سيناريو واضح وصريح للوصول إلى مواجهة، ويتمثل في البند الثاني للقرار 1559 والخاص بنزع حزب الله. ومن وضع هذا البند ليس لديه أي قلق على مصلحة لبنان أو مصيره. ومن ارتكب جريمة اغتيال الحريري ليس لديه أيضاً قلق على مصير لبنان أو مستقبله.

ـ هل هناك خط بياني بين ما يحدث في فلسطين والعراق، وهل هناك أساس أيديولوجي يهودي وآخر عربي للسلام في ضوء هذا الخط البياني الأميركي الواضح؟

ـ لو كان هناك فكر سياسي عربي من النوع الذي تستند إليه دول وأنظمة لكان هنالك منطق في طرح هذا السؤال، ولكن الحديث عن فكر سياسي يحلق في الفراغ دون مشاريع سياسية. ولا حتى من النوع الذي جاهرت أنظمة في أوروبا ما بعد الحرب في غير الدول الشمولية بالاستناد إليه، خذ أمثلة من نوع: ويلي برانت أو أولف بالمه أو حتى توني بلير وجورج بوش. جميعهم جاهروا او يجاهرون بالاستناد الى فكر سياسي من نوع محدد يتضمن أدبيات منشورة.


لو هناك فكر سياسي عربي بهذا المعنى كان يجب أن يطرح هذا السؤال.

هل هناك فيما وراء السياسة الإسرائيلية الرسمية فكر ما يؤسس لسلام عادل مع العرب؟ باعتقادي لا يوجد في الوضع الراهن. هناك رغبة بتسويات طبقاً للمعنى الشاروني للكلمة، تسويات باردة قائمة على توازن القوى والجدار الحديدي على قناعة العرب بأنهم لا يستطيعون هزيمة إسرائيل.

شارون لا يأمن جانب العرب ولا يتوقع منهم لا حسن نية ولا حسن طوية، هو يأمن فقط تصرف العرب كمهزومين. وبرأيه حينما يتذوقون الهزيمة، او يقتنعون بها ينفتح باب أمام مجموعة تسويات على جبهات مختلفة يمكن أن ينتج منها شيء في المستقبل البعيد وليس في هذه الفترة.

والسؤال هل هناك تيار في المؤسسة السياسية الإسرائيلية يرى غير ذلك، أي يرى إمكانية تأسيس سلام فيه إنصاف نسبي وليس عدالة مطلقة، إنصاف من نوع العودة الى حدود الهدنة من عام 1949 المعروفة بحدود 1967 وإزالة المستوطنات، والقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية ومنح حق العودة للاجئين مع البحث حتى في كيفية تطبيقه؟ لا يوجد تيار من هذا النوع في صلب المؤسسة السياسية الإسرائيلية. هنالك أفكار كهذه في المعارضة المهمشة.


ـ أود أن تجيبني عن السؤال من موقعك المزدوج، عربي ومواطن في إسرائيل ؟

السؤال بصيغة أخرى، أمام الاضطرار العربي للسلام مع إسرائيل في ضوء معادلة توازن القوى، هل هناك طرف عربي يستطيع ان يتعامل بندية وأن يؤثر في المدى البعيد في الواقع الإسرائيلي بغض النظر عن القوة النافذة في هذه المرحلة؟

ـ بالنسبة للمواقع المركبة لا علاقة لها، فكل واحد فينا له مواقع عدة، وان لم يكن ذلك لا يكون إنساناً حديثاً، ساهم تركيب المواقع في تشكيل شخصيتي بلا شك، لكن كحالة صراع أولاً وقبل كل شيء، يمكن أن تغني ويمكن أن تشوه.

ـ لم أقصد أمرا سلبيا؟

ـ ولا أنا فسرته كذلك، فالإنسان لا يعيش واقعاً إلا واكتسب منه شيئاً على المستوى الثقافي والحضاري، ويدخل عندك في مجال التشكل شئت أم أبيت، هذا ليس خياري. وفي حالتي هو ساهم بالتشكيل وجعلني في حالة صراع محتدم ويومي، بهذا المعنى يكون جزءاً من واقعي.

ـ في ما يتعلق باستعداد المجتمع الإسرائيلي للسلام إذا كان هناك تجاوب مع اتفاق سلام عربي، هل المجتمع الإسرائيلي قابل للتأثر حتى يقبل بسلام عادل نسبياً؟

ـ هناك تيارات أساسية وكبيرة في المجتمع الإسرائيلي، خاصة في الاقتصاد والثقافة وفي الوسط الأكاديمي والنخب القديمة معنية بسلام، واستقرار ومعنية بأن يعترف العالم العربي بإسرائيل، هذا هدف وقد كان حلم من يسمونهم «الآباء المؤسسين».

هؤلاء الصهاينة الأوائل لم يكونوا من الجنون بحيث يحلمون بالتوسع من النيل إلى الفرات فهذا اختراع سياسي مأخوذ بحرفيته من العهد القديم، إذ إن إسرائيل لم تحلم ولا مرة بأن تتوسع من النيل إلى الفرات، مع أنها تحلم طبعا بأن يتوسع مجال تأثيرها من المغرب إلى باكستان، وقد كان هناك تصريح لشارون يقول فيه حدود إسرائيل الأمنية تمتد من المغرب إلى باكستان. ولكن حلم اعتراف العالم العربي بإسرائيل هو بحد ذاته حلم كبير إذ يمنح وجودها الشرعية.

وهناك خلاف إسرائيلي جدي حول استعداد إسرائيل لدفع ثمن هذا، فمن جاء برابين إلى السلطة في إسرائيل وشكل اللوبي الأساسي لدعمه هم رجال الاقتصاد الذين اعتقدوا ان إسرائيل يجب أن تأخذ فرصتها التاريخية، تستفيد وتبين وتترجم تفوقها العلمي والتكنولوجي الى قوة اقتصادية.

وهذا لا يحدث إلا في حالة سلام واستقرار في اسرائيل، وفعلاً تحققت في مرحلته سنوات كانت فيها نسبة النمو نحو 7 في المئة ولم يسبق لذلك أن تحقق إلا في سنوات إنشاء إسرائيل الأولى والتي شهدت هجرات ضاعفت عدد السكان أحياناً. وفي فترة أوسلو اتضح أن هناك مصلحة اقتصادية حقيقية للمواطن الإسرائيلي في الاستقرار والسلام.

ولكن، ليس هذا نقاشنا، نقاشنا هو على سلام عادل لو قبل العرب سلاماً غير عادل فهذا ممتاز بالنسبة لإسرائيل، إذ تستفيد وتضمن سلامتها ووحدتها الوطنية، فلو أن هناك سلاماً في المنطقة لاستطاعت إسرائيل جذب الكثير من الاستثمارات، لأن هناك أنظمة ملائمة للتصنيع بدرجة عالية، لكن كل يوم يثبت انه ليس هناك نخبة سياسية إسرائيلية جدية قادرة على التوجه للمجتمع الإسرائيلي بالحد الأدنى المطلوب لكي يقبل العرب السلام معهم كحدود 4 يونيو.

ـ هل التوجه للرأي العام الإسرائيلي ومخاطبته يفيد في هذا السياق؟

ـ طبعاً مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي تفيد، لكن هناك فرقاً بين مخاطبة الإسرائيليين وإثارة إعجابهم، إذ انه عندما يبدأ العربي بالتحدث لإسرائيل تتغلب عليه النزعة في إثارة إعجابهم ولو كان هذا على حساب الفلسطينيين وعلى حساب كل شيء من دون التأثير الفعلي على الرأي العام الإسرائيلي بشكل متماسك.


وهذا يؤدي إلى تنازلات من دون تحصيل مكاسب، إذ تتحول إلى حوارات ثم مفاوضات مع أطراف في الرأي العام تؤدي إلى تنازلات عربية لا تقابلها تنازلات في الموقف الإسرائيلي الرسمي، ولا أعرف لماذا يعتقد العرب أن هذا يستحق أن يسمى حواراً مع الرأي العام الإسرائيلي.

هناك حاجة لمخاطبة الرأي العام الإسرائيلي بوسائل عدة لإفهامه مصلحته في تحقيق سلام مع العرب، بمعنى السلام العادل الذي ترفضه حكوماتهم. ولابد لمن يتصدى لذلك أن تكون عنده صدقية. عندما يتحدث في السلام وأيضاً عندما يهدد، إذ يكون قادراً على ترجمة كلماته إلى أفعال.

أما إذا قدم أحد تنازلات للرأي العام الإسرائيلي وكان الأخير غير مؤهل للتحاور والموقف الرسمي غير متغير، فهذا مفيد لإسرائيل. وأنا لا أعتقد أن هناك استراتيجية عربية لا في السلام ولا في التهديد بالحرب، والأمران مترابطان.


ـ ولكن محاولة التأثير قد تفيد، فالمجتمعات الغربية تحكمها لوبيات ينشط فيها يهود، كما أن المجتمع الإسرائيلي أيضاً فيه جماعات ضغط تحكم حركته؟

ـ برأيي حتى القرار الفرنسي أو البريطاني غير مستقل بالكامل. لكن إذا أردنا أن نقيس استقلال القرار الإسرائيلي بأي دولة عربية نجده أكثر استقلالاً، ونحن نجيب على سؤال حول تأثير العرب على إسرائيل.


ـ ولكن هناك أيضاً خصوصية أميركية عربية؟

ـ هذه الخصوصية موجودة، ولكن في اتجاه واحد في الحالة العربية، وإذا كان القصد أن المحاولة العربية للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي غير مجدية ونحاول بدلاً من ذلك أن نؤثر على الرأي العام الأميركي فأنا مستعد أن أقبل هذا. لكن الاعتقاد أن الرأي العام الإسرائيلي مجرد متلقٍ للرأي العام الغربي، وانه ليس هناك شيء آخر يتحكم فيه هذا خطأ، لأن الرأي العام الإسرائيلي هناك مشاغل تستحوذ عليه وتمثل إشكالية خصوصية له، وهناك رسائل تصله، وهناك تأثير مزاجي وسياسي عليه.

وأود أن أعطي مثلاً جديراً بالتأمل على ذلك، فلدي قناعة بأنه حينما انخرطت إسرائيل في مفاوضات أوسلو مع الفلسطينيين كان رأي الإدارة الأميركية أن إنقاذ منظمة التحرير بعدما حدث عام 1982 وحرب الخليج الثانية، حرب الكويت، خطأ، لأن المنظمة برأيها كانت تموت تدريجيا وتفقد كل شيء، فلماذا تمد لها إسرائيل طوق النجاة.

بينما إسرائيل كانت ترى العكس، فمن الناحية الاستراتيجية الأفضل أن يتم إيصال المنظمة إلى هذه الحال وجعلها توقع على مثل هذا الاتفاق.

لذلك فإن مفاوضات أوسلو لم تجر بوساطة أميركية وإنما نروجية، وكان واضحاً أن هناك ارتباكاً أميركياً تجاه ما جرى، معنى ذلك أن العلاقة الأميركية ـ الإسرائيلية ليست باتجاه واحد، فهي مركبة أكثر، وهناك أساس للشيء المسمى مخاطبة الرأي العام الإسرائيلي، طبعاً التأثير في أميركا هو الأكثر أهمية لكنك تحتاج طرفاً مؤهلاً لذلك.


ـ هل تعني أن الطرف العربي غير مؤهل لفعل ذلك؟

ـ أنا أعرف أن هناك طرفاً إسرائيلياً، وإذا حللت بشكل عميق يمكن أن أقول ما هي تركيبته وصراعاته، لكن هل هناك طرف عربي؟ هل هناك طرف عربي واحد ولو كان قابلا للتحليل إلى صراعات وإلى تراكيب؟، لا يمكن حاليا الحديث عن طرف عربي، لا منسجم ولا متناقض، إذا ذهبت إلى أميركا وجدت 20 طرفاً عربياً يتصارعون في موضوع طبيعة العلاقة أو شكلها مع الولايات المتحدة.

المبادرة العربية للسلام كانت شيئاً جيداً، ولو كان هناك سياسة عربية على حلبة السياسة الدولية وحملتها لكان ذلك شيئاً ممتازاً، لكن ماذا حدث؟ طرحت المبادرة، وفي اليوم التالي تحوّلت إلى مناقصة بمعنى أن كل زعيم ذهب إلى أميركا، حاول تفسيرها بشكل يخفض من سقفها أكثر، وحدث تنافس على من يقدم لأميركا تنازلات أكثر أو يجهضها.

تخيل وضع أن هناك طرفاً عربياً يجتهد في ظرف تغيب فيه الرقابة الجماهيرية العربية ويود فتح علاقات مع إسرائيل، أو يريد مخاطبة الرأي العام الاسرائيلي سيجد عشرة يفسرونها كتطبيع ويتنافسون معه في الانفتاح على اسرائيل كأنهم ينتظرون فرصة.

الأمر الأساسي هنا هو ليس غياب استراتيجية لدى الطرف العربي وإنما غياب طرف عربي.

ـ ولكن الشرائح التي كان يمكن مخاطبتها أيضاً في المجتمع الإسرائيلي انحسرت وأصبح الانقسام داخل الليكود؟

ـ معك حق أن الهامش ضاق كثيراً في هذه المرحلة للعمل على الساحة الاسرائيلية، ولكن هل فكر صانع قرار عربي في موضوعين يقودان الاستراتيجية السياسية العربية هما العلاقة مع أميركا والموضوع الفلسطيني على سبيل المثال؟

هل فكرنا مرة أن من الأسهل بكثير على الرأي العام الإسرائيلي أن يقبل حلا شاملاً ودائماً مع العرب من قبول حلول جزئية؟

ورأيي أن العرب لو ذهبوا بحل شامل مع أنه يبدو أصعب إلا أن احتمالته أكبر، بدلاً من عرض مفاوضات على جبهات مختلفة، فالإسرائيلي يفهم الأخيرة على أنها تقديم تنازلات مقابل أشياء غير واضحة أو مفهومه على المدى البعيد لأنه لا يوجد سلام حقيقي مع العرب، في حين لو عرض سلام على كل الجبهات وعرضت تنازلات حقيقية ولكن بمقابل حقيقي، يمكن كسب قلوب الرأي العام الإسرائيلي، لأن التسوية تكون شاملة وتشمل إعادة كل الأراضي العربية وحل قضية اللاجئين بحق العودة، وما يبقى هو صراع ثقافي حضاري وتنافس اقتصادي يحسمه التاريخ.

وللأسف لم يفعل أحد ذلك لأنه ما من ذات عربية تطالب بإعادة الجولان وخطوط 4 يونيو في الضفة الغربية وبعودة اللاجئين مقابل سلام شامل، لو هناك طرف عربي قادر على ذلك لانقلبت المعادلة كلها، وعندها يصبح هناك معنى لمخاطبة الرأي العام، لكن ما يحدث في الواقع من تطبيع وفتح سفارات ورغبة في اقامة علاقات مع تخوف من رد فعل الشعوب، هذه ليست استراتيجيات وإنما ادارة أزمات من نوع رديء، فهناك دول تقول غير ما تضمر طوال الوقت وهذا ليس عملاً سياسياً.

السياسة هي أن يضع الناس برامجهم وتناقش بشكل علني وتنتخب على أساسها، بهذه الطريقة تستطيع أن تكسب صدقية وتؤثر ليس فقط على الرأي العام الإسرائيلي وإنما أيضاً على الرأي العام الأميركي. أما صرف الأموال على الدعاية في مثل هذا الافتقار الى الصدقية فيؤدي إلى سوء صورة العرب أكثر، هل يدرك العرب أن اعلاناتهم في الصحف الأميركية لم تؤد إلى تحسين الصورة؟
ـ ما هي رؤية النخب الإسرائيلية للجدار الفاصل، وكيف يقبلون فكرة العيش في وطن مسيج ونحن في عصر العولمة والانفتاح؟

ـ طبعاً حجتهم المباشرة هي الحجة الأمنية، لكن لا أحد يصدق أن إسرائيل بعقليتها وثقافتها السياسية لها علاقة بالتطورات الكونية، فإسرائيل مثلاً تصبح أكثر يهودية كل يوم وتشدد على الانتماء الطائفي كانتماء قومي، وهذا أمر فريد من نوعه في عصر العولمة.

ومن دون الجدار، فإن هناك مشكلة أساسية في بنية إسرائيل السياسية، إذ لا يمكن على المدى البعيد أن تكون ديمقراطية طالما ظل الانتماء القومي هو الانتماء الديني وبهذا الشكل الشمولي وغير المعقول لا يمكن أن تؤسس دولة حديثة.

حالة الجدار تعكس نزعة انغلاقية إسرائيلية نعم، ولكن بالأساس هناك نزعة أمنية تدوس في طريقها على كل شيء، هذه القناعة الإسرائيلية القائمة على أن كل شيء مسموح به حتى تحقق مفهومها للأمن؟ بما في ذلك أن يدوس الجدار على البيوت والمزارع ونفسيات الناس وعلاقاتهم وقراباتهم، هذه نزعة أمنية قوية نابعة من صلب الثقافة السياسية الإسرائيلية، وإذا كانت القصة هي الأمن فليقوموا بتهجير كل الفلسطينيين وأتساءل كم عملية حدثت في بريطانيا من قبل الجيش الأيرلندي؟ هل خطر في بالها أن تبني سياجاً أو أن تغلق أيرلندا؟ في رأيي النزعة الأمنية لا تبرر.

الأمر الأخير أن نظرية الجدار الحديدي لا تزال قائمة لدى فئات في المجتمع الإسرائيلي بقوة وبقسوة، وتقوم على ادارة الظهر للعرب والوجه لأوروبا، وهذا يعكس فكرة أنهم لا ينتمون للمنطقة ولا يريدون الانتماء إليها ويعتقدون أنهم حتى لو أرادوا الانتماء فلن يقبلهم العرب.

وأثيرت فكرة الجدار الحديدي في شهادة جابوتنسكي أمام اللجنة الملكية عام 1937 ويقول في هذه الشهادة إن رأي حزب العمل (ماباي وغيره) المتلخص في أن العرب سيقبلون بالوجود الإسرائيلي يمثل رأياً عنصرياً، يفترض أنهم بلا كبرياء وطني ولا قومي ولذلك هم يقبلوننا، أما رأي جابوتنسكي فقد كان أن العرب لديهم كرامة وليس ممكنا أن يسكتوا على سلب وطنهم، فبالتالي أن الرهان على السلام معهم رهان خاسر، ويجب أن تعتمد الصهيونية على قوتها فقط وإذا أدركوا أنهم لا يمكنهم هزيمة الصهيونية فسوف يتحاورون معها، وهذه نظرية الجدران وعنوان المقال الجدار الحديدي.

لكن لا ينبغي أيضاً الاستهانة بتيار آخر موجود رأى ما حدث من انفتاح على العرب عام 1994 ورأوا بشكل مفاجيء الامكانات الهائلة التي فتحت دون أن تقدم إسرائيل تنازلات في القضايا الكبرى. في مثل هذه الحالة يكون هذا له أثر السحر على الإسرائيلي المتوسط فكراً، فحلم الإسرائيلي ان يقود سيارته من تل أبيب إلى أوروبا عبر سوريا وتركيا، ولا يريد المنطقة أن تكون عائقاً امام ذلك.

كان «الشرق الأوسط الجديد» بمفهوم بيريس غير مقبول في نظر الكثيرين ليس لأن الإسرائيلي يرفضه، كانت هناك سخرية مرة من بيريز بناء على قناعة مفادها أن العرب لن يقبلوا، وأن هذه أوهام وأتذكر رد اسحاق شامير عليه، والذي قال فيه: العرب سيبقون نفس العرب كما أن البحر سيبقى نفس البحر. وهم بهذا المنطق لا يريدون بناء المستقبل على أوهام.

الحاجة للجدران اذن مبنية على النزعة الإسرائيلية الأمنية التي تدهس كل شيء، نزعة الانغلاق الإسرائيلية وأيضاً القناعة بإدارة الظهر للعرب وحمايته بالجدران، والوجه لأوروبا.

تصوري أن موضوع الجدار كان يمكن كسبه ولكن لم تخض من أجله معركة كافية.

ـ تقول إسرائيل ان الجدار يمكن هدمه خلال 48 ساعة هل هذا نظرياً أمر ممكن بالفعل؟

ـ طبعاً ممكن ليس فقط نظرياً وإنما عملياً. هذا الجدار لا يمكن أن يبقى، فهو ليس عملاً فنياً ولا شيئاً أثرياً وإنما باطون قبيح، وهو عمل إجرامي بحق المجتمع الفلسطيني، وهو غير مبرر وهنالك في شأنه قرارات دولية.

والسؤال الذي يجب أن يسأل للإسرائيلي الذي يبرر الجدار بالعمليات الاستشهادية، هو: الآن هناك هدنة لماذا لا تتوقفون عن بناء الجدار على الأقل ناهيك عن هدمه، ففي منطقة القدس يستمر بناء الجدار، فهو يفصل بين البيوت بشكل قبيح وحقير.

ـ معروف أنك صاحب توجهات قومية، هل ترى أن هناك مشروعاً عربياً يمكن أن يظهر في ظل هذه الظروف خلال المستقبل؟


ـ لا توجد ايديولوجية قومية حاف، الا اذا استنبط الفكر من الانتماء لأمة، وعندها يكون فكراً فاشياً. مشروعي هو مشروع قومي ديمقراطي حداثي وانساني، وليس مجرد قومي، لا توجد برأيي ايديولوجية قومية تستحق الذكر، ويجب ان يحدد المرء هل توجهه ديمقراطي وماذا يعني هذا؟ وماذا تعني في ظروفنا ليبرالية سياسية وعدالة اجتماعية ضد اليبرالية الاقتصادية العدوانية البذيئة او البهيمية النيو ليبرالية، هذه هي الهموم التي تشغلني اضافة الى هم الحفاظ على الهوية العربية وانفصالها عن المواطنة المتساوية للعرب وغير العرب.

أتصور ان المشروع القومي اليوم يعني وجود مشروعات وطنية مواطنية ديمقراطية في كل بلد عربي، تكون قادرة على طرح برنامج بديل في كل دولة على حدة. ومنها يقوم مشروع قومي اتحادي يأخذ أهمية الهوية الثقافية العربية بعين الاعتبار، كما يأخذ المواطنة المتساوية في كل بلد عربي على حدة بعين الاعتبار أيضا. أما توقع مشروع قومي فوقي، يفرض من الأعلى بشكل فوقي، فباعتقادي توقع خاطيء ونتائجه كارثية، كما أن توقع الديمقراطيين والانتهازيين غير الديمقراطيين أن تفرض الديمقراطية من الخارج توقع خاطئ وكارثي.

-------------------------------------------
أعد الحوار للنشر: مجدي شندي

التعليقات