28/12/2024 - 12:14

77 عاما على قرار التقسيم: جولات لجنة "أنسكوب" في فلسطين ومخيمات اليهود اللاجئين 1947 (32/9)

وضع الصهاينة نصب أعينهم توجيه اللجنة الخاصة إلى خطة تقسيم البلاد. حيث إن الحركة الصهيونية قد أقرت في مؤتمرها الذي انعقد في باريس في آب / أغسطس عام 1946، تبنّي مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة بيل

77 عاما على قرار التقسيم: جولات لجنة

أطفال من بئر السبع ينتظرون لجنة الأمم المتّحدة الخاصّة بفلسطين (أرشيفيّة -Getty)

تشكلت لجنة "أنسكوب"، والتي تعني: United Nations Special Committee on Palestine - UNSCOP، أي اللجنة الخاصة للأمم المتحدة بشأن فلسطين، وتألفت من 11 دولة تمثل الطيف السياسي الذي كان موجودًا في ذلك الوقت، بدون الدول العربية والدول العظمى الأعضاء في مجلس الأمن. وتمّ اقتراح الدول على أساس أنها "محايدة"، ولكن الأمر لم يكن كذلك. أستراليا وكندا كانتا تمثلان دول الكومنولث، وهذا يعني أنهما قريبتان من بريطانيا. السويد وهولندا من دول أوروبا الغربية، ولذلك كان متوقعًا أن يكون موقفهما قريبًا من موقف بريطانيا. أما دول أميركا اللاتينية: بيرو والأورغواي وغواتيمالا، فكانوا مؤيدين بشكل كبير للصهيونية، وجاهروا بذلك في دورة الأمم المتحدة. كان يعتقد أن يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا ستتبعان موقف الاتحاد السوفييتي، ولكن ذلك لم يحدث، إذ إن تشيكوسلوفاكيا كانت قد أعلنت عن تحمسها للمشروع اليهودي خلال الدورة الخاصة للأمم المتحدة. أما خطاب "غروميكو" فكان من شأنه أن يؤثر في موقف يوغوسلافيا سلبيًا بالنسبة للمطالب العربية. وأخيرًا، إيران والهند اللتان كانتا تعتبران ضد الدولة اليهودية ومع الموقف العربي من الاستقلال.

انتدبت كل دولة من الممثلين في اللجنة عضوًا واحدًا ليمثلها، مع آخر يكون نائبًا له في حالة تغيبه. عن السويد كان القاضي "إميل ساندستروم"، والذي انتخب رئيسًا للجنة، وكان لهذا علاقات واسعة مع القيادة العسكرية البريطانية في الشرق الأوسط، بحكم عمله السابق في المحكمة الدولية في القاهرة. كان نائبه الدكتور "بول موهن"، والذي كان معروفًا بغموض شخصيته وصعوبتها، وكان يحتفظ بآرائه لنفسه، ولكن ثبت فيما بعد أنه شارك في اللجنة، وهو يخفي تأييدًا شديدًا لإقامة الدولة اليهودية، كما كتب في مذكراته الشخصية.

أما أستراليا، فانتدبت مستر "جون د. ل. هود" ونائبه "مستر صاموئيل ل. اتيو"، وكان هذان مخلصان للموقف البريطاني؛ ولذلك قاما بالدفاع عن موقف بريطانيا في كل مرّة كانت تهاجم فيها.

ممثلا كندا كانا القاضي "إيوان س. راند" ونائبه مستر "ليون مايراند". كان مستر "راند" قد دخل اللجنة بآراء مؤيدة للصهيونية؛ بسبب علاقاته مع قضاة يهود من بلاده. أما نائبه فكان محايدًا، ولكنه على الأغلب لم يكن صاحب تأثير في أعمال اللجنة، لأنه اعتمد بالكامل على رأي القاضي.

ومثل هولندا في اللجنة الدكتور "ن. س. بلوم" ونائبه الدكتور "أدريان سبيتس". كان "بلوم" حاكمًا لإندونيسيا عندما كانت مستعمرة هولندية، وكان "سبيتس" حاكمًا لسومطرة، وكان الاثنان أقرب إلى العرب من اليهود بحكم وظيفتيهما السابقتين، حيث اعتبر "بلوم" أن أي ضرر يلحق بالعرب في فلسطين، سيكون له تأثير كبير على وضع هولندا في إندونيسيا، الدولة الإسلامية الأكبر.

تشيكوسلوفاكيا التي لم تكن شيوعية بعد، ولكن الشيوعيين كانوا يستولون على مراكز السلطة شيئًا فشيئًا، أرسلت إلى اللجنة الدكتور "كاريل ليسيكي" ونائبه الدكتور "ريتشارد بيتش"، وكان الاثنان قريبين في آرائهما للأفكار الصهيونية، وكانا يعتقدان أن عاجلًا أو آجلًا ستصبح بلادهم شيوعية بالكامل، وتأتي التعليمات من الاتحاد السوفييتي، مما دفعهما إلى التردد في آرائهما وإظهار التأييد في لقاءاتهما مع الصهاينة، وعدم إظهار هذا التأييد في الجلسات المغلقة للجنة.

ممثلا يوغوسلافيا كانا مستر "فيلاديمير سيميك" ونائبه الدكتور "جوزا بريليج". كان الوفد اليوغوسلافي هو الأكبر من بين وفود الدول، وعمل بجدّ في إقامة علاقات مع كل الأطراف في فلسطين، وكان له دور أساسي في التحقيقات التي أجرتها اللجنة، ولكن هذا الوفد كان مؤيدًا للدولة الواحدة منذ البداية، على شاكلة الدولة اليوغوسلافية التي تشكلت من ست قوميات مختلفة، وكانت فكرة التقسيم مناقضة لما هو موجود في بلادهم.

أما الهند، فرأس وفدها السير القاضي "عبد الرحمن" الذي كان مؤيدًا للعرب بشكل سافر، وكان لا يخشى أن يحارب بشدّة عن موقفه داخل اللجنة، وأحيانا كان يفعل ذلك بشكل غاضب، مما حدا برئيس اللجنة لتشبيهه بالثور الهائج. نائبه كان "فنكاتا فزواناثان" والذي لم يكن له أي تأثير أو دور في اللجنة.

تمثلت إيران في اللجنة بواسطة السيد "نصر الله انتظام" الذي اعتبره الكثيرون بأنه الأكثر موهبة وتجربة بين جميع المندوبين. كذلك كان نائبه دكتور "علي آدلان" الذي كان أيضًا من المتمرسين بالسياسة. رغم أن الموقف الإيراني كان الموقف الهندي، ولكن السيد "انتظام" ساهم في كل النقاشات في اللجنة، وكان له تأثير كبير على أعضائها.

بالنسبة للبيرو فقد مثلها الدكتور "البير توالتا" وانتخب هذا نائبًا لرئيس اللجنة، ونائبه الدكتور "أرثور غارسيا سالازار". أما الدكتور "توالتا" فاعتذر عن السفر مع اللجنة إلى فلسطين لأسباب شخصية، مما تسبب بان يمثل نائبه البيرو لوحده. وكان نائبه هذا سفيرًا لبلاده في الفاتيكان، وكان مسيحيًا متدينًا ولذلك رفض لقاء ممثلي الوكالة الصهيونية، وحافظ على بعد ما من أعضاء اللجنة الآخرين.

تمثلت الأوروغواي في اللجنة عن طريق البروفيسور "انريكي رودريجز فابراغات" والذي كان مؤيدًا شديدًا للأفكار الصهيونية وإقامة "دولة في المكان الذي عاش فيه الأجداد". وكانت تعليمات حكومته بأن عليه أن يؤيد فكرة التقسيم. كذلك كان نائبه مستر "أوسكار سكو ألاوري" مؤيدًا متحمسًا للمشروع الصهيوني. وحتى سكرتير الوفد الاورغواني كان متحمسًا للتقسيم ولأنه كان مهندسًا ذا خبرة تقنية عالية، عهدت إليه مهمة رسم خارطة التقسيم الأولية.

في النهاية لا بد إلا أن نتطرق إلى المؤيد الأول للصهيونية في اللجنة، ألا وهو ممثل غواتيمالا الدكتور "جورج غراسيا غراندوس" الذي كان صهيونيًا حتى النخاع، بالإضافة إلى أنه أراد أن يضر بالنفوذ البريطاني في فلسطين، عسى أن ينفع ذلك بلاده في نزاعها مع بريطانيا على "بليز" وهي هندوراس البريطانية. وحتى إنه هرّب في حقيبته الدبلوماسية مواد سرّية من الولايات المتحدة تدين العرب بالتعاون مع النازيين، حسب طلب ممثل الوكالة الصهيونية منه. كان نائبه هو "زيا غونزاليس" وكان عضو برلمان شاب، ولم يكن له أي تأثير على اللجنة. وهنا يجدر الذكر أن ممثلي غواتيمالا والأورغواي وسكرتير بعثتها، عملوا معًا وبتنسيق تام من أجل تحقيق الفكرة الصهيونية والوصول إلى قرار بتقسيم البلاد.

تفويض واسع للجنة "أنسكوب"

أنيط باللجنة أن تقدم نتائج بحثها للأمم المتحدة في الأول من أيلول / سبتمبر 1947، أي بعد ثلاثة أشهر ونصف فقط من تأسيسها. وأن تضع تصورًا يجسر الهوّة الواسعة بين موقف العرب واليهود، ما لم تنجح بريطانيا فيه على مدى ثلاثين عامًا. كان أعضاء اللجنة يعتقدون أن باستطاعتهم تنفيذ ما طلب منهم، وخاصة الذين يؤيدون الفكرة الصهيونية، حيث عملوا بجدّ ومثابرة وبرز نشاطهم في عمل اللجنة لاحقًا، كونهم اعتقدوا أن وجودهم في صُلب القرار، هو فرصة سانحة من أجل تحقيق الحلم الصهيوني في إقامة دولة اليهود في فلسطين. وكان على رأس هؤلاء ممثلو غواتيمالا وأوروغواي، ونائب ممثل السويد "بول موهن". وحتى السكرتير العام للأمم المتحدة "تريغفا لي" فقد كتب في مذكراته أنه "كان يشعر بتعاطف مع الشعب اليهودي الملاحق، ومطلبه بإقامة الدولة اليهودية، وذلك قبل أن تصل القضية إلى الأمم المتحدة". لكنه ادعى أنه تعامل مع القضية بموضوعية كاملة، وهذا ما لم يره العرب صحيحًا، إذ ادعوا أنه عمل كل ما يستطيعه داخل أروقة الأمم المتحدة من أجل إقامة الدولة اليهودية.

أما بالنسبة للسلطة الممنوحة للجنة، والتي دار نقاش حولها بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، فقد حددت كالآتي: "تكون للجنة صلاحيات موسعة في التحقق وتسجيل كل الوقائع، والتحقيق في كل الأسئلة والمواضيع التي لها علاقة بمشكلة فلسطين"، وكذلك "تقوم اللجنة بتنفيذ تحقيقاتها في فلسطين أو أي مكان تجده مناسبًا من أجل تنفيذ مهمتها، وتستمع إلى شهادات شفوية أو تستلم شهادات خطية، من بريطانيا، وممثلي السكان في فلسطين، وأي حكومات أو مؤسسات وأشخاص ترى اللجنة بضرورة سماع شهاداتهم".

كانت بريطانيا تريد أن تكون اللجنة مجرد لجنة تحقيق بحيث تقوم بتقديم "تحليل للمشكلة الفلسطينية، واستعراض كل الادعاءات المؤيدة والمعارضة لمجموعة حلول محددة تقترحها اللجنة". أما العرب وبعد فشلهم في منع تشكيل لجنة تحقيق، فقد حاولوا أن يضيفوا إلى خطاب التفويض للجنة بندًا يطالب اللجنة بفحص إمكانية وجود حلّ يؤدي إلى استقلال فلسطين بشكل فوري. سقط الاقتراح العربي رغم تأييد الاتحاد السوفييتي له، كذلك لم ينجح العرب في أن يقتصر تحقيق اللجنة على حدود أرض فلسطين فقط، ولا يجب أن يشمل مخيمات اللاجئين اليهود في أوروبا.

في النهاية كان التوكيل الذي حصلت عليه اللجنة، قريبًا لما أراده الصهاينة وبعيدًا عن ما أراده العرب. مما أدّى إلى تغيير الموقف العربي من الأمم المتحدة إلى الأسوأ، حيث إن الدول العربية رأت أن قرارات اجتماعات الجمعية العامة جاءت بعكس توقعاتهم، لأن المنظمة ككل تعمل ضد الموقف العربي، ولذلك قرر العرب، بما فيهم اللجنة العربية العليا، بمقاطعة لجنة "أنسكوب" مقاطعة تامة. رأى العرب أن مجرد سفر اللجنة إلى فلسطين تعني أن موقف اليهود من فلسطين يعادل موقف العرب منها، وفي هذا تجنٍّ على القضية العادلة لشعب فلسطين العربي. من ناحية أخرى، رأى الصهاينة أن كل ما حدث كان في صالحهم، بالإضافة إلى ذلك فقد وجدوا أصدقاء لهم داخل المنظمة الدولية، التي كانت بالنسبة لهم، قبل جلساتها الأخيرة، مجرد محكمة قانونية، ويجب عليهم أن يتعاملوا معها على هذا الشكل. لكن بعد عملية اتخاذ القرار بشأن إقامة اللجنة، وتشكيل مركباتها، والتفويض الواسع الذي حصلت عليه، فهموا أن الأمم المتحدة هي في الحقيقة عبارة عن مؤسسة سياسية، تحتوي على آراء متنوعة بحيث يمكن المناورة بينها للحصول على مرادهم، بسبب تأثرها بالرأي العام، ولأن أغلب المواقف قابلة للمناقشة بحيث يمكن الحصول على الحلّ العملي بدل الإصرار على الحلّ العادل، وأما الحل العملي فهو قابل لتفسيرات مختلفة ناتجة عن مساومات بين الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

اللجنة تبدأ أعمالها فورًا

كان الاجتماع الأول للجنة في نيويورك، في 26 أيار / مايو 1947، وترأس الاجتماع الأمين العام للأمم المتحدة، مرحبًا بأعضاء اللجنة الحاضرين وشاكرًا للدول التي تشارك في اللجنة، مطالبًا بتأجيل انتخاب رئيس للجنة حتى حضور كافة أعضائها في الاجتماع التالي، والذي عقد في 2 حزيران / يونيو 1947، وتم فيه انتخاب ممثل السويد "سندستروم" رئيسًا للجنة، وممثل البيرو نائبًا للرئيس.

لكن القرارات الحاسمة والمهمة في هذا الاجتماع كانت حول نقطتين رئيستين. الأولى كانت بشأن علنية جلسات اللجنة عند الاستماع لممثلي الأطراف المختلفة، حيث إن حكومة الانتداب طالبت بأن تكون الجلسات مغلقة، خاصة عندما يقدم ممثلو الحكومة بياناتهم، وتم قبول طلبهم، وكذلك كان من أمر العرب الذين قدموا شهاداتهم أمام اللجنة. أمّا الوكالة الصهيونية فقد طالبت بأن تكون كلّ الجلسات علنية، ولمّا رفض طلبها، قررت أن يقدم ممثليها شهاداتهم للجنة بشكل علني، ما كان له صدى جماهيري، أثّر بدوره على مواقف أعضاء اللجنة.

أما النقطة الثانية فهي تعيين ضباط اتصال من قبل الأطراف المعنية، أي اللجنة العربية العليا والوكالة الصهيونية وحكومة الانتداب، وذلك ليكونوا حلقة الاتصال بين اللجنة وأيّ من الأطراف. وكان هذا الطلب مقدمًا من الوكالة الصهيونية، وقد حاز على موافقة أعضاء اللجنة بعد نقاش طويل حول تحديد صلاحيات ضباط الاتصال، وحقهم في حضور جلسات اللجنة أو توجيه الأسئلة إلى من يدلي بشهادته أمام اللجنة. وتقرر في النهاية أن يكون لهم الحق بحضور الجلسات العلنية للجنة، وأن لا تقيد اللجنة نفسها بإجراءات معقدة، إذ يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار الفائدة المرجوة من ضباط الاتصال، وعلى أساس ذلك يتم القرار بشأن أحقيتهم أو عدمها في الشأن المطروح. رفضت حكومة الانتداب هذا الاقتراح، ولكنها لم تستطع منع الموافقة عليه، مما اضطرها إلى التعامل معه، وتعيين ضابطين من طرفها. أما الوكالة الصهيونية، فقامت بتعيين ضابطي اتصال وهما "ديفيد هوروفيتس" والذي كانت له تجربة غنية في العمل أمام اللجنة الأنجلو أميركيّة، و"آبا إيبن" والذي كان شابًا صهيونيًا متحمسًا، ولكنه أثبت قدرته على تنفيذ عمله كضابط اتصال على أحسن وجه. بالإضافة إليهما انتدبت الوكالة الصهيونية "موشي طوف" الأرجنتيني ليكون مرافقًا لممثلي غواتيمالا والأوروغواي، واستطاع هذا أن يؤسس علاقات وطيدة معهما، مما أثر بشكل كبير على آرائهما لصالح الحركة الصهيونية. أما العرب وبسبب مقاطعتهم للجنة، فلم يعينوا ضباط اتصال، مما جعلهم بدون عيون داخلها كما كان للصهاينة، الذين وضعوا كل جهود موظفيهم بالعمل مقابل ضباط اتصالهم، بالإضافة إلى متطوعين ومساعدين يتحدث الكثير منهم لغة أعضاء اللجنة الأصلية، مما أسهم في تطوير علاقات قوية مع أعضاء اللجنة، وخاصة في جولاتهم في فلسطين. وحسب "موشي شرتوك" كان باستطاعة الوكالة الصهيونية الوصول إلى أعضاء اللجنة وسكرتاريتها، بحيث تمكنت من معرفة المعلومات الداخلية إلى أدق التفاصيل، كما لم يحدث مع أيّ لجنة تحقيق سابقة.

وصلت اللجنة إلى فلسطين في 15 حزيران / يونيو 1947، بعد أن مكثت فترة قصيرة في لندن من أجل ترتيبات سفر أعضائها وعملهم في فلسطين. عند وصول اللجنة إلى البلاد واجهت إضرابًا عامًا عربيًا، إعلانًا على احتجاج العرب من أهداف اللجنة وقدومها المرفوض إلى فلسطين، وتعبيرًا عن المقاطعة التامة للجنة ومداولاتها، حيث إن اللجنة العربية العليا وطوال وجود اللجنة في فلسطين لم تسمح لأي مؤسسة فلسطينية أن تقوم باستقبال اللجنة أو تقديم أي تصريح أو شهادة لها.

من ناحية أخرى، كانت الوكالة الصهيونية قد أعدت العدة من أجل التأثير على اللجنة بكل الوسائل والطرق.

الإعداد الصهيوني والعربي للعمل مع اللجنة

وضع الصهاينة نصب أعينهم أن يوجّهوا اللجنة الخاصة إلى خطة تقسيم البلاد. حيث إن الحركة الصهيونية قد أقرت في مؤتمرها الذي انعقد في باريس في آب / أغسطس عام 1946، تبنّي مشروع التقسيم الذي اقترحته لجنة بيل عام 1937، مع تعديلات لمصلحة اليهود تحاول الحركة إدخالها على أي مشروع تقسيم مستقبلي. ومن أجل التوصل إلى ما يرمي إليه الصهاينة، انتهجوا تكتيكًا يؤدي إلى التأثير على أعضاء اللجنة الذين تنقصهم الخبرة السابقة والمعرفة عن قضية الصراع في فلسطين. أعطى الصهاينة قيمة كبرى للتوصيات التي ستقدمها اللجنة للأمم المتحدة، حيث إنهم اعتقدوا أن عدم طرح موضوع الدولة اليهودية من قبل اللجنة، من شأنه أن ينهي موضوعها أمام الأمم المتحدة، أما تبنيها لذلك، فمن شأنه أن يؤثر على قرارات المؤسسة الدولية.

بالإضافة إلى تعيين ضباط الاتصال قامت الوكالة الصهيونية بتعيين مساعدين يعملون مع ضباط الاتصال، ويساعدوهم في كل ما يحتاجونه. وكان من ضمن هؤلاء خبراء في مواضيع شتّى مثل الاقتصاد والجغرافيا والقانون وغيرها. كذلك قامت قيادات الوكالة الصهيونية بتعيين جلسات مع قناصل الدول الممثلة في اللجنة، قبل وصولها إلى البلاد، وذلك لمناقشة السياسة الصهيونية. وقام الصحفيون اليهود في البلدان المعنية، بنشر مقالات عن الفائدة الاقتصادية التي ستجنيها الدول من علاقتها بالدولة اليهودية التي ستنشأ بعد التقسيم.

ليس هذا فحسب، بل تم البحث والعثور على يهود من أصول تعود إلى نفس الدول المشكّلة للجنة، لديهم نفس خلفية الأعضاء الممثلين في اللجنة، وذلك من أجل ترتيب لقاء لهم مع أعضاء اللجنة عندما تقوم بجولاتها في البلاد. كذلك أقامت منظمة "الهجاناة" قسمًا خاصًا لتتبع أعضاء اللجنة، ومعرفة توجهات كل واحد منهم، وحتى التنصت على خطوط هواتفهم.

أما العرب فقد اعتقدوا، بينهم وبين أنفسهم، أن تقرير اللجنة ومهما سيكون لصالح الصهاينة، فإنه لن يقدم ولن يؤخر، لأن فلسطين ستبقى تحت الانتداب البريطاني. ولذلك، ولأسباب مبدئية كما تقدم، استمروا في مقاطعة اللجنة حتى إن أتمت مهمتها في فلسطين، حيث زارت بعدها لبنان والأردن لمقابلة ممثلي الدول العربية، حتى لا يقال إنها لم تأخذ بالرأي العربي على الإطلاق. كان الموقف الذي طرحه وزراء الخارجية العرب في لبنان، هو ما اعتبرته اللجنة الموقف الرسمي للعرب، بما فيهم الفلسطينيون، الذين لم يستطيعوا، أي القادة العرب، أن يتوحدوا حول رأي واحد يُطرح أمام اللجنة، في هذه الفترة العصيبة والمصيرية من تاريخ القضية الفلسطينية. مما أدّى بأعضاء اللجنة إلى الاستنتاج بأن ليس هناك رأي فلسطيني موحّد، بل إن هناك مواقف مختلفة.

جولات اللجنة الاستطلاعية في فلسطين

في كتابه "ولادة إسرائيل" يصف ممثل غواتيمالا في اللجنة، د. "جورج غارسيا-غراندوس"، زيارات اللجنة لمدن وقرى عربية ومستعمرات يهودية، ولا شكّ أن انطباعاته عن هذه الزيارات قد مثلت أغلبية أعضاء اللجنة ذوي الأصول الأوروبية الغربية، ولو أنه كان ينتمي إلى دولة لاتينية فقيرة، ولكن نلاحظ من كتابه أنه يتحدث بلهجة رجل غربي أوروبي، يرى اختلافات حضارية واسعة بينه وبين العرب في فلسطين، وتقاربًا مع اليهود وطريقة حياتهم وملبوساتهم وتصرفاتهم الأوروربية. لا شكّ أن ممثلي السويد وكندا وهولندا وأستراليا والأورغواي، كانوا يشاركونه هذه المشاعر اتجاه العرب واليهود مما كان له الأثر الأكبر على آرائهم فيما بعد.

حددت اللجنة عشرين يومًا للزيارات، على أن يحضر جميع الأعضاء الموجودين نفس المكان، على أن تنطلق القافلة كل يوم صباحًا بحيث يقود قافلة السيارات الجديدة التي اقتنيت خصيصًا لهذه المهمة، رئيس اللجنة ثم خلفه سيارات باقي أعضاء اللجنة حسب الترتيب الأبجدي لأسمائهم، ومن ثم سيارات المساعدين وضباط الاتصال وغيرهم. ما مجموعه 26 سيارة يقودها 13 سائقًا عربيًا و 13 سائقًا يهوديًا.

ابتدأت اللجنة جولاتها بزيارة الأماكن المقدسة في القدس، وعند حائط البراق كان في استقبالهم عدد كبير من اليهود المتدينين، والذين وصفهم "غراندوس" بأنهم "يبكون على معاناة شعبهم، ويصلون إلى الله من أجل عودة إخوانهم اليهود إلى أورشليم"، وأخبروه "عن بؤس اليهود وأملهم الذي لا ينقطع". أمّا عن المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، فقد تحدث"غراندوس" عن التوتر بين الطوائف، ومما لفت نظره أن المنافسة بين الفئات المسيحية المختلفة، تسبب في أن يكون مفتاح كنيسة القيامة مع عائلة مسلمة من القدس.

في حيفا، وجدت اللجنة تعاونًا من رئيس البلدية اليهودي "شبتاي ليڤي" وأعضاء البلدية اليهود، بينما تم مقاطعة الاجتماع من قبل الأعضاء العرب. وكذلك كان الأمر في مصنع عربي للسجائر، حيث لم تتعاون إدارته مع اللجنة. أما في مصنع يهودي للنسيج، فقد وجد فيه كل عضو من اللجنة من يتكلم بلغته الأم، فكان هناك "يهود إسبان، ويهود هولنديون، ويهود تشيكيون، ويهود يوغسلاف، ويهود فارسيون". كذلك قدم المصنع هدية، وهي عبارة عن قميص، لكل سائق سيارة. لخص "غراندوس" المشهد في حيفا على النحو التالي: "كان المشهد ملونًا، اختلط الشرق بالغرب أمام أعيننا: العرب حفاة الأقدام أو يلبسون الصنادل في جلابيبهم، والبريطانيون واليهود في ثيابهم الأوروبية".

عند البحر الميت، دُهش أعضاء اللجنة من مستعمرة "بيت هعارافاه" التي كانت واحة في صحراء أرضها مليئة بالأملاح فلا ينبت بها شيء. هناك تقابلوا مع شبان وصبايا يتكلمون الإنجليزية بطلاقة تامة. وحدثهم هؤلاء عن "بطولاتهم" في تحويل التربة إلى تربة صالحة للزراعة وعن تربية الأسماك وغيرها.

في الخليل، طلب العرب من اللجنة بعدم السماح لليهود المرافقين بالدخول إلى المسجد الإبراهيمي، ما اعتبرته اللجنة منعًا يمارسه العرب ضد اليهود بشكل دائم، رغم أنه مكان مقدس لليهود أيضًا. في بئر السبع، لم يقم العرب باستقبال أعضاء اللجنة ومرافقيها، مما اضطرّهم إلى أكل طعام احضروه مسبقًا معهم في قاعة مدرسة. وصف "غراندوس" بئر السبع بأنها "قديمة على حافة الصحراء، وقرية مليئة بالتراب، ومعظم سكانها يرتدون الجلباب والصنادل، ويراقبون اللجنة بلا مبالاة".

في المقابل، زارت اللجنة مستعمرة "رفيفيم" في النقب، التي تحتوي على بركة ماء اصطناعية "تتلألأ مثل جوهرة في الصحراء الحارة"، كما وصفها "غراندوس". كانت المستعمرة عبارة عن "تناقض صارخ مع الصحراء" و"سجادة خضراء من العشب والأشجار". هذا التناقض الذي رأته اللجنة بين حياة البدو العرب والمستعمرات اليهودية الزراعية السبع عشرة، بمثابة البرهان أو الحجة التي بحث عنها أعضاء اللجنة المتحمسين للمشروع الصهيوني من أجل تأكيد أحقية اليهود بالنقب "المهمل" من قبل العرب. كيف لا وبقدرتهم، أي اليهود، أن يبنوا فيها مستعمرات أخرى كثيرة مشابهة لمستعمرة "رفيفيم".

في مدينة الرملة ومدينة يافا، أكبر المدن العربية، واجهت اللجنة صعوبات جمة بسبب مقاطعة العرب لها. حيث قام أعضاء اللجنة العربية العليا بتحذير الناس من التعامل مع اللجنة. بينما استقبل اللجنة مئات الأشخاص في تل أبيب، الذين كانوا يحيّون أعضاءها بحرارة، وزُينت شوارع المدينة بالورود، وعندما أنهت اللجنة جلستها مع رئيس بلدية تل أبيب "يسرائيل روكاح"، وجدت في انتظارها آلاف الأشخاص في الشوارع، يهتفون نشيد الصهيونية "هتكڤا"، ما جعل "غراندوس" أن يقول بأن "تل أبيب هي إنجاز مذهل، بني على الرمال".

بالإضافة إلى كل هذا، اهتم اليهود بأن تعاين اللجنة صناعاتهم المتطورة، والحركة التجارية النشطة في المدن، والزراعة المتقدمة. لم يكن اختيار أماكن الزيارات محض صدفة، بل كان نتيجة تخطيط وترتيب من قبل الوكالة الصهيونية التي اهتمت بأن تنتقي أحسن المصانع اليهودية. كذلك اهتم اليهود بأن يزور أعضاء اللجنة المستوطنات التعاونية (الكيبوتسات)، ليس بسبب تطورها فقط، بل من أجل إقناع ممثلي الدول الشرقية: يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا بان الكيبوتسات تشكل نموذجًا ناجحًا من الاشتراكية.

وحتى تكتمل الصورة لدى أعضاء اللجنة، نظمت لهم الوكالة الصهيونية زيارات إلى مؤسسات تعليمية وصحية ناجحة، وعلى رأسها الجامعة العبرية في القدس، والتي عُرِّفت أمام اللجنة بأنها "المركز الروحي العالمي للإسرائيليين". وزيارة لمستشفى "هداسا" في القدس، حيث لاحظ أعضاء اللجنة أن خدمات المستشفى لا تقتصر فقط على اليهود، بل تشمل العرب أيضًا. وفي المستشفى تقابل المندوب الإيراني في اللجنة، "بمحض الصدفة طبعًا"، بالطبيب المختص الذي عالجه قبل سنوات بسبب عملية معقدة كان عليه أن يجريها في أذنه.

السفينة "إكسيدوس" وزيارة مخيمات اللاجئين في أوروبا

لا يمكن الحديث عن زيارة لجنة "أنسكوب" لمخيمات اللاجئين في أوروبا دون أن نأتي على قصة سفينة المهاجرين اليهود "إكسيدوس"، والتي رست في ميناء حيفا في صباح يوم 18 تموز / يوليو 1947، بعد أن اعترضتها مدّمرات بريطانية في البحر المتوسط، بعد خروجها من ميناء "سات" في جنوب فرنسا قبل ذلك بأسبوع، وعلى متنها 4،554 مهاجرًا يهوديًا. قادت المدمرات البريطانية السفينة المحملة باللاجئين إلى ميناء حيفا، بعد أن سيطر طاقمها على السفينة بعد معركة مع ركاب وطاقم سفينة "إكسيدوس" في ليلة اقترابها من شاطئ فلسطين. وأسفرت المعركة عن موت ثلاثة من ركاب السفينة وجرح العشرات منهم. في حيفا قامت القوات البريطانية بإنزالهم بالقوة من السفينة، وتحميلهم في ثلاث سفن بريطانية إلى عرض البحر مرّة أخرى، ومن ثم إلى ألمانيا بعد محاولات طويلة لإرجاعهم إلى فرنسا من حيث أتوا.

عندما اقتربت السفينة من شاطئ مدينة حيفا، أطلقت منظمة "الهجاناة" نداءً إلى أعضاء لجنة "أنسكوب" للقدوم إلى الميناء ورؤية ماذا تفعل بريطانيا بالمهاجرين اليهود. لبّى رئيس اللجنة "ساندستروم" وممثل يوغوسلافيا "سيميتش" النداء، وذهبوا ليشاهدوا لمدة ساعتين كاملتين، عملية نقل الركاب من سفينتهم إلى سفن الطرد، ورأوا القتلى والجرحى اليهود. كذلك كانت الصحافة العالمية متواجدة بكثرة؛ بسبب تغطية أخبار اللجنة الخاصة، مما أعطى الموضوع زخمًا محليًا وعالميًا على حد سواء. قال ممثل يوغوسلافيا لرئيس اللجنة "هذه أحسن شهادة ممكن أن تكون أمامنا"، أما رئيس اللجنة فقال: "بدون هذه الشهادة، يكون تحقيقنا ناقصًا".

كان تأثير حادثة "إكسيدوس" كبيرًا على أعضاء اللجنة، خاصة أن الصحف استمرت في طرحها لأسابيع عديدة أخرى، بسبب رسوها في فرنسا لمدة ثلاثة أسابيع؛ حيث إن ركابها كانوا يرفضون النزول من السفينة، حتى أخذتهم بريطانيا أخيرا إلى ألمانيا وأنزلتهم هناك عنوة، في المنطقة التي تحتلها هناك.

ترجّح أغلب المصادر الصهيونية بأن التوقيت لهذه الحادثة لم يكن متعمدًا، مع أن أغلب الدلالات تشير إلى ذلك، خاصة استعجال "الهجاناة" في إحضار السفينة من أميركا إلى فرنسا، ودفع الناس إلى ركوبها في أسرع وقت ممكن، لتصل قبل أن تغادر اللجنة فلسطين إلى أماكن أخرى خاصة مخيمات اللاجئين اليهود في أوروبا.

حطّت اللجنة أوزارها في جنيف في 28 تموز / يوليو 1947، وكان الموضوع الأول الذي تم النقاش حوله هو موضوع زيارة مخيمات اللاجئين اليهود في أوروبا، حيث إن قسمًا من أعضاء اللجنة كانوا يرفضون هذا الشيء خاصة المندوب الهندي والمندوب الإيراني، الذين حاولا أن يطيلا مدة التحقيقات في فلسطين، حتى لا يكون هناك وقت كافٍ لزيارة المخيمات. لكن القرار جاء لصالح الزيارة، وكان لموضوع سفينة "إكسيدوس" تأثيرًا كبيرًا في صالح هذا الموضوع لدى قسم كبير من أعضاء اللجنة.

كانت الوكالة الصهيونية قد أرسلت منذ بداية تموز / يوليو 1947، ممثلين لها من أجل تنسيق شهادات الجهات المختلفة داخل المخيمات، ونجحوا في ذلك أيما نجاح، حيث تكلم الجميع بنفس الروح خلال وجود اللجنة في المخيمات لمدة أسبوع واحد، وزيارة 7 مخيمات، ومقابلة 42 شخصًا مختلفًا بشكل عشوائي، أو هكذا اعتقد أعضاؤها. وقد وصل هؤلاء بعد تحقيقاتهم إلى النتيجة التالية: هناك عدّة عوامل أدت إلى وجود مطلب جماهيري قوي للهجرة إلى فلسطين، وهذه العوامل هي الكارثة التي حلّت باليهود خلال الحرب العالمية، وانعدام الثقة بإمكانية التعايش بين اليهود والأوروبيين الآخرين، وعدم وجود إمكانية أخرى للهجرة إليها، ناهيك عن الدعاية الصهيونية المكثفة من أجل إقناعهم بذلك. أما الوكالة الصهيونية، فقد اعتبرت أن مهمتها بهذا الشأن كانت قد تكللت بنجاح باهر.

التعليقات