جني الفلين الموسمي في تونس..مصدر رزق تتوارثه الأجيال

ويتصدر موسم جني الفلين، اهتمامات وأنشطة سكان المنطقة الواقعة في محافظة جندوبة، شمال غربي البلاد، فبعد أن كان حصاده من التقاليد التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، تحوّل شيئًا فشيئًا إلى مصدر للرزق يؤمن لقمة العيش لهم.

جني الفلين الموسمي في تونس..مصدر رزق تتوارثه الأجيال

في الطريق إلى منطقة عين دراهم، بمحافظة جندوبة التونسية، تأسرك الطبيعة الخلابة وتلك المنازل المعلقة في قمم الجبال، المكتظة بالغابات الكثيفة، من أشجار "بلوط الفلين"، والصنوبر، والزان، ثروةٌ حرجية مثلت لسكان المنطقة مصدر رزق على مدى عقود من الزمن، من خلال عملهم في جني الفلين.

ويتصدر موسم جني الفلين، اهتمامات وأنشطة سكان المنطقة الواقعة في محافظة جندوبة، شمال غربي البلاد، فبعد أن كان حصاده من التقاليد التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، تحوّل شيئًا فشيئًا إلى مصدر للرزق يؤمن لقمة العيش لهم.

ويبدأ موسم جني الفلين في هذه المنطقة، مع بداية مايو/أيار، ويتواصل حتى نهاية نوفمبر/تشرين ثان، وتشرف عليه الوكالة الوطنيّة لاستغلال الغابات، موفرة فرصة عمل لنحو 3800 شخص كل الموسم.

وعن تاريخ جني الفلّين وعلاقته بسكّان المحافظة، يقول المواطن محمّد صالح العرفاوي، إن آباءه وأجداده كانوا يستغلّون أشجار البلوط بجمع ثمارها، واستخدامها كعلف للحيوانات، أمّا الفلّين وهو قشر الشجرة، فكان يُستعمل في صناعة الأصص لزراعة الأزهار والزينة، وخلايا تربية النحل التي تسمى محليًا "الأجباح".

اقرأ أيضًا | مراكش: ظلّ ظليل، ثلج ونخيل ... ودرجّات ناريّة

وخلال الفترة الاستعماريّة، يقول منير الكسراوي، رئيس مصلحة البرمجة  والمتابعة بوكالة الغابات، إن "جني الفلين أصبح يخضع للمحتل الفرنسي (1881-1956)، حيث يتم تصديره واستغلاله في أنشطة عدة تواصلت بعد استقلال البلاد، إذ حرصت الدولة آنذاك على إنشاء مصانع  لهذه المادة، و قننت عمليّة تصديرها إلى الخارج، وخاصة البرتغال الذي يستورد القسط الأكبر من صادراتنا من الفلّين والمقدّرة بـ 90% من الإنتاج  الوطني كمادة مصنّعة، حفاظاً على العلامة التونسيّة".

وبحسب حديث الكسراوي، يمنع القانون التونسي تصدير هذه المادة خامًا، أما الاستهلاك المحلي من هذه المادّة فتُخصص له الـ 10% المتبقية من الإنتاج الوطني، الذي  يبلغ معدّله السنوي سبعة آلاف وخمسمائة طن.
وتُقدّر الوكالة التونسية، مساهمة محافظة جندوبة في الإنتاج الوطني من مادّة الفلين، بـ 73%، وهي نسبة تعود لمساحة غابات هذه المادة في المحافظة، والتي تضاعفت بعد الاستقلال لتصل 68 ألف هكتار، أيّ ما يعادل 76% من مساحة غابات الفلّين في البلاد، والمقدّرة بـ 87 ألف هكتار.

في إحدى مزارع جني الفلين بالمنطقة، يتوزع العمال، كلٌ حسب اختصاصه، فهناك مراقب العمّال، ومستعمل الشاقور (أشبه بالفأس)، وناقل الفلّين، وناقل الماء على الدابة، والسقاء، والمسجّل، وصولاً إلى جامع قطع الفلّين.

ويصل معدّل الأجر اليومي للعامل، حسب الكسراوي، 13 دينارًا (نحو 6.5 دولارات)، ولا يختلف الفرق في الأجر بين تلك الاختصاصات إلا ببعض المليمات.

محسن العرفاوي، أحد العاملين، يضطر مع كل نهاية الموسم إلى مغادرة مسقط رأسه عين دراهم نحو العاصمة تونس، للعمل في مجال البناء.

ومع انطلاق الموسم في العام التالي، يعود العرفاوي مستأنفا نشاطه في غابات عين دراهم، وهو يمني نفسه، كما يقول، بأن توفر الدولة بعض المشاريع الاستثمارية حتى لا يضطر وأمثاله إلى النزوح نحو المدن الكبرى.

ووفق إحصائية المندوبية الجهوية للتنمية، يتمركز ثلاثة أرباع سكّان جندوية في الغابات والأرياف، وهي مناطق تعاني الفقر، لارتفاع نسب البطالة بها، نتيجة غياب فرص التشغيل.

أما عادل خميري، وهو صانع تحف، فيقول "رغم أني تلقيت تكوينا (تأهيلاً) في تقنيات جني الفلّين، إلا أنني توقفت عن العمل فيه، لأنني أجد نفسي عاطلاً عن العمل، ومجبرا على النزوح مثل بقية السكان خلال الأشهر الستة الباقية، ولهذا السبب فكرت في امتهان صناعة التحف الخشبية".

العمل في جني الفلين، كان مختلفا مع هادي السومري، الذي قال: "لقد وجدت في هذا العمل مصدر رزق محترم، وجنبني النزوح إلى المناطق الحضرية، حيث تمكنت من خلال ما جنيته، من تسييج أرضي، وزراعة العديد من الأشجار المثمرة، وتربية الماعز والدواجن".

وعن مشاكل هذا القطاع يتحدث جلال مبروك، رئيس مصلحة الغابات، في عين دراهم، عن نقص الأيدي العاملة المختصة.

ويقول إنه "على الرغم من قيام وكالة استغلال الغابات بدورات تكوينية في مجال جني الفلين لصالح سبعين عامل كل سنة، إلا أن القطاع ظل يعاني من إشكالية نقص الأيدي العاملة، والسبب في ذلك هو عزوف العمّال عن هذا العمل بسبب موسميته".

وينقسم الفلّين إلى نوعين، الأول يسمى الذكر وهو الجيل الأول، ويتميز بكونه صلبًا، وقليل المطاطية، ومشقق، أما الثاني وهو الأنثى أو المولد فيُنتج بعد جني الذكر، بحسب عوادي بلعيدي، الذي يترأس مجوعة عمال في هذا النشاط.

ووفق بلعيدي، يعتبر الفلين الذكر، الأغلى ثمنًا، حيث يتم جنيه مرة واحدة بعد بلوغ الشجرة 35 عاما، أما النوع الآخر فيتم جنيه كل 12 سنة، وهي الفترة الزمنية التي تتمكن فيها الشجرة من تكوين قشرة جديدة من الفلين يصل سمكها 4 سنتيمترات.

ويشرح كيفية جني الفلين، قائلا إن العمال يستخدمون آلة حديدية شبيهة بالفأس وتسمى محليا بـ"الشاقور"، وبعد ذلك يتم نقله على ظهور الدواب عبر مسالك الغابة، ومن ثم تجميعه في مساحات مخصصة لذلك، ومن هناك يتم تحميله عبر شاحنات إلى المصانع، لاستخدامه في صناعة الأحذية، وأغطية القوارير، والرّقائق التي تستعمل في المنازل والمكاتب كعازل للضجيج والحرارة.

وبعيدا عن المصانع والغابات، ما زال سكان المنطقة يحافظون على مهنة توارثوها عن أجدادهم، حيث يصنعون من الفلين، التحف، وخلال النحل، وغيرها.

وبحسب الوكالة الوطنيّة لاستغلال الغابات، فإن عائدات بيع مادة الفلّين، تقدّر سنويا بـ 9 ملايين دينار (ما يعادل 4 ملايين و586 ألف دولار)، وهي عائدات يمكن مضاعفتها بحسب المختصين إذا تم حل الإشكاليات التي يواجهها هذا القطاع، بينها الحد من النزوح، وخلق فرص عمل للسكان بعد الانتهاء من الموسم.

التعليقات