القيروان... عاصمة التاريخ تشكو الحاضر

قالوا عنها إنها درة التراث السياحي في تونس، ورمز حضارته الإسلامية، ووصفوها بـملهمة الفنانين، لسحرها الخاص الذي تُجسده مساجدها التاريخية وقبابها، وأزقتها الملتوية. إنها المدينة العتيقة، بمحافظة القيروان التونسية.

القيروان... عاصمة التاريخ تشكو الحاضر

قالوا عنها إنها "درة" التراث السياحي في تونس، ورمز حضارته الإسلامية، ووصفوها بـ"ملهمة" الفنانين، لسحرها الخاص الذي تُجسده مساجدها التاريخية وقبابها، وأزقتها الملتوية. إنها المدينة العتيقة، بمحافظة القيروان التونسية، التي تصارع اليوم عدة مخاطر، من أجل الحفاظ على سحرها هذا.

وتتميز المدينة العتيقة بتراثها الإسلامي، ومعالمها التاريخية التي صنفتها اليونيسكو عام 1988 ضمن التراث العالمي، وفي مقدمتها، جامع عقبة بن نافع، أحد أقدم المساجد شمالي أفريقيا، ومقام الصحابي أبي زمعة البلوي، بالإضافة إلى العديد من المعالم التي تسطر أمجاد الحضارة العربية الإسلامية، من قبيل فُسقية الأغالبة، سلالة عربية حكمت تونس وشرق الجزائر، وغرب ليبيا في الفترة ما بين 800م و909م، ومقام سيدي عبيد الفريانى، ومسجد الأبواب الثلاثة، ومقام الإمام سحنون، وبئر روطة.

ويعتبر جامع عقبة، الذي وضع أساسه الفاتح عقبة بن نافع الفهري سنة 50 للهجرة، منارة الإسلام والعلم والقرآن، تجذب أفئدة المسلمين، من كل أرجاء المحافظة التي تحمل اسم المدينة نفسه، ومن خارجها.

ويحتوي جامع عقبة بن نافع على ست قباب، منها قبة المحراب، التي تعد أقدم قبة في بلاد المغرب الإسلامي، وقبة البهو على مدخل البلاد الأوسط، من جهة الصحن، وقبتان تعلوان مدخل بيت الصلاة في الشرق والغرب، وقبة تعلو المجنبة الغربية للمسجد، وقبة في أعلى المئذنة.
أما مقام الصحابي البلوي، فتقول الروايات إنه يحتضن رفات هذا الصحابي الشهير باسم حلاق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، كما تفيد الروايات نفسها أن شعرات للرسول الأكرم دُفنت معه.

ويعتبر المقام من أكثر المعالم الإسلامية زيارة، بفضل معالم الزخرفة الهندسيّة التي تعود لفترة حكم العائلة الحسينيّة التي حكمت تونس خلال القرن 12 الهجري/القرن 18 الميلادي.

أما بئر روطة، فهو معلم مائي مرتفع، يُصعد إليه عبر مدرج فيه جمل يدير ساقية، تُشد إليها أوانٍ خزفيّة تخرج ماء باردًا للزائرين، تقول الأسطورة "إن من يشرب منها يعود زائرًا".

وعلى الرغم من تلك القيمة الحضارية والمعمارية، تصارع "المدينة العتيقة" مخاطر من أجل الإبقاء على عناصرها المعمارية من مساكن، ومساجد، وحمامات، على مساحة 54 هكتارًا.

مخاطر وتهديدات منها ما هو متصل بتسرّب مياه الصرف الصحي، ومياه شبكة ماء الشرب أسفل المباني، ما جعلها  تتهاوى وتتصدع، بحسب تقارير لجمعيات مستقلة مختصة في التراث، كـ"صيانة المدينة"، و"ذاكرة المدينة"، و"عين على التراث".

أمّا الخطر الثاني فهو إهمال المساكن وهجرها من قبل أصحابها، وتغيير البعض الآخر لشكلها وهندستها المعماريّة من الداخل والخارج، حتى تكاد بعض الأحياء تبدو كمدينة الأشباح بسبب خلوها من السكان وحالة الخراب.

وتمثل مشاهد المنازل المهجورة، والمباني الآيلة للسقوط، والأشغال غير المنتظمة هنا وهناك، الوجه الآخر للمدينة العتيقة، فهنا منازل ابتلعتها الأرض الرخوة، وأخرى ينهار سقفها، وغيرها أُغلقت أبوابها وكتب على واجهتها التي كستها الرطوبة عبارة "للبيع".

وقد خصصت الحكومات التونسية، مشروع تهيئة للمدينة العتيقة بقيمة 5.5 مليون دينار (2.8 مليون دولار)، لتجديد البلاط، وتزيين واجهات المحلات والمساكن، في حين واصل المعهد الوطني للتراث الحكومي، دوره المعتاد في تنفيذ أشغال جزئيّة في أكثر من نقطة خاصة سور المدينة، لكنها لم تشمل المساكن.

وينبه مراد الرماح، رئيس جمعية "صيانة المدينة"، إلى خطورة وضع المدينة العتيقة، قائلًا إن "النسيج المعماري يتعرض إلى هجمة تفقد قيمته".
وأضاف أن أكثر من 100 مسكن فقدت صفتها التراثية بعد ثورة 14 يناير/كانون ثان 2011، وتعرضت للنهب، مشيراً إلى وجود "تهديد محدق بالمدينة العتيقة، جراء الهدم، وإعادة البناء بمواد عصرية، دون استشارة خبراء التراث".

ولفت الرماح، الذي شغل سابقًا منصب مدير المعهد الوطني  للتراث بالقيروان، إلى أن المدينة العتيقة حصلت على جوائز عديدة، نظرًا لمحافظتها على أصالتها، وتقديرًا لقيمتها التاريخية.

وشدد الباحث التراثي على ضرورة المحافظة على النسيج المعماري للمدينة، داعيًا إلى إعادة بناء المنازل بمواد ملائمة للخصوصية التراثية، وعدم البناء بمواد حديثة.

وحذر من خطورة استمرار مخالفة تلك المميزات مستقبلاً، قائلاً إنه "بعد 40 سنة سوف لن نجد بهذه المدينة أي منزل تراثي، ولا أي منزل محافظ على أصالته".

في المقابل، أكد الرماح على إمكانية استثمار معالم المدينة العتيقة في أنشطة اقتصادية وثقافية على غرار تجارب عربية مثل غرناطة، وقرطبة، واشبيلية التي حافظت على طابعها ومواد بنائها، وأصبحت محل استثمار وتنمية مندمجة.

الوضع الخطير الذي تشهده المدينة العتيقة بالقيروان، بحسب وصف الرماح، دفع عدد من النشطاء في المحافظة إلى إطلاق حملة إشعار بالخطر، عبر حملة أسموها "دار الجدود صلحها أو بيعها" من أجل تنبيه أصحاب المساكن بعدم ترك مساكنهم العتيقة، وصيانتها واستغلالها، بدل تسليمها للخراب.

جهاد صويد، المتفقد الجهوي للتراث بالقيروان فقد قال إن "هناك جهود لكي لا تخسر مدينة القيروان موقعها العالمي، حيث يوجد بالمدينة العتيقة، أكثر من 86 مسجدًا، و84 ضريحًا، و55 سيباطًا، و62 قوسًا، يجعلها ذات رصيد معماري متميز، إلى جانب آلاف المساكن".

ويتعهد معهد التراث بصيانة المعالم الأثرية العامة مثل الأضرحة والسيباطات، والمساجد، والقباب، باستثناء المساكن الخاصة.

وفي هذا الصدد، تحدث عن صويد إشكالية قانونية، وصفها بـ"المعقدة"، قائلَا إن المعهد لا يتدخل في صيانة المنازل الخاصة، لكن يساهم بالنصيحة والخبرة عند الاستشارة.

ونوّه بدور الجمعيات المدنية للتدخل على غرار تجارب سابقة، لإنقاذ المنشآت السكنية في ظل العائق القانوني، والصعوبات اللوجستية، علاوة على المتطلبات المالية الضخمة التي يحتاجها ترميم المساكن والمعالم.

من جهته، قال رئيس بلدية القيروان، لسعد القضامي إن "أشغال تهيئة المدينة تشرف عليها وكالة التهذيب العمراني (حكومية)، بشراكة مع عدة إدارات وجمعيات ذات صلة، وتشمل تجديد شبكة الكهرباء والماء، والصرف الصحي، وتحسين واجهات المنازل".

ورغم تأكيد القضامي على أن الأشغال ستنتهي بعد شهر أكتوبر/تشرين أوّل المقبل، لفت إلى حاجة المدينة لمشاريع صيانة أخرى تكون أكثر شموليّة.

التعليقات