يقدر عدد القطع الأثرية الأفريقية الموجودة في الولايات المتحدة بـ 50 ألف قطعة أصلية، وهي الأقل مقارنة بعمليات النهب التي استمرت لفترات طويلة خلال الاستعمار الأوروبي للقارة السمراء. الأمر لا يخلو من السخرية؛ فأوروبا لديها قطع أثرية أفريقية أصلية أكثر من أفريقيا نفسها، وتعتبر القارة الأوروبية أكثر "جامع" للتحف والقطع الأثرية في العالم، ففي المتحف الوطني البلجيكي يوجد أكثر من 180 ألف قطعة أثرية، والمتحف الإثنولوجي الألماني لديه 75 ألف قطعة، ومتحف "كواي برانلي" في فرنسا لديه حوالي 70 ألف قطعة، ومتحف العالم الوطني في هولندا لديه 66 ألف قطعة، بينما المتحف البريطاني لديه 73 ألف قطعة. مجموع القطع والتحف الأصلية الأفريقية في المتاحف الأوروبية يساوي نصف مليون قطعة تقريبًا. طبعًا، كل تلك القطع من أفريقيا فقط، قطع الهلال الخصيب مثل العراق والأردن وسوريا وفلسطين، ودول أخرى مثل الهند والمستعمرات الآسيوية غير مشمولة في الإحصائية.
منذ أكثر من 50 سنة بدأت السلطات في أفريقيا بالمطالبة بالتحف والقطع الأثرية "المسروقة" والموجودة في متاحف أوروبا العريقة. السلطات الأفريقية التي كافحت لفترات طويلة لنيل الاستقلال بدأت بالمطالبات منذ أكثر من 50 سنة، بالرغم من المماطلة الحكومات والمتاحف الأوروبية، وبالرغم من الاحتفالات مؤخرًا بعودة بعض القطع مع وعود أوروبية بإرجاع التحف إلى مكانها الطبيعي، إلا أن بعض القطع أعيدت فقط. في شهر شباط/فبراير 2022 استقبلت نيجيريا تمثالين من البرونز إلى مدينة بينين، ولكن تلك التماثيل تعد جزءًا من مجموعة تقدر بـ 3000 قطعة من البرونز ومجموعة مهمة جدًا من العاج والخشب لا تزال في المتاحف الأوروبية.
لو توقف الأمر عند سرقة التحف والقطع الأثرية لتوضع في المتاحف الأوروبية لكانت أفريقيا الآن بحال أفضل، إذ تعدى الأمر سرقة التحف وشمل سرقة ونهب الثروات والخيرات مثل الذهب والنحاس والمطاط، وسنوات طويلة من العبودية، وقتل الملايين!
تقسيم الكعكة
بدأ الغزو الأوروبي منذ عام 1415 مع احتلال البرتغال مدينة سبتة المغربيةن واستمر الاستعمار، البرتغالي خصوصًا، لمناطق ساحلية أخرى في القارة. لم يستطع الغزاة في ذلك الحين التوغل أكثر في الأراضي الأفريقية لكثرة الصعوبات التي واجهتهم. منها، الملاريا أو انتهاء المؤن والموت من نقص الماء والطعام أو القتل على يد القبائل الأفريقية التي تدافع عن أرضها.
توسع الغزو، فاشتركت قوى أخرى مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا، لاحقًا، عندما وجدت ألمانيا أن ليس لها مكان لنهب الثروات أعلنت عن وجودها في أفريقيا في العام 1885. تبع ذلك تشكيل "المنظمة الإفريقية العالمية" في العام 1877 تحت رعاية الملك البلجيكي ليوبولد الثاني. أهداف المنظمة المعلنة كانت "إنسانية"، ولكن الوقائع على الأرض كانت على النقيض من تلك الأهداف، فالإمبراطوريات الأوروبية الأخرى أحست باغتنام الملك البلجيكي للثروات الأفريقية، فتدخلت لضمان حصتها.

بدأ السباق الاستعماري باحتلال الكونجو من قبل الملك البلجيكي، وتعد الكونجو من أكبر الدول الإفريقية والغنية بالموارد الطبيعية الكثيرة، لكن ألمانيا من جهتها احتلت أجزاء واسعة من غرب أفريقيا، وأعلنت "حمايتها" لمناطق كثيرة على رأسها الكاميرون، واستمر الحال حتى أصبحت أفريقيا في بداية 1900 مقسمة بالكامل بين القوى الأوروبية باستثناء ليبيريا التي كانت تحت حماية أميركية وإثيوبيا.
وفضل المستعمر بدلًا من أن ينفق موارده في حروب مع جيوش استعمارية أخرى، أن يستعمل جيوشه لاحتلال أراض جديدة ونهب موارد أكبر. ولتجنب الحروب الطاحنة كما في التجربة الأميركية، تمت الدعوة إلى أول مؤتمر للدول الأوروبية في حزيران/يوليو 1884 بعد دعوة من الزعيم الألماني بسمارك، وسبق ذلك المؤتمر الحرب العالمية الأولى. وتمت الدعوة إلى انعقاد المؤتمر في برلين، وبالفعل حضرت كل من ألمانيا المضيفة، إنجلترا، النمسا، المجر، بلجيكا، الدانمارك، السويد، النرويج، إسبانيا، هولندا، إيطاليا، البرتغال والولايات المتحدة كمراقب. بدأ المؤتمر في كانون الأول/نوفمبر 1884، واستمر لعدة شهور مرت خلالها الأطراف بالكثير من المفاوضات التي قسمت إفريقيا، القارة التي تكبر أوروبا بـ 10 مرات، ليستبيح فيما بعد المستعمر كل الثروات والمعادن والتحف، وحتى البشر لم يسلموا من استخدامهم كسلع تباع وتشترى.
نتائج المؤتمر كانت مرضية لجميع الأطراف، وكان من النتائج أن على كل دولة أوروبية أن تقر بـ "أملاكها" من الثروات الأفريقية قبل المؤتمر، وأن أي دولة أوروبية لها الأولوية في احتلال أي منطقة إفريقية لتسهيل عمل شركاتها أو البعثات التبشيرية أو جمعياتها الجغرافية.
ليوبولد الثاني كان من أكثر المستفيدين، فضمن استعمار الكونجو بدون منازع، وإن كان هناك أجزاء غير محتلة، وكانت تنوي إحدى القوى احتلالها وجب عليها إبلاغ باقي القوى بذلك الأمر، مع ضمان حرية الملاحة في نهر الكونغو والنيجر للشركات الأوروبية والأميركية، وفي نهاية المؤتمر أكدت الأطراف بذل مزيد من الجهود لمنع تجارة الرقيق.
فرنسا، أكبر المحتلين
بدأ الاستعمار الفرنسي للقارة الأفريقية في القرن السادس عشر، وانتهى بسيطرة فرنسا على 35% من القارة، واستمرت في استعمارها لمدة 300 سنة. تبدأ قائمة الدول المحتلة من الشمال الإفريقي مثل تونس والجزائر وأجزاء من المغرب مرورًا في دول وسط أفريقيا مثل بنين، بوركينا فاسو، ساحل العاج، غينيا، توغو، مالي، النيجر، والسنغال بالإضافة إلى تشاد والغابون والكونغو.
مع أن البرتغال تعد من أوائل القوى الاستعمارية التي بدأت العمل في أسواق النخاسة، إلا أن فرنسا لديها تاريخ طويل في هذا المجال، إذ كانت جزيرة "غوري" في السنغال من أهم الأسواق، وكان التجار الفرنسيون يحددون أسعار العبيد الذكور بناء على الطول والوزن والقوة وشكل الأسنان، أما بالنسبة للنساء والأطفال، فكان يتم تحديد الأسعار بناء على الحالة الصحية وحالة الأسنان بشكل عام. أولئك العبيد كان يتم شحنهم إلى القارة الجديدة، أميركا، للعمل في المزارع، وكانت السفن عادة على شكل طابقين، الطابق العلوي للتجار والطابق السفلي للعبيد، وبحسب قاعدة بيانات تجارة الرقيق عبر الأطلسي، يقدر عدد العبيد الذين تم نقلهم على يد التجار الأوروبيين بحوالي 12.5 مليون، توفي منهم حوالي 2 مليون في عرض البحر بينما نجا الباقون، وفي ذلك الموضوع القصيدة المشهورة "تاريخ أميركي" للشاعر الأميركي مايكل هاربر، وفي نهاية القصيدة يقول "?Can't find what you can't see, can you" أي لا يمكنك أن تجد ما لا يمكنك أن تراه، أليس كذلك؟ في إشارة إلى العبيد الموجودين في الجزء السفلي من السفينة!
الاحتلال الفرنسي امتد حوالي 132 عامًا، قتل خلالها أكثر من 6 ملايين جزائري، منهم مليون ونصف خلال الثورة بين 1954 و1962، ومن المجازر الفرنسية الكثيرة في أفريقيا مجزرة كشتاوة في الجزائر، إذ قتلت حينها القوة الاستعمارية 4 آلاف مصل في جامع كشتاوة وحولت المسجد إلى كنيسة، ولم تكن المجزرة الوحيدة بحق الجزائريين، فقد قتل في مجزرة أيار/مايو ما يقارب 45 ألف جزائري في 15 يومًا فقط حينما تظاهر الجزائريون بعد نهاية الحرب العالمية الثانية مرددين شعار "تحيا الجزائر المستقلة"، بعد وعود فرنسا بالاستقلال، ودمر الجيش الفرنسي حينها 44 قرية خلال تلك المجزرة التي نفذ خلالها غارات جوية قتلت النساء والأطفال، ولم يتوقف العبث الفرنسي في الجزائر بالقتل فقط، بل امتد إلى تجارب نووية في شباط/فبراير 1960 لا تزال آثارها مستمرة حتى الآن بين سكان مدينة رقان. تمت التجربة الفرنسية تحت اسم "اليربوع الأزرق" وانتهى الحال بـ 57 تجربة نووية فجرت خلالها 17 قنبلة نووية! ويمتد التورط الفرنسي إلى جرائم الإبادة الجماعية في رواندا، ويروي جان بول غوتو في كتاب "الليلة الرواندية" أن المساعدات العسكرية الفرنسية أدت لزيادة القوات المسلحة الرواندية من نحو 5 آلاف عنصر إلى قرابة 50 ألفًا، تكفلت باريس بتدريبهم وتسليحهم، بالإضافة إلى مجازر كبكب تشاد التي راح ضحيتها 400 عالم دين مسلم، ومجزرة الدار البيضاء التي راح ضحيتها 6 آلاف مغربي ومجزرة تازركة ومجزرة ساقية سيدي في تونس ومذبحة مدغشقر.

استمر الاستعمار الفرنسي بنهب ثروات أفريقيا حتى القرن العشرين عندما احتاجت الحكومة الفرنسية من الأفارقة أن يقاتلوا إلى جانب الفرنسيين، وجاءت الوعود الفرنسية بالاستقلال مرتكزة بشكل أساسي على اشتراك الجنود في الحرب، وبالفعل، تم وضع الجنود الأفارقة في الصف الأول ليلقى أكثر من 71 ألف جندي مصرعهم، وحسب التقارير فإن أغلب أولئك الجنود كانوا من المغرب والسنغال والجزائر وتونس ومدغشقر.
خدعة الاستقلال
"بعد ستين عامًا لم تنل الدول الإفريقية الفرنكوفونية استقلالًا حقيقيًا ولا حرية"، تقول ناتالي يامب، المستشارة لحزب "الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج"، وتضيف أن الأمر يبدأ من المدارس التي تقرر مناهجها في فرنسا.
في الستينات، عندما تصاعدت حركات التحرر في أفريقيا، وجدت فرنسا نفسها تحت الضغط، حينها، قرر الرئيس الفرنسي شارل ديغول منح تلك المستعمرات الاستقلال، ولكن ذلك الاستقلال لم يكن كاملًا. الاستقلال المزيف كان نوعًا جديدًا من الاستعمار يربط تلك المستعمرات بباريس اقتصاديًا، إذ فرض على المستعمرات التعامل بعملة "الفرنك" الأفريقي الذي تتحكم فرنسا بطباعته وتحدد قيمته وتداوله! ويتم تداول الفرنك في 12 دولة أفريقية أغلبها كانت مستعمرات فرنسية باستثناء غينيا بيساو، وتلزم فرنسا جميع البنوك المركزية لهذه الدول بالاحتفاظ بنسبة 85% على الأقل من احتياطاتها من العملة الصعبة في البنك المركزي الفرنسي، الخاضع لمؤسسات الرقابة المالية الفرنسية، وذلك وفقًا لشروط الاتفاقية المؤسسة للجمعية المالية الأفريقية. الدول الأفريقية تملك حق الوصول إلى 15% فقط من احتياطياتها، وإن احتاجت أكثر من ذلك تجبرها باريس على الاقتراض منها بنسبة فوائد عالية تصل إلى 20% وتحتفظ باريس بحق رفض تلك القروض، ببساطة، تقوم باريس بإدانة الدول الأفريقية من الأموال الأفريقية وتفرض عليها فوائد عالية!
بلجيكا، رائدة الاستعمار في أفريقيا
تعد بلجيكا من أوائل الدول التي توغلت في الأراضي الأفريقية، فالبدايات كانت إقامة البرتغال مراكز تجارية على الشواطئ فقط، ولكن أطماع الملك البلجيكي ليوبولد كلفت الكونغو الكثير من الأرواح والممتلكات. في مؤتمر برلين عندما كان التنافس على التقسيم، تحدث الملك ليوبولد عن "الحضارة" والعمل على تحسين أفريقيا عن طريق نقل الحضارة الأوروبية إليها. حاز الملك على موافقة الرؤساء في المؤتمر، وكان له حرية التصرف في الكونغو، بدأ الأمر بتغيير الاسم إلى الكونغو الحرة، حرة من كل شيء إلا الاستعمار البلجيكي! وتحولت الدولة الحرة إلى نظام استنزف به الملك كل الموارد، بداية من المطاط والعاج والمعادن، حتى إنه أجبر السكان المحليين على العمل بالسخرة لإنتاج تلك المواد وشحنها إلى بلجيكا.
ووصل الأمر إلى اختطاف الأطفال الأيتام من مجتمعاتهم ونقلهم إلى أماكن أخرى للعمل والتدريب ليصبحوا جنودًا وعمالًا، وتشير التقديرات إلى وفاة أكثر من 50% من هؤلاء الأطفال، أضف إلى ذلك المجاعات التي كانت تصيب البلد الغني والأمراض والقتل الممنهج الذي أدى في نهاية المطاف إلى 10 ملايين قتيل.
يعد الاستعمار البلجيكي من أقسى أنواع الاستعمار الأوروبي لأفريقيا، وبسبب القتل والمجاعات والممارسات التي كانت تستخدمها السلطات في بلجيكا انتشرت الكثير من القصص. ذلك الأمر أدى إلى اعتراض القادة الأوروبيين، الذين كانوا لا يزالون مستمرين في بلاد أفريقية أخرى، ووصل الأمر إلى اعتراض مستعمرين آخرين على وحشية النظام البلجيكي في الكونجو مما أجبر البرلمان البلجيكي على إجبار الملك على التخلي عن إقطاعية.
احتلت بلجيكا الكونغو في عام 1885، ولم تتمكن الكونغو من الاستقلال حتى عام 1960 بعد صراع طويل. ولا تزال الشواهد موجودة على تلك الحقبة في الكونغو، وفي متاحف بلجيكا العريقة.
الدول الاستعمارية الأخرى لم تكن أقل قسوة بالضرورة، فالشواهد على الإبادة الجماعية الألمانية ما زالت موجودة، ومطامع بريطانيا بالألماس والذهب الكيني أفضت إلى جرائم بشعة مثل الاغتصاب والتعذيب والقتل الجماعي تحت ذريعة "إعادة التأهيل للسكان الأصليين ونشر العلم والتمدن". ونحن هنا نتحدث عن نفس السكان الأصليين الذين كان يلقبهم البريطانيون بالـ"متوحشين"
الخروج من الباب الخلفي
بعد عقود من الاستقلال الصوري في بعض حالاته، من الاستعمار الأوروبي لقارة أفريقيا، تبقى الشواهد والآثار التي لا يمكن إزالتها من الذاكرة الأفريقية، ففي الوقت الذي تمتلك فيه فرنسا 2436.3 طنًا من احتياطي الذهب في المركز الرابع عالميًا، لا تزال أفريقيا فقيرة من احتياطات الذهب! ولا تزال أفريقيا تعاني من الفقر والبطالة والمجاعات، بالرغم من أن القارة غنية بالموارد. يشير بعض المحللين إلى أن النظام الفرنسي وضع حكامًا موالين لها بعد منحها الاستقلال، ومن كان يعترض على السياسات الفرنسية ينتهي به الأمر بالقتل أو بحدوث فوضى، ربما تكون "خلاقة" بالنسبة لباريس، وتقلب موازين الحكم، وتنتهي بتعيين موالين جدد للعاصمة الفرنسية.
ذلك الحال لم يستمر، فبالرغم من التدخلات العسكرية الفرنسية في الدول الأفريقية منذ الستينات، إلا أن الأربعة أعوام الأخيرة شهدت انقلابات عسكرية للإطاحة بالأنظمة الموالية لباريس في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر والغابون. مؤخرًا، اعترفت ألمانيا بالإبادة الجماعية لشعب الهيريرو، واعترفت فرنسا بمسؤوليتها تجاه رواندا، وأعلن الجيش النيجيري أن القوات الفرنسية أكملت انسحابها من أراضيها، ولا تزال الكثير من المطالبات بالاعتذارات والتعويضات، وربما إعادة الآثار والتحف المسروقة من المستعمرات.
التعليقات