02/01/2021 - 22:05

أحمد سعدي: لهذا أضاءت إسرائيل شوارعنا.. ولم تطردنا من الجليل

د. أحمد سعدي: ثلاثة أسس للتعامل معنا: لا طرد دون حرب ولا مساواة كاملة ولا اعتبار فوق الأمن | أضاءوا قرانا لكشف تحركاتنا وعبّدوا الشوارع للوصول إلينا وأقاموا الانتخابات لمراقبة حركتنا | بقينا لأن احتلال الجليل جاء في المرحلة الأخيرة

أحمد سعدي: لهذا أضاءت إسرائيل شوارعنا.. ولم تطردنا من الجليل

شارون وبن غوريون (أرشيف الجيش الإسرائيلي)

بروفيسور أحمد سعدي:

  • ثلاثة أسس للتعامل معنا: لا طرد دون حرب ولا مساواة كاملة ولا اعتبار فوق النظرة الأمنية
  • أضاءوا قرانا لكشف تحركاتنا وعبّدوا الشوارع للوصول إلينا وأقاموا الانتخابات لمراقبة حركتنا
  • بقينا لأن احتلال الجليل جاء في المرحلة الأخيرة، ووقعنا وسط فكّي كمّاشة العملية العسكرية
  • علامة الاستفهام على بقائنا استمرت حتى 1952، وفي 1962 سأل شارون عن عدد الحافلات لترحيلنا

صدرت مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات النسخة العربية لكتاب "الرقابة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيلية في إدارة السكان ومراقبتهم والسيطرة السياسية تجاه الفلسطينيين"، للبروفيسور أحمد سعدي.

يعتمد الكتاب على مواد أرشيفية تكشّف لأول مرة، وهو محاولة جادّة لوصف المؤسسات والطرائق التي استعملتها إسرائيل لحكم الفلسطينيين منذ عام 1948 حتى نهاية الحكم العسكري (1966)، ووثيقةً تؤرخ لحياة الفلسطينيين الذين بقوا في أراضيهم ومدنهم وقراهم بعد قيام إسرائيل، وتصف معاناتهم وحياتهم في تلك الحقبة الحاسمة من تاريخهم.

ويتناول الباحث "أسس الخطاب الإسرائيلي المتعلّق بالأقلية الفلسطينية، وأحوال ظهوره وتَبلوره وهو خطاب لم يكن مقصورًا على عالم الأفكار والمجادلات، بل على صلة وثيقة بممارسة سلطة الدولة وآليات مراقبة السكان الفلسطينيين وإدارتهم".

الباحث أحمد سعدي
الباحث أحمد سعدي

كما يتناول الباحث ترجمة هذا الخطاب إلى خطط ومبادئ موجِّهة للسياسات، وهي مبادئ وخطط تدحض الإجماع السائد بعدم وجود سياسات للدولة (إسرائيل) إزاء الفلسطينيين، كذلك يتناول الأطر القانونية والمؤسساتية التي جرى حكم الفلسطينيين من خلالها، والتي شملت أدوات تنفيذ الخطط والمبادئ الموجهة.

وحول البحث وسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين الباقين في الوطن المحتل وتداعياتها على تطورهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، كان هذا الحوار مع المحاضر في قسم السياسة والحكم في جامعة بئر السبع، بروفيسور أحمد سعدي.

عرب 48: كتابك هو إضاءة على فترة "مظلمة" من تاريخنا الفلسطيني، هي فترة الحكم العسكري، التي لم يكشف ولم يكتب عنها الكثير، علما أنّنا، بالعموم، نعرف أنّ إسرائيل مارست ضدّنا ما سمّته سياسة الضبط والسيطرة، والتي تقف وراءها "رؤوس" وأفكار وخطط وهو ما تناوله كتابك؟

سعدي: في الحقيقة أنّه حتى سنة 1952 ظلّ يراود إسرائيل أمل بطرد الفلسطينيين المتبقين في المساحة التي أقامت عليها دولتها من فلسطين، والغريب أنّ المسؤول عن كل هذا الموضوع الذي يرد تحت علامة "استفهام"، هو وزير الخارجية، موشيه شاريت، الذي كان محسوبا على "الحمائم".

ويرتبط هذا التفكير بالاعتقاد الذي كان سائدًا حول احتمالية وقوع جولة ثانية من الحرب، سيتم تحت دخانها طرد والتخلص ممّا تبقى من العرب كما حدث في الجولة الأولى، إلّا أنّ هذا التفكير الذي اشترط الطرد بالحرب، حذّر، في المقابل، من القيام بعملية طرد كبيرة دون حرب لما قد تُحدثه من ردود فعل وتداعيات على سمعة إسرائيل وعلى الأقليات اليهودية في العالم.

من هنا، نلاحظ أنّ قانون المواطنة الإسرائيلي تأخر صدوره إلى عام 1952، إلى جانب عدّة قوانين أخرى صدرت في السنة ذاتها، بعد أن تأكّد أنّ عملية طرد العرب لن تحدث وجولة ثانية من الحرب لن تقع قريبا.

إلّا أنّ هاجس الطرد لم يغب عن مخيلة القيادة الإسرائيلية حتى بعد ذلك أيضا، ففي عام 1962 كانت لدى أريئيل شارون خطة لمهاجمة سورية وطرد سكان الجليل، حتى أنّ هذا التفكير وصل إلى بحث خطوات عملية مثل السؤال عن عدد السيارات المطلوبة لنقلهم إلى سورية.

كذلك خطّة ترحيل المسيحيين الفلسطينيين من الجليل إلى الأرجنتين والبرازيل، إلى جانب ما كشفت عنه مجزرة كفر قاسم من محاولة لاستغلال الحرب (العدوان الثلاثي على مصر) لتنفيذ مخطط الترحيل.

عرب 48: بعد أن فشلت مخطّطات الطرد، كيف تعاملوا مع الأمر الواقع؟

سعدي: المثير للاهتمام هو التخطيط الممنهج في مسألة التعامل مع العرب، وهو تخطيط اشترك في جلساته أهم الشخصيات في الدولة: دافيد بن غوريون، يتسحاق بن تسفي، موشيه ديان، موشيه شاريت، آبا إيبان، إيسار هرئيل، إلى جانب مشعال شيختر، الذي كان قائد وحدة الأقليات، ويهوشوع بالمون، الذي كان أوّل مستشار للشؤون العربية، وشموئيل طوليدانو، أبا حوشي، أمنون لين ورؤوفين باريكيت، الذي كان رئيس القسم العربي في الهستدروت، التي لعبت دورًا محوريًا في تنفيذ هذه الخطط.

في البداية، بُدِئ بإعادة إنتاج أرشيف القرى، للقرى الفلسطينية المتبقية، وهو الأرشيف الذي بدأ إعداده في الثلاثينيّات من القرن الماضي، ويحتوي على مسح شامل يضمّ عددَ السكّان الأصليين مقابل المهجرين، الطوائف الدينية وتعدادها، زعيم كل عائلة وكيف نؤثر عليه إن كان عن طريق شغل أو عن طريق التخويف أو إزاحته وتعيين مختار إضافي، والكثير من المعلومات عن القرية التي تساعد على فهم كيفية إثارة الحساسيّات داخلها، مثل وجود ثأر أو عداوات وغيرها، والوصول، بالتالي، إلى أن يسيطر المجتمع العربي على نفسه ضمن عملية ضبط ذاتي: العائلة تسيطر على أولادها وزعيم الحمولة المرتبط بالسلطة يسيطر على أفرادها.

عرب 48: ولكنّك تحدّثت عن خطط للسيطرة على الفلسطينيين المتبقين.

سعدي: أول خطة إسرائيلية متكاملة للسيطرة على الفلسطينيين أعدت عام 1958، وكلنا يذكر وثيقة كينغ العنصرية، ولكن القليل يعرفون أنّها تطوير لوثيقة طوليدانو وهذه الوثائق كانت موجودة ومتداولة كجزء من التفكير الإستراتيجي.

خطة 58 وضعها جهاز المخابرات "الشين بيت"، ومكتب مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية والقسم العربي في الهستدروت، وهي مبنية على ثلاثة مبادئ: الأول يقول إنّ طرد العرب دون حرب أمر غير ممكن ومن الممكن أن نفكّر بطردهم في حالة حرب؛ والثاني أنّ استيعاب العرب في الدولة كمواطنين متساوين غير ممكن ومن الممكن إبقاؤهم على هامش المجتمع الإسرائيلي ولن يكونوا في يوم من الأيام مواطنين متساوين؛ والمبدأ الثالث هو التعامل معهم من خلال النظرة الأمنية التي تعطي المسائل الأمنية أولوية على أيّة اعتبارات أخرى.

الخطة تتحدّث عن الضبط السياسيّ، وتدعو إلى إقامة مجموعة من المتعاونين على المستوى المحلي، هؤلاء المتعاونون يجب ألّا يعرفوا بعضم بعضًا وأن ينتشروا في الميدان المحلي، وفي حالة أيّ صراع بين العرب وبين الدولة يجب إظهاره على أنّه صراع بين متطرفين ومعتدلين، عبر إظهار هؤلاء كمجموعة المعتدلين وذلك بغية تصوير أنّ نضال الفلسطينيين هو ليس للانفصال عن إسرائيل أو ضد أعمال إسرائيل أو شيء من هذا القبيل.

الأمر الثاني هو تقسيم الفلسطينيين جغرافيًا من خلال ضرب أسافين بين التجمّعات العربية لمنع خلق امتداد جغرافي، وذلك بواسطة إقامة معسكرات جيش ومعسكرات شرطة ومستوطنات يهودية بين هذه القرى.

الأمر الثالث هو التعامل مع العرب كمجموعات إثنية وليس كمجموعة قومية واحدة، والأمر الرابع هو إبقاء العرب مرتبطين اقتصاديًا وبشكل مباشر بالدولة والهستدروت من خلال إقامة مشاريع تجارية تكون مربحة للدولة والهستدروت.

لاجئون من الجليل في لبنان عام النكبة (أرشيف أ ب)
لاجئون من الجليل في لبنان عام النكبة (أرشيف أ ب)

الأمر الخامس هو "منح" العرب، وهو شيء مفاجئ، مجالس محلية، والأكثر مفاجأة، هي اللغة التي استعملوها، فقد استعملوا لغة ميشيل فوكو قبل أن يكتبها ميشيل فوكو نفسه.

عرب 48: ماذا كان الغرض من "منحنا" مجالس محلية؟

سعدي: هناك عقلية غريبة في التعامل معنا، فأنتَ تعتقد أن إضاءة شوارعنا وقرانا نابع من الرغبة بتطوير هذا الحيّز الجغرافي كجزء من الدولة، بينما تفاجأ بتصريح رئيس اللجنة الذي هو رئيس الهستدروت، رؤوفين باريكت، يقول عندما نسافر في شارع وادي عارة نرى ظلاما، لذلك يجب إضاءة القرى العربية لتكون تحت مراقبتنا في الليل والنهار أيضًا، كذلك الأمر بالنسبة لشقّ وتعبيد الشوارع الموصلة لهذه القرى بهدف تسهيل الوصول إليها لمراقبة سكّانها.

في هذا السياق، تندرج مسألة إقامة مجالس محلية، والتي تظهر وكأنّها ديمقراطية، بينما الهدف الحقيقي هو إذكاء الخصومات بين العائلات على الحكم المحلي.

عرب 48: ما تقوله ليس تحليلا أو استنتاجا بل هو مكتوب بالخطة حرفيا؟

سعدي: طبعًا، هو مكتوب كلمة بكلمة في الأرشيفات التي وصلت إليها وفيها خطّة متكاملة، حيث تنص على أنّ الانتخابات، أيضًا، هي منصّة لمراقبة العرب، كما أنّ المجالس هي مورد لتوظيف الشباب العرب، بحيث يموّل العرب ذاتهم مسألة توظيف المثقفين العرب وتشغيلهم.

وقد استحوذ موضوع "الإنتلجنتسيا" (النخبة المثقّفة) العربية على أهمية استثنائية في النقاشات، خاصّة وأنّ جزءًا من المشاركين في بلورة الخطط هم من أصول شرق أوروبية ومتأثرون بالنظرة الماركسية لدور المثقفين وقدرتهم على إحداث التغيير، ويريدون إبقاء هؤلاء المثقّفين هادئين.

لقد تبنّوا شعار الإمبراطورية الرومانية بإعطاء العرب "خبزًا وترفيهًا"، ولذلك أغدقوا علينا بالعروض الموسيقية وفرق المسرح وعروض الأفلام التي كانت تقوم بها أذرع الهستدروت.

الأمر الثاني الذي قاموا به في هذا الاتجاه هو تغيير قاعدة المثقفين، فقد جاء المثقفون زمن الانتداب من المناطق الحضرية، وكان لهم دور أساسي في الحركة الوطنية الفلسطينية، وراكموا تجربة نضالية، ولأن الطبقة الغنية تضررت نتيجة إقامة دولة إسرائيل فهم حاقدون على الدولة.

لهذه الأسباب، سعت إسرائيل إلى إنشاء طبقة مثقفين يأتون من القرى ولا يوجد لديهم تاريخ نضالي في الحركة الوطنية، وهم - إضافة إلى شعورهم بالجميل الذي أسدته لهم دولة إسرائيل - سيُستعملون في دعاية أنّ إسرائيل تقوم بتطوير أهالي القرى.

لقد توصلوا إلى نتيجة أنّ تأثير المثقف العربي على المجتمع هو أكبر بكثير من تأثير الدولة أو الإعلام أو غيره، ناهيك عن الطموح باستخدام هؤلاء في الخارج لأغراض الدعاية الإسرائيلية.

عرب 48: لم تأتِ على ذكر جهاز التعليم، فنحن نعرف أنّه لعب دورًا مهمًّا في قضية الضبط والسيطرة؟

سعدي: مسألة الرقابة في جهاز التعليم كانت تبدأ من الطلاب الذين يتسجّلون للثانويات ودور المعلمين وحتى الجامعات، التي كانت تبعث قوائم الطلاب لمكتب المستشار مجدولة بأسماء الكليات والعناوين مع تأشيرة سلبي أم إيجابي بجانب كل اسم. والذين وردت شارة إيجابية بجانب أسمائهم، هم الذين أصبحوا لاحقًا مديرين ومفتشين وأصحاب مناصب أخرى.

وقد شاهدت بأم عيني قوائم تضم أسماء وعائلات وصلات قربى وماذا يعمل أهلهم وذلك حتى سنة 1977، ومنهم المحامي محمد كيوان من أم الفحم وهو أحد مؤسسي حركة "أبناء البلد"، الذي كتب بجانب اسمه أنّه راديكالي وعنصر سلبي، والدكتور نظير يونس من عارة.

عرب 48: وماذا عن خطة طوليدانو؟

سعدي: الخطة الثانية هي خطة 1968، التي عرفت بخطة طوليدانو، والتي أشرت سابقا إلى أنّ وثيقة كينغ هي تطوير لبعض عناصرها.

خطة طوليدانو تتحدّث عن منع إقامة أحزاب عربية مستقلة، منع مؤسسات إسلامية على مستوى الدولة ومنع احتفالات إسلامية على مستوى الدولة مثل احتفالات النبي روبين (قرية على ضفاف وادي السرار، جنوب يافا وكان يقام فيها احتفال سنوي – المحرّر) وزيارة الأولياء، والتي اختفت من بلادنا ربّما نتيجة لهذا المنع.

من تهجير عراق المنشيّة (أرشيف الجيش الإسرائيلي)
من تهجير عراق المنشيّة (أرشيف الجيش الإسرائيلي)

الأمر الثاني هو منع إقامة منظمات قطرية عربية، حيث كانت محاولات سابقة لإقامة لجنة قطرية للمجالس المحلية بادر إليها جبور جبور وآخرون، كذلك منع مؤسسات اقتصادية عربية كبيرة مثل بنك عربي، ونقابة عربية، وغرفة تجارية عربية، وبدلا من ذلك العمل على ربط العرب بالاقتصاد الإسرائيلي وتعميق تبعيتهم إليه، وأيضًا منع إقامة مؤسسات اجتماعية ورياضية وترفيهية عربية، مثل نوادٍ رياضية، حيث كانت محاولة لإقامة اتحاد كرة قدم في المثلث ومُنعَت.

كما نصت الخطة على تفضيل العناصر الإيجابية، بمفهومهم، على العناصر السلبية وتطوير قيادة عربية على كل المستويات، تشمل المديرين والمفتشين ورؤساء المجالس وأعضاء الكنيست ورؤساء القوائم العربية.

في القضية الديموغرافية، جرت محاولة تثبيت وبث مفهوم تنظيم الأسرة بكل الوسائل ووجدوا أنّ هناك علاقة بين تشجيع تعليم المرأة العربية وبين تقليص عدد الأطفال، وفي المفاضلة بين أن يكون المجتمع العربي مجتمعًا صغيرًا مع وعي وطني أو مجتمعًا كبيرًا مع وعي وطني منخفض، اختاروا الأول لإدراكهم أنّ بمقدورهم احتواء الوعي الوطني، ولكن في غير مقدورهم احتواء الكمّ الديموغرافي.

الخطة دعت، أيضًا، إلى تشجيع هجرة العرب إلى الخارج وتشجيع الهجرة الداخلية ضمن سياسة توزيع السكان العرب، وكذلك دعت إلى ترسيخ العائلة والحمولة والقبيلة ومنع انهيارها، كما دعت إلى تفضيل الدروز والشركس والمسيحيين من الروم الكاثوليك الذين أخرجوا من هذا التفضيل بعد عام 1967.

الكتاب صدر بالعربية عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"
الكتاب صدر بالعربية عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"

عرب 48: ماذا عن موضوع مصادرة الأراضي؟

سعدي: في موضوع الأرض دعت الخطة إلى إنهاء حقوق الناس في الأرض التي تمت مصادرتها، وإذا كان هناك حاجة لمصادرة أراض لأغراض عسكريّة، وهذا ما فعلوه عشية يوم الأرض 1976، كما دعت الخطة إلى هدم البيوت العربية التي يتم بناؤها خارج مسطّح القرى.

وفي موضوع البدو، دعت إلى تغيير أسلوب حياتهم وتركيزهم في تجمعات زراعية وحضرية لتسهيل الاستيلاء على أراضيهم.

عرب 48: من الواضح أنّ هذه الخطط والسياسات أحدثت ضررا غير قابل للإصلاح في مسيرة تطور جماهيرنا الفلسطينية الباقية في وطنها، أولّه هو شل قدرتها على بناء اقتصاد وطني مستقلّ، وبالتالي الوصول إلى نوع من الاستقلال السياسي؟

سعدي: من المفارقة أنّه في الموضوع الاقتصادي، وبعد مصادرة الأرض كمصدر أساسي وتحويل الفلسطينيين إلى عمّال في المدن والمستوطنات اليهودية، تم التخطيط لإقامة دكاكين تعاونية تابعة للهستدروت داخل القرى العربية بهدف ما سمّوه "شفط" الأموال التي يحصل عليها هؤلاء العمال من هذه المستوطنات لقاء عملهم واستعادتها إليهم.

ومن المفيد إيراد تصريح لموظف في وزارة المالية في سنوات الخمسين قال فيه إنّ مصادرة أراضي العرب ستؤدي إلى إفقارهم جيلًا بعد جيل للأبد، وهو ما نراه اليوم بنسبة الفقر التي تتعدى الـ50% .

عرب 48: نحن نقول يكفي أنّنا بقينا، صمدنا أمام التهجير في الـ48، وصمدنا أمام جميع خططهم التصفوية التي تحدثت عنها..

سعدي: بالنسبة لعدم تهجيرنا في الـ48 من الجيّد أن نذكر حقيقة تفنّد ما يقوله الشيوعيون من أنّهم مَنَعوا التهجير بوقوفهم أمّام السيارات، وما يقوله العملاء من أنّهم عقدوا الاتفاقات وتحدّثوا مع أبو فلان وعلان من رجال المخابرات.

فقد شرح موشيه ديان وموشيه شاريت حقيقة ما جرى مع العرب في الجليل، الذين أثار بقاؤهم غضبًا كبيرًا في الأوساط الصهيونية، حيث بيّنا أنّ احتلال الجليل جرى في المرحلة الثالثة من الحرب، ولو كان في المرحلة الأولى لأصابه ما أصاب المناطق الأخرى من طرد.

ويقول شاريت إنّه عندما واجهنا في تلك المناطق قرى رفضت وتمسكت بأرضها استعملنا كل قوة عسكرية وكل إرادة لطردهم، وذلك جرى حتى مع قرى كانت تعتبر "صديقة" ووقّعت اتفاقيات عدم اعتداء مثل دير ياسين ولفتا.

في الجليل كان الهدف الوصول إلى الحدود الدولية بالسرعة الممكنة، تخوّفًا من تدخل ممكن للمجتمع الدولي ولذلك استعملت خطة فكيّ الكماشة وهكذا بقي الكثير من القرى العربية في الوسط ولم يتسنَّ طردهم.


*أحمد سعدي بروفيسور في قسم السياسة والحكم في جامعة بن غوريون في مدينة بئر السبع بالنقب. يتمحور بحثه حول مواضيع متنوعة بما في ذلك الذاكرة الجماعية؛ المراقبة والسيطرة السياسية وإدارة السكان؛ الاستعمار وما بعد الاستعمار؛ التنمية والتنمية المعاقة.
شارك مع ليلى أبو لغد في تحرير كتاب "النكبة: فلسطين، 1948 ومطالب الذاكرة" الصادر عن مطبعة جامعة كولومبيا عام 2007، وصدر كتابه - محور المقابلة - "المراقبة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيلية لإدارة السكان والرقابة السياسية تجاه الفلسطينيين" باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة مانشستر عام 2013؛ وعن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة عام 2020. هذا بالإضافة إلى عشرات المقالات البحثية والمشاركات في كتب علمية. عمل أستاذا زائرا في جامعات مختلفة منها: جامعة واسدا في اليابان، الجامعة الوطنية في سنغافورة وجامعة كولومبيا في نيويورك. وقد نشرت أبحاثة باللغات الإنجليزية والعربية والعبرية والألمانية واليابانية والإسبانية والفارسية.

التعليقات