رايـــــــــــــــة الإصـــــــــــــــــرار!

في العام 2007، بينما كانت في طريقها مع أقاربها الصغار إلى الروضة، وجدوا مسدسًا مرميًا، ظنوه لعبة، المسافة بين الظنّ والحقيقة كانت رصاصتان حددتا مصير طفلة لامعة وغيّرتا حياتها

رايـــــــــــــــة الإصـــــــــــــــــرار!

راية أبو فول

في العام 2007، بينما كانت في طريقها مع أقاربها الصغار إلى الروضة، وجدوا مسدسًا مرميًا، ظنوه لعبة، المسافة بين الظنّ والحقيقة كانت رصاصتان حددتا مصير طفلة لامعة وغيّرتا حياتها.

 

 

 

التقيتها، أواخر أيام الشتاء الماضي، بعد أن قرع الجرس ليُعلن نهاية الحصة الأولى، جاءت إليّ، ابتسمت لي، في طريقها إلى صفها (الصف الرابع الإبتدائي في مدرسة ابن رشد الجماهيرية في جت المثلث)، التقت ببعض الطلاب الذين ابتسموا لها، قائلين: "مرحبا راية"، ضحكت لهم وواصلت طريقها، فتحت الباب، دخلتُ ورائها، استأذنتُ المعلمة، كي أرافقها في حصة اللغة العربية.

كان على المعلمة أن تلفت نظر الطلاب، إلى وجودِ ضيفة في الصيف، وأنّ عليهم أن يكونوا هادئين، وعدوا بذلك، لكنهم أخلّوا بالوعد، باستثناء راية، التي صمتت طويلاً، كانت تنظرُ إلى السيدة التي تجلس قبالتها، إنها مرافقتها التي تُساعِدها في نقل الدروس.

بطلة القصة
وبانتهاء الحصة، تجمهر الطلاب حولي لألتقط لهم صورة، حتى غادروا جميعًا إلى الساحة للّعب، أما راية، فظلّت صامتة على كرسيها المتحرّك. حين سألتُها، ماذا تُحب أن تفعل في وقتٍ الفراغ، قالت: "قراءة قصص الأطفال"، وروت لي حكاية "ليلى" التي تُحب عائلتها ودروسها وأصدقائها، وكانت تُسافر مسافة بعيدة مشيًا على الأقدام، كي تخدُم جدتها، ورغم الصعاب في الطريق، كانت تُصرُ دائمًا أن تذهب هي بنفسها إلى جدتها، كي تلبي احتياجاتها".

تستحق راية الطفلةٌ الهادئة المحبة لمطالعة القصص والحاسوب وألعاب الذكاء والرحلات، التي تبدّل أحلامها وتحتار بينها، تتمنى أن تصبح طبيبة أو معلمة أو بائعة فساتين عرائس أو حتى بائعة مجوهرات! أن تكون بطلة لقصة عن طفلة تتقبّلُ واقعها الصعب وتتحداه، بصمتٍ وابتسامة وثقة، كي لا تُشعِر الآخرين بهمها. سألتها: ماذا تشعرين؟! قالت: اللهُ أخذ مِني نعمة المشي، لكنه أعطاني نعمة البصر والقدرة على التعلُم، وأنا "مبسوطة". كلامُها جعلني أتخلى عن إلحاحي بمواصلة الأسئلة.

"راية لا تحكي قصتها"، قالت لي أمها حابسة دمعتها، "سأحكي أنا لك إياها".

الصباح المشؤوم
في الثالث عشر من شهر حزيران في العام 2007، في أيام شهدت إطلاقًا كثيفًا للرصاص في جت، تبعتها حملة تفتيش عن الأسلحة غير المرخصة، كانت راية في طريقها إلى الروضة، برفقة شقيقها وأبناء خالتها،  وعثروا على مسدسٍ مرميٍ قربِ بيتِ خالتها، مسكه أحد الأطفال، ظنه لعبةً مُسليّة، ضغطَ على الزناد فتطايرت رصاصتان في الهواء واحدةٌ استقرت في كتفِ راية، والثانية طارت إلى حائط البيت، سقطت راية أرضًا، وتبيّن لاحقًا أنّ رصاصةً غادرة أصابت العامود الفقري.

تحكي الأم "حملوا راية ونقلوها إلى المركز الطبي في البلدة، وكان لا بُد من الحصول على بطاقة المرضى، فجاءَت اختي وزوجها، هدير السيارةِ كان عاليًا صاخبًا، ففزعت، ونظرتُ من الشباك وإذ بهم يشيرون إليّ بأيديهم أن أحضُر، طلبوا البطاقة، وقالوا راية أصيبت بطلقة رصاص، "لا شيء"، "لا تفزعي"، الرصاصة مرّت من قربها، فسقطت على الأرض، هكذا ظنّت شقيقتي، لم تعرف أنّ الرصاصة دخلت الكتف اليمين وخرجت من كتف الشمال".

"رجلاي لم تقويا على حملي، مضى وقت حتى تدبرتُ أمري ولحقتُ بهم إلى مستشفى الخضيرة، تبيّن في صورة الأشعة أنّ هناك شظايا في جسمها، وأن رئتيها تعبئتا بالماء. أمضت أسبوعين في قسم العلاج المكثف، وكانت تعاني من ضيق التنفس، تعذبت، وفي كل مرةٍ يحضرون طبيبًا أخصائيًا جديدًا، وعندما لم يجدوا الحل أرسلوها إلى مستشفى تل هشومير، في الليلة الثانية كانت المفاجأة، بمحاولةِ الدكتورة فحص مجرى التنفس، لمعرفة سبب صعوبة التنفس، فصور الأشعة العادية لا تُظهر شيئًا، فجربت أن تدخل ابرةٍ تحقنها وتسحبها من مكانها، فتبيّن أنّ قطعة من اللحم تسدُ مجرى التنفس، وبدأت راية بالتحسُن".

سبعة أشهر
"أمضت راية سبعة أشهرٍ في تل هشومير، في عملية إعادة تأهيل ومرحلة علاجية دقيقة، لمساعدتها في التحسُن، رافقتُ راية وكان في حضني طفلٌ يبلغ من العمر شهرين ونصف (مالك)، توقفت عن إرضاعه، في أولِ شهرين منعت راية من أن تتحرك، فإصابتها بالظهر كانت صعبة، ما كُنا نفعله هو تغيير موضع الوسادة حتى لا تتأذى بسبب النوم المتواصل".

"راية تعاني من شللٍ نصفي، بما في ذلك بطنها وعضلات رجليها، وهي طفلةٌ مجتهدة، نجحت بتميز في امتحان الطلاب الموهوبين، وتملك شخصية قوية وأتعامل معها بشكلٍ عاديٍ، لا أحرمها من الدورات والرحلات مهما كلّف الأمر، فمن حقها أن تعيش كباقي أترابها، الحياةُ في بيتنا كانت حلوة، لكنها أصبحت صعبة، وصرتُ أفزع وأكره سماع صوت الرصاص عندما ينطلق كالصاعقة على مسمعي".

"في بداية المرحلة التي عادت فيها راية الى البيت، كان الأمرُ صعبًا، كنتُ أنزل وأصعد السلالم ثمانية مراتٍ في اليوم، بين إحضار الكرسي، وإنزال البنت، وتنزيل الحقيبة، وتثبيت الكرسي، لكن مع الوقت صارَ الأمرُ عاديًا، روتينيًا، وتسهل الأمر عندما حصلنا على مُرافِقة، مُساعِدة لراية في صفها".

شخصية!
تشعرُ أم راية بلحظات ضعفٍ كثيرة، تبكي، تشكو لنفسها، تُسائِل نفسها "لِمن سأشكو ما أشعرُ بِه، هو إحساسٌ صعبٌ جدًا أعيشه، ومِن الصعب أن يفهمه آخرون، وأكثر ما يؤلمني، الأمور التي حرمت منها راية، حرمت من طفولتها، من متعة الرحلات، متعة اللعب، وما لا يمكنها أن تفعله خلال رحلات التنزه، لم نعد نقوم به، نذهب جميعًا إلى المجمعات التجارية، وحُرم شقيقيها مِن اللعب، كي لا تنظر إليهم بحسرة، لكنهما سعيدان برفقتها".

"ماذا أصف لكِ راية؟!! شخصية قيادية، تجمع صديقاتها وزملاء صفها وتخترع ألعابًا، تُسليهم بها، يحبها الجميع، وهي مرتبطة بطلاب صفها، تستطيع أن تُوجه زملائها كما لو أنها معلمة، لكنها بينها وبين نفسها تخبئ، ما أنجح بمعرفته، قد تغضب، لكنها لا تُخرج ما بداخلها...أمنيتي الكبيرة أن تحصل راية على شهادةٍ وتُنهي دراستها وتختار موضوعًا تعليميًا أكاديميًا، يكون جواز سفرها لهذا المجتمع".

يُحتذى بها
وترى المستشارة التربوية لطفية غرة في راية، نموذجًا مميزًا لطفلةٍ تسعى إلى النجاح، وتضع هدف العلم نُصب عينيها، ناهيك عن الأخلاق والاحترام والتعامُل الحسن، وهي صفاتٍ يصعُب الحفاظ عليها في ظل العنف وفورة الغضب التي يعيشها مجتمعنا العربي.

إنها طفلة رائعة، تقول المستشارة، تستطيع أن تقف أمام صفها وأن تتحول إلى معلمة تُسعد جميع زملائها، تحمل ثقة كبيرة بالنفس، وتستطيع أن تؤثر على طلاب صفها لدرجة أنها قد تبكيهم عندما تتحسر على عدم قدرتها القيام بالكثير من الأمور بسبب الإعاقة كممارسة الرياضة والفعاليات الصفية الأخرى.

لكنّ الحضن العائلي، تقول السيدة لطفية غرة، يزيدها ثقة بالنفس، ويعوض عن الإعاقة الموجودة، والتعامل الجيّد يؤثر على الطفل فقد يهدم التعامل السيء شخصية طفلٍ أو يرفعه ويزيده نجاحًا بسبب الأهل والمعلمين والطلاب والزملاء، فجميع هؤلاء شركاء في النتيجة التي يصل لها الطالب ذو الاحتياجات الخاصة.

وتمنّت المستشارة غرة لراية النجاح والتفوق وتحصيل شهادةٍ عليا، ودعت لها بالشفاء... كما تمنت على هذا المجتمع أن يكف عن ممارسة العنف وظاهرة الغضب التي قد تدمر أمةً كاملة، وفي نفس الوقت ترى المستشارة التربوية أنّ الدين الحقيقي لا يكتمل الا بالأخلاق والتصرفات والاحترام ونبذ العنف والتسامح بين جميع الشعوب، بذلك نضمن مجتمعًا آمنًا، بعيدًا عن العنف والجرائم، والضحايا التي تسقط كل يوم.

تجاوز
استطاعت راية، لفت أنظار طلاب ومعلمي ومدير مدرستها، وأبناء بلدتها، بتجاوزها الواقع الصعب، وفرض واقعٍ جديد، فيه كثيرٌ مِن الرغبة بالتميّز، والحفاظ على أواصر الصداقة مع زملائها في المدرسة ومع أشقائها أيضًا، وقد لا يشعر كثيرون مِنا ما يمكن أن تشعر بِه طفلةٌ صغيرة غيّرت رصاصة طائشة مسار حياتها.

راية بكت، غضبت، اجترعت الأحزان في داخلها بالبداية، لكنها صمدت، وتجاوزت هذه المرحلة، وصارَ الكرسيُ بالنسبةِ لها، رفيق دربها، الذي يساعدها في الوصول إلى ما تريد. راية، تحملُ همومًا كبر الجبال، وقلبًا وسعه الجميع، وأحلامًا ترى الأفق من جبال الإرادة.

التعليقات