حيفا: عائلات خارج الضوء في مدينة الأضواء

وسط مدينة الأضواء وبين جبال الكرمل وشواطئها، عوائل لا ترى النور، ولا تشم من البحر سوى رائحة الرطوبة ومنظر الشبابيك المتآكلة، وفي أكثر الطرقات اكتظاظاً في المدينة يختفون في بنايات تتكوّن من طوابق عديدة، وأكثر من ١٠ عائلات في الطابق الواحد، ومقاعد حجرية بالإضافة إلى سلالم تآكلت وتعفّنت على مدار الزمن ومرور السنين.

حيفا: عائلات خارج الضوء في مدينة الأضواء

وسط مدينة الأضواء وبين جبال الكرمل وشواطئها، عوائل لا ترى النور، ولا تشم من البحر سوى رائحة الرطوبة ومنظر الشبابيك المتآكلة، وفي أكثر الطرقات اكتظاظاً في المدينة يختفون في بنايات تتكوّن من طوابق عديدة، وأكثر من ١٠ عائلات في الطابق الواحد، ومقاعد حجرية بالإضافة إلى سلالم تآكلت وتعفّنت على مدار الزمن ومرور السنين.

انحدرنا يميناً في شارع رئيسيّ في مدينة حيفا، حيث الحياة في أشد مراكز المدينة. مدخل لا يرى النور ولا النور يراه. صعود الدرجة الأولى كان كافياً لقطع عوالم مختلفة، وليشكّل خطاً وهمياً يفصل بين الوجود والعدم، أكياس من القمامة مرمية على الجانب الأيسر من البناية، ومنظر السلالم يوحي بأن هذه البناية هجرت منذ سنوات طويلة، أمّا المصعد فهو غير موجود على الرغم من الجدران الإسمنتية المخصصة للمصعد.

الخوف هو المسيطر الأول لدى دخول البناية، منظر الحديد والمقاعد الخشبية لا يوحي إلّا بالسجن، بعض الجالسين على تلك المقاعد الخشبية داخل البناية ينظرون بريبة وحذر، ومن الواضح أنهم أخفوا شيئاً مع دخولنا، والواضح أن أحداً لا يدخل هذه البناية إلّا سكّانها ممّا يجعل من وجودنا خطرا علينا وعليهم.

'عرب ٤٨' التقى عائلة حيفاوية، من العوائل التي لا ترى النور، داخل هذه البناية المهجورة وسكّانها.

البداية: إعاقة وإصابة وثلاث وردات في المنزل

بدأت القصة قبل حواليّ ٦ سنوات، حين أصيب الأب بمرض جعله لا يقوى على العمل. وبعد سنوات طويلة عمل خلالها في مجال الترميمات أرغمه المرض على الجلوس في المنزل، مع أولاده الثلاثة ليرعاهم ويرعى تطوّرهم، إلا أن المأساة استمرت حين أصيبت الأم أيضاً بإصابة عمل لم تعد تسمح لها بالعمل ممّا اضطرها للجلوس بدورها في المنزل بأمر من طبيب مختص ممّا جعل من حياة العائلة شبه مستحيلة.

ثلاثة أبناء يكبرون الواحد الآخر بسنة أو سنتين وأب وأم، ٥ أفراد العائلة فقدوا الحياة حين فقدوا مقوّماتها، فالمبلغ الذي يتقاضاه الخمسة لا يتعدّى ال ٣٥٠٠ شيكل فقط شهرياً، وإذا ما أزلنا من هذا المبلغ ألف شاقلاً ما تتقاضاه المدرسة لقاء تعليم الأولاد الثلاثة يتبقّى منه ٢٥٠٠ شيكل، يخصم منها ضريبة ومصاريف كهرباء وماء ما يقارب ١٠٠٠ شيكل. ١٥٠٠ شيكل هو ما يتبقّى لتعتاش منه عائلة مكوّنة من ٥ أنفار، وسط مدينة حيفا.

عندما بدأت الأم بسرد القصة، كان الأبناء يجلسون في المحيط. أمرتهم بالدخول للغرفة المقابلة، وبدأت بسرد الحكاية مستذكرة الأيام التي كانت هي والأب يعملون خلالها، فقال لها الأب مبتسماً (بتتذكّري)، وبحنين عاد إلى تلك الأيام ليشير إلى ما قبل هذا الزمن البائس، وكيف أنجب ثلاث وردات، مشيراً إلى أبنائه الثلاثة، وكيف كان يحيا بسلم كأي عائلة طبيعية لها طموح وأحلام.

الإصابة والحالة الصحية التي أخذت بالتردّي قتلت كل الأحلام، آلام المفاصل وعدم القدرة على حمل الأثقال قتلت ما تبقّى، هذا ما اتضح حين وصل لوصف حاله اليوم.

عملت الأم لفترة تجاوزت سبع سنوات في أحد الفنادق، إلّا أن الإصابة منعتها من الاستمرار في العمل، وفاقم جشع رأس المال حين رفض منحها مكتوب الإقالة والأتعاب من حدة الأزمة في عائلة قد يكون كل تأخير في كل ١٠٠ شيكل له تأثير كبير على مصيرها.

البناية والحياة الاجتماعية: لا نأمن خروج أطفالنا من البيت

وعن الأمان على الأطفال في وسط الفوضى العارمة في البناية، والتي لم تقتصر على درّاجات هوائية ملقاة على السلالم، فالطابق الأول من البناية ملجأ لكل من لا يجد مأوى في المدينة، وزجاجات الكحول المرمية على عتبات المنازل، وآثار متعاطي السموم، قالت الأم إن 'الخروج من المنزل بعد غياب الشمس بالنسبة للأولاد مرفوض بشكل تام، هم زهراتنا في هذا العالم، وكما ترى فلا مكان يستطيعون اللعب فيه، ولا أمان، بالإضافة إلى الخطر الكامن في منظر البناية ومخلّفات متعاطي السموم ومدمني الكحول في مداخل البناية'.

وتطرّقت الأم لتاريخ هذه البناية التي يسكنونها منذ ما يقارب ١٢ عاماً، وقالت إن 'هذه البناية ومع مرور السنين أخذ حالها بالتردّي شيئا فشيئا، واستقبلت على مدار السنين زوّارا من طبقة معينة ممّا منع الاختلاط وتطوّر البناية، وجعل من حالتها في تردّ دائم'. وتعدّ هذه السياسة سياسة ممنهجة من قبل البلدية ولجان التخطيط، وتهدف إلى إبقاء أبناء المدينة المهمّشين في ذات البقعة ممّا يمنعها عن التطوّر.

أمّا عن الاجتماعيات، فقالت الأم إن 'حياتنا الاجتماعية معدومة هنا، فلا جيران نستطيع التواصل معهم، ولا نأمن لأطفالنا بالخروج من البيت'.

الأولويات: هدية العيد هذا العام

شبه مستحيل، أن تستطيع عائلة مكوّنة من ٥ أفراد أن تحيا من مبلغ ١٥٠٠ شهرياً، وتشير الوالدة إلى درج مهمل، وتقول: 'هنا تسكن الأوليات المتراكمة علينا، فالأطفال هم من لا يجب أن ينقصهم أي شيء، أمّا فواتير الهاتف والكهرباء والماء فلتتأجل بضعة أشهر، والأكل يقتصر على الأساسيات'.

وأشار الوالد إلى الدرج ذاته وقال: 'لقد وصلنا مرحلة اليأس، وتوقفت عن فتح المكاتيب التي تصلنا'. وأشار إلى آخر مكتوب وصله، وقال إنه كان هدية العيد هذا العام، وصلنا ليلة العيد وسافتحه الآن، وتبيّن أنه يتضمن مجموع فواتير الماء والذي وصل إلى قرابة ال ٢٠٠٠ شيكل.

اليأس: الآتي ينذر بالأسوأ

قد لا تكون حجم المأساة الاقتصادية بقدر المأساة النفسية التي حلّت بهذه العائلة. مرت ٧ أعوام على الوالد وهو موجود في البيت لا يخرج نهائياً، وأشهر عديدة جلست الأم في ذات الزاوية من المنزل، بينما لا يخرج الأبناء سوى إلى المدرسة. ووفيما كانت تنظر إلى الحي قالت 'إلى أين يذهبون في هذه الظروف التي نحياها نحن'.

أمّا الوالد فقال إن 'الحياة لم يعد لها طعم، والآتي ينذر بالأسوأ، لدينا في ذات الدرج ديون تتراكم لمنتصف العام القادم'.

تتلقى العائلة جزءا بسيطا من المساعدات من جمعيات ومؤسسات، أما المؤسسات الرسمية فلا عنوان سوى الشؤون الاجتماعية التي تمنحهم بعض المساعدات بين الحين والآخر والتي لا تسد سوى بعض حاجات الأطفال من القرطاسيات وبعض الأدوات اللازمة للتعليم.

وباستثناء هذه الجهات، لا تمنحهم بلدية حيفا، البلدية التي تدّعي التعايش، أي تخفيض في الضريبة فيدفعون تقريباً ٢٠٠ شيكل شهرياً دون مراعاة لوضعهم المادي، في حين أن مؤسسات التوجيه لا تهتم أبداً بتوجيه الوالد لأي عمل يستطيعه رغم وضعه الصحيّ الحرج، والعامل الاجتماعي رفض مساعدته في الحصول على عمل حتى ٤ ساعات يوميا رغم الإعاقة، كما أن مخصصات الأطفال تراجعت إلى ٤٠٠ شيكل بعد أن كانت ٨٠٠ شيكل أي ما يعني النصف.

ويشير الوالد بابتسامة لم تفارقه، ويقول إن 'من واجب أي كان من هذه المؤسسات الرسمية مساعدتنا، إلّا أنها تستغل جهلنا بالقوانين لسحبنا نحو القاع أكثر فأكثر'.

>> عودة إلى "ملف حيفا"

التعليقات