الصفوري... لم يبرح دكانه بالناصرة منذ ما قبل النكبة

لم يبرح الصفوري مكانه في ساحة العين (عين العذراء) في الناصرة منذ العام 1937 واستقر في دكان والده قبل أن تهجر العصابات الصهيونية أهالي بلدته، صفورية، في نكبة العام 1948.

الصفوري... لم يبرح دكانه بالناصرة منذ ما قبل النكبة

الصفوري في دكانه بالناصرة (عرب 48)

عندما يتحدث شخص تجاوز السبعين من عمره ويقول "حين كنت طفلا صغيرا كنت أذهب إلى دكان ‘الصفوري’ لشراء حاجيات وأغراض البيت لأمي"، دون أن يسأل أحد من الصغار أو الكبار من هو هذا الصفوري؟ يعني أن الجميع يعرفونه، فقد ذاع صيت الصفوري أحد الرموز أو المعالم التي ترسم تاريخ الناصرة.

لم يبرح الصفوري مكانه في ساحة العين (عين العذراء) في الناصرة منذ العام 1937 واستقر في دكان والده قبل أن تهجر العصابات الصهيونية أهالي بلدته، صفورية، في نكبة العام 1948.

ما قبل النكبة

والصفوري موجود منذ زمن الانتداب البريطاني، "كنت هنا قبل ما تحتلنا إسرائيل. كل شيء من حولي تغير وأنا لم أتغير ولم أتمكن من اللحاق بركب التطور والحداثة ومواكبة تغيرات العصر. بقيت في دكاني الصغير والمتواضع بينما الذي كان يعيش في ‘خشة’ أصبح اليوم يعيش في بناية من عدة طوابق".

ويستقر الصفوري البالغ من العمر 94 عاما، في دكانه الصغير في ساحة كنيسة البشارة في مدينة الناصرة، وهو المكان الذي لا يستطيع الابتعاد عنه لدرجة أنه يردد دائما "أفضّل أن أدفن في دكاني على أن أغادره".

أول مهجر من صفورية لقب يعتز به

إنه صالح محمد عوايسي "أبو مازن" من مواليد العام 1924 وهو أول مهجري قرية صفورية، لديه 6 أولاد وأكثر من 30 حفيدا، وهو الوحيد من مهجري صفورية الذي يحمل لقب "الصفوري"، لقب يعتز به لدرجة أن الغالبية العظمى من سكان المدينة ومنطقة العين لا يعرفون اسمه الحقيقي ولا اسم عائلته بل يعرفونه منذ 80 عاما بـ"الصفوري" صاحب الدكان الصغير في ساحة الكنسية البشارة للروم الأرثوذكس قرب عين العذراء.

وعن حالته الصحية، قال الصفوري لـ"عرب 48": "ماذا أقول لك عن صحتي؟ لقد انتهى دوري في الحياة، فأنا اليوم ابن الرابعة والتسعين أكاد أفقد نظري وسمعي وأشياء أخرى"! ثو يضحك ويقول "لم يتبق أي شيء"!

الدكان هو أوكسجين الحياة

الطريقة التي حدثنا بها الصفوري عن دكانه تدل على مدى تعلقه به ويبدو واضحا للمتحدث أن هذا الدكان هو الأوكسجين الذي يعيش عليه أبو مازن... "كل يوم أركب بالحافلة من حي الصفافرة وآتي إلى هنا في الساعة السابعة صباحا، وأكتفي بما يبعث الله لي من الرزق حتى ساعات الظهر ثم أعود ألى البيت".

ان كان دكانه عامرا بالعطارة والمؤن وكل ما تحتاجه العائلة العربية التقليدية، أصبح اليوم لا يبيع سوى الماء والسجائر. ويقول متذمرا "كيف أستطيع أن أبيع البضائع في الوقت الذي تحتل الشبكات الغذائية والحوانيت الكبرى كل الشوارع والمراكز التجارية؟ أما المطاعم من حولي فتحتل ساحة العين وتضيق الخناق على دكاني لدرجة أنني في أحيان كثيرة لا استفتح ولا أبيع سيجارة واحدة ولا زجاجة ماء".

توفيق زياد قائد لا يتكرر

يجلس على كرسيه البلاستيكي المزود ببطانة من القماش السميك ليكون مريحا حتى وإن أطال فترة الجلوس عليه، يراقب المارة وينتظر صديقه "أبو مكرم" الذي يشاركه لعبته المفضلة "الشدّة" أو أوراق اللعب، وإن لم يحضر صديقه تراه يرحل بذاكرته البعيدة إلى محطات ومشاهد بارزة في حياته المديدة تذكره بما كان ليتحسر على تلك الأيام، ويقول إن "الحياة زمان كانت غير، الناس كانت متهنية بعيشتها، الناس كانوا أوادم".

ويتذكر الصفوري المظاهرات التي شهدتها الناصرة وخطابات القائد الراحل، توفيق زياد، وغيره... ويقر معترفا أنه "لا يوجد اليوم زيّاد آخر فذاك الرجل لن يتكرر. الأوضاع تسوء، وين زعامات اليوم من زعامات قبل".

دكان مقابل 5 ليرات سنويا

يستذكر الصفوري فترة ما بعد انتقال أسرته من بساتين صفورية إلى الناصرة، في زمن الانتداب البريطاني، ويقول لـ"عرب 48" إن "والدي كان موسوسا، فنصحوه بأن يجد له عملا يطرد الوسواس من تفكيره، فجاء إلى الحسبة وتعلم الحلاقة عند ‘عزو الحلاق’ وفرح دانيال والد خالد دانيال، وكان الدكان مغلقا في حينه، وكان مالكه يبحث عن مستأجر له، وعندما علم سليم سكران بأن الصفوري يحمل 5 ليرات في جيبه ويرغب باستئجار الدكان، ذهب إلى صاحب الدكان وقال له إن هناك رجلا من صفورية يحمل 5 ليرات ويريد أن يستأجر الدكان، فخرج صاحب الدكان إليه حافيا، وسأله هل معك 5 ليرات؟ فرد الصفوري بالإيجاب، فقال له أجّرتك الدكان".

أما اليوم وبعد مرور 80 عاما فيدفع الصفوري 65 شيكلا، في الشهر لقاء الإيجار، بينما يدفع صاحب المطعم المجاور له ما يقارب 8 آلاف شيكل في الشهر، على حد قوله. وعن سبب الإيجار الرمزي والمنخفض الذي يدفعه، قال الصفوري إن "هؤلاء أشخاص كرام، ينتظرونني حتى أموت ولا يريدون أن يثقلوا على كاهلي، ويكتفون بأقل من القليل! أعتقد بأنني لن أكمل عامي هذا في الدكان فلقد أنهكني عته الشيخوخة"!

مسيرة طويلة

عمل أبو مازن إلى جانب والده في الدكان منذ العام 1937 حيث تسلم مفاتيحه بعد رحيل والده، ولا يزال يواظب على ارتياده حتى اليوم رغم تغير الأحوال وتراجع الاوضاع الاقتصادية، وقال إنه "أحيانا يمر النهار دون حتى أن أبيع زجاجة ماء. تغيرت الأحوال، اليوم، وانتشرت المحلات التجارية الكبيرة والمتطورة فهل سيجد دكاني الصغير مكانه في زحمة تلك المحال. وبالرغم من ذلك فإن الدكان بالنسبة لي كنز لا يقدر بثمن ومنه استمد الطاقة لاستمر، لدرجة أنني دائما أقول بأنني أفضّل أن أدفن فيه على أن أغادره حيا".

السابعة صباحا بتوقيت الصفوري

للسابعة صباحا إيقاع خاص في حياة الصفوري، ففيها يلتقي مجددا كل صباح مع دكانه في ساحة كنسية البشارة وهي أجمل ساعات النهار بالنسبة له. يواظب منذ سنوات طويلة على فتح دكانه في السابعة صباحا، ويقول إنه "أتتبع السياح، من روّاد الكنيسة، وأهل المدينة والمارة من ساحة الكنيسة أتتبع خطواتهم ومع هذه الخطوات أستذكر ما كان وأحن إلى الماضي وإلى المساحات الترابية الواسعة والخالية إلا من بعض الأشجار، فكل شيء جديد اليوم. هنا مكان الساحة كان يمر الشارع المؤدي إلى حي الروم، وبعدها أصبح دوارا قبل أن يصبح ساحة للكنيسة. معظم الوجوه التي كنت أراها يوميا في الحي فقدتها، لقد رحلوا جميعا. عايشت أجيالا بعد أجيال. كثيرون هم الذين أتذكرهم أطفالا قصدوا دكاني للشراء واليوم يمرون من هنا برفقة أبنائهم. ويبقى الأهم بالنسبة لي أنني ما زلت في دكاني".

ما بين الناصرة وصفورية

يشتاق الصفوري إلى مسقط رأسه، صفورية، كسائر أهلها. وعن الأشياء التي يتذكرها في قريته وبساتينها حدثنا بلهفة واضحة عن شجرة التوت في الساحة الخلفية للدار، وعن ذهابه للتعلم وهو حافي القدمين، وقال إنه "كنا نقطع مسافات طويلة للوصول إلى المدرسة. التعليم زمان كان أحسن، تعلمنا الجداول، القراءة، والكتابة رغم بساطة الحياة وضيق الأحوال. لكن أتذكر كيف كنا ندفع مقابل تعليمنا مما توفر لدينا من مونة في البيت".

ولا ينسى الصفوري ساعات المغيب حين كانوا يتوجهون مشيا على الأقدام من صفورية إلى حيفا لبيع الخضروات.

يسكن الصفوري، اليوم، في بيت متواضع في "حارة الصفافرة" وقبلها سكن في "حارة الروم" أو كما كانوا يسمونها في الماضي بـ"حارة الصبر" لكثرة "الصبر" فيها بحيث عاش أجمل أيام عمره فيها، كما قال، وتميزت بـ"الجيرة الطيبة والناس الطيبة".

"فش مثل البلد"

حارة الصفافرة على مرمى حجر من قريته المهجرة، صفورية، يحب الناصرة وأهلها، لكنه يقر أنه لا مكان يريح الإنسان سوى بلده ومسقط رأسه وكغيره ينتظر العودة إلى صفورية، وقال إنه "ما في مثل الأرض والوطن. كل شيء بصفورية كان أطيب، الزيت، اللبنة، الجبنة، الخضراوات كان لها طعما آخر هناك". ويرى الصفوري أن نكهة هذه الأطعمة تغيرت وكذلك الناس تغيرت، وقال إنه "كل شي خرب والناس خربت".

التعليقات