22/06/2019 - 19:15

لقاء | عن المشاع الفلسطيني الذي حاربته بريطانيا وصادرته إسرائيل

د. رامز عيد: "المشاع" الفلسطيني وفر إدارة ذاتية محلية على الأرض والحيز العام | الحديث عن نظام اقتصادي اجتماعي كامل يعتمد على الملكية العامة والتوزيع العادل | بريطانيا أعلنت الحرب وإسرائيل أجهزت على المشاع الذي شكل 70% من أرض فلسطين

لقاء | عن المشاع الفلسطيني الذي حاربته بريطانيا وصادرته إسرائيل

رامز عيد

د. رامز عيد:

  • "المشاع" الفلسطيني وفر إدارة ذاتية محلية على الأرض والحيز العام
  • الحديث عن نظام اقتصادي اجتماعي كامل يعتمد على الملكية العامة والتوزيع العادل
  • بريطانيا أعلنت الحرب وإسرائيل أجهزت على المشاع الذي شكل 70% من أرض فلسطين
  • استحضار النموذج يعزز مفهوم التعاون والتشارك والمسؤولية الجماعية على الحيز العام

في دراسته حول "المشاع" كمجال عمومي ديمقراطي، يستحضر الباحث رامز عيد منظومة كاملة من العلاقات الاجتماعية الاقتصادية التي كانت سائدة في المجتمع الفلسطيني حتى وقت قريب، ليلقي الضوء على جانب مضيء من تراثنا الجماعي "المفقود"، على أمل أن يتم توظيفه في محاولة استنهاض الهمم وبناء المستقبل.

و"المشاع"، كما يعرّفه عيد، هو اﻟﻤﺼﻄﻠﺢ اﻟﻌﺎم اﻟﺬي أطلق في فلسطين ومناطق عديدة من بلاد الشّام، ويضمّ معانيّ عدّة، تتعلّق جميعها بالحقوق المشتركة لأعضاء مجموعة معيّنة من الأفراد على أرض أو حيّز معيّن، هذه المجموعة المعيّنة، شملت، في المعتاد، أبناء القريّة أو أبناء المنطقة. وكانت الأراضي الزراعية التي يمتلكها أبناء القرية أو المدينة معًا بملكيّة مشتركة تسمّى "المشاع"، وكذلك المساحات الواسعة المعدّة لرعي الماشية وأراضي الأحراش والغابات المحيطة بالبلدة، وساحة القرية العامّة ومنطقة نبع الماء، وكذلك الأمر مع بعض أجزاء البيت الواحد المشتركة.

ويقول عيد في حوارنا معه حول هذا الموضوع إنّ نظام "اﻟﻤﺸﺎع" التشاركي لإدارة الأراضي والحيّز العام من أهمّ الأنظمة التي رتّبت العلاقات داخل المجتمع الفلسطينيّ حتى منتصف القرن العشرين، وإنه انتشر في معظم القرى الفلسطينيّة حتى تلك الفترة.

عرب 48: في المفهوم "الحديث"، المتأثّر على ما يبدو بقيم الملكية الخاصة التي رسختها الرأسمالية، يحمل المصطلحُ معنًى سلبيًا، حيث يطلق شعبيا على "الحيز المنتهك الذي لا صاحب له"، بينما يشتقّ علميا من مرحلة المشاعية البدائية وهي المرحلة الدنيا في سلم التطور الاجتماعي الاقتصادي الذي بناه كارل ماركس، وهو يبدأ بالمشاعية البدائية وينتهي بالشيوعية؟

عيد: بمفاهيم القرن التاسع عشر، كان هناك أناس متطورون أكثر وأناس متطورون أقل، وتلك إحدى مشاكل النظريات التي نشأت في كنف تلك الفترة وبضمنها نظرية ماركس. اليوم هذا الحديث مرفوض كمبدأ، فلا توجد مجموعة متطورة أكثر وأخرى أقل، ولا يوجد مقياس يقيس درجة تطور الأشخاص والمجتمعات. في علم الاجتماع الأنثربولوجي، نتطلّع إلى كيفية عمل المجتمع وما هو تاريخه وما هي المؤثرات الفاعلة عليه، ولا نحكم عليه إن كان متطورًا أم متخلّفًا، وبالعادة من يحكم على أشياء بأنها غير جيّدة هو من يريد أن يغيّرها، ولذلك كان الاستعمار الأوروبي البريطاني يحكم على كل مؤسسة أو طريقة معيشة لدى الشعوب التي احتل بلادها بأنها متخلفة وبضمنها المشاع.

عيون الماء كانت جزءًا من "المشاع" (عين العذراء في الناصرة قبل النكبة)
عيون الماء كانت جزءًا من "المشاع" (عين العذراء في الناصرة قبل النكبة)

وبالنسبة للمشاع الكلمة أو المعنى، فهو كل ملك عام أو مساحة عامة أو أي موارد عامة، بمعنى أنّه يضم الأرض وما هو على الأرض أو في باطنها مثل عيون الماء التي كانت تتبع لجميع الأهالي دون استثناء.

والمشاع، حسب تعريفه في علم الإنسان، هو المؤسسة أو مجموعة القوانين والأعراف والاتفاقيات، التي يتفق المجتمع عليها في إدارة هذه الأماكن بشكل توافقي فيه تعاون وتشارك بين أهل البلد.

عرب 48: هو نوع من التشارك الفطري، إنْ صحّ التعبير، فيه تعاون وتقاسم الهم والمسؤولية الجماعية والفردية، أو التكافل الاجتماعي لمواجهة ضيق العيش؟

عيد: هذا النمط كان سائدا لدى كل الشعوب التقليدية على مر التاريخ وليس في فلسطين والشرق حصرا، ويعتمد على اقتسام الموارد وتوزيعها بشكل طوعي وتشاركي، بما يلبي احتياجات جميع أفراد المجتمع، وذلك في غياب أطراف قوية تسيطر وفي ظل عدم مركزية الدولة التي تحتكر العنف وتسعى إلى تغيير نمط معيشة الناس بالقوة.

هناك الكثير من الأبحاث التي تشير إلى أنّ هذه الشعوب كانت تعيش، في الشرق بشكل خاص، وعلى مدى آلاف السنين في ظل هذا النظام الذي يتمتع بإدارة داخلية للموارد وحتى للأمور السياسية المحلية، بشكل توافقي وبطريقة يمكن أن نسمّيها ديمقراطية محلية.

قد يبدو الأمر غريبًا، ولكن إذا أدركنا أنّ الديمقراطية هي اتخاذ القرار بشكل مشترك، بعد سماع آراء وأصوات الجميع، وليس فقط ما نعتقده اليوم في ديمقراطية الـ51%، نعي أننا أمام أحد أنواع الديمقراطية التي يمكن أن نسميها ديمقراطية توافقية، ربّما هي أكثر نجاعة من ديمقراطية الـ51%، التي تزيد النزاعات في المجتمع.

عرب 48: هناك جانب اقتصادي اشتراكي، أيضًا، يتمثل بالملكية العامة للأرض والموارد وتوزيعها وفقا للحاجة؟

عيد: واحدة من خصائص المشاع ترتبط بكيفية توزيع الأرض والموارد وما يزرع فيها وتغيير الحصص المخصصة لكل فرد أو عائلة حسب احتياجاتها المتغيرة، فهناك الحاجة الجماعية وهناك الحاجة الفردية لكل شخص وآخر، والطريقة كانت تنطوي على نوع من الضمان الاجتماعي، فالضعيف أو ذو الحاجة يأخذ قدر حاجته، ومن هو بحاجة أكثر يحصل على حاجته، أيضًا.

ويشمل التوزيع الأراضي الزراعية ومساحات الرعي وعين الماء وغيرها، فلا أحد يتملك عين الماء ويبيع المياه للناس بيعا، بل هي مشاع للبلد يغرف منها الأهالي وفق حاجتهم من الشرب وسقاية الماشية والاستعمالات المنزلية.

وفي بعض الأحيان يدخل الطابون أو المخبز ضمن المشاع، بالإضافة إلى الكثير من الساحات والميادين والمحلات والزوايا في الحياة العامة.

عرب 48: الحديث يدور عن موارد عامة احتكرتها، جميعها أو غالبيتها الدولة لاحقا؟

عيد: نحن نرجع للمعنى الأساسي والرسالة المستفادة أننا كمجتمع فلسطيني كانت لدينا إدارة ذاتية محلية، دون حاجة لتدخل الدولة، وكانت الناس تتدبر أمورها وفق هذا المبدأ على أساس تشاوري تشاركي توافقي، هو نوع من الديمقراطية التوافقية.

عرب 48: أو نوع من الاشتراكية الديمقراطية؟

عيد: هي اشتراكية ديمقراطية، بمعنى أنّ الجميع يشارك في القرار ويتشارك في الموارد، والغريب أن هذا الأمر غائب عن تاريخنا، فنحن لم نتعلم أن حياتنا كانت تدار بهذا الشكل.

غيّرت السلطات الإسرائيلية حياة البدو أيضًا (صورة لبدو القدس في القرن التاسع عشر)
غيّرت السلطات الإسرائيلية حياة البدو أيضًا (صورة لبدو القدس في القرن التاسع عشر)

نستطيع أن نقول إنّه حتى الثلاثينيات والأربعينيّات من القرن العشرين، كان كثير من المناطق في فلسطين تعيش وفق هذا النمط، بمعنى أنّه على امتداد الحكم العثماني جرى تكريس وتشجيع هذا الأسلوب وفقط في منتصف القرن التاسع عشر بدأت الدولة العثمانية في سنّ قوانين ذات طابع فرنسي- بريطاني، يمكن تسميتها قوانين رأسمالية، شجعت الملكية الخاصة وتسجيل الأراضي بملكية فردية.

إلّا أن الحرب الحقيقية على المشاع بدأت في عهد الاستعمار البريطاني، بعد الحرب العالمية الأولى، لأن المشاع هو نقيض الرأسمالية التي تشكل الملكية الخاصة ركنها الأساسي، كما أن مصلحة المستعمر أن تسجل الأراضي بملكية فردية لتسهيل التصرف بها ولغرض جباية الضرائب ودفع عجلة اقتصاد النقد وتشغيل البنوك، ناهيك عن مصلحة المنظمات الصهيونية المرتبطة به كانت تقتضي القضاء على المشاع ليتسنى لها شراء الأراضي.

عرب 48: تقول إنّ تسجيل الأراضي بملكيات خاصة كان يخدم المنظمات الصهيونيّة، أيضًا؟

عيد: نعم، فالمنظّمات الصهيونية هي منظمات رأسمالية بطبيعتها وحتى المصطلحات التي استعملتها، "مستوطنة" و"استيطان" وغيرها هي مصطلحات استعمارية، وبالنسبة لها، كان الهدف الأول هو الاستيلاء على الأرض، والأراضي المشاع التي شكلت غالبية أراضي فلسطين في تلك الفترة كانت خارج نطاق السيطرة، لأنها غير خاضعة للبيع والشراء وهو ما شكل مشكلة كبيرة بالنسبة لتك المنظمات التي كانت تحظى بتمويل ودعم رأسماليين أوروبيين.

وهذا كان أحد الأسباب الذي حفز البريطانيّين على إعلان الحرب على المشاع وتشجيع إفراز الأرض وتقسيمها بواسطة القوانين التي شرعوها وتشجيع تسجيلها بالطابو كأملاك فردية. ولتحقيق هذا الغرض، استعمل البريطانيون قضية التطور والتمدين والتحديث، واتّهموا هذا الأسلوب (المشاع) بأنه متأخر متخلف وغير قائم في المجتمعات الحديثة، وهي نفس الأساليب التي استعملتها إسرائيل عندما حولتنا من فلاحين إلى عمال بغية مصادرة أرضنا، ونفس الأساليب التي تستخدمها في النقب اليوم، حيث تسمي دوائر ترحيل البدو بدوائر تطوير البدو.

كما استعمل البريطانيّون مسألة تغيير الضرائب المفروضة على الأرض، حيث بدأوا بجباية الضريبة نقدًا، وليس وفق نسبة من المحصول، كما كان في العهد العثماني، وبذلك أدخل البريطانيّون الفلاحين في ماكنة رأس المال والديون والفوائد والضمانات ورهن الأراضي والتي تتطلب وجود الملكية الخاصة.

عرب 48: ولكن نحن نعرف أنه كانت هناك عائلات إقطاعيّة، بعضها فلسطينيّ وبعضها لبنانيّ وسوريّ، هي من باع الأراضي للعصابات الصهيونية وليس الفلاحين؟

عيد: نعم، الضرائب في نهاية العهد التركي أثقلت كاهل الفلاحين، الذين كانوا يرهنون الأرض لعائلات معينة تتمتع بعلاقة تعاون مع البلاط، وبالتالي تستحوذ عليها وتبقي الفلاحين يعملون بها، كذلك فإنّ عملية تسجيل الأراضي التي ارتبطت بالخدمة في الجيش جعلت الكثير من الفلاحين، بغياب الوعي الكافي لأهمية التسجيل بالطابو، يسجلون الأرض باسم تلك العائلات طوعًا، للتهرّب من الخدمة، الأمر الذي أدى إلى نشوء تلك العائلات التي استحوذت على جزء كبير من الأرض، بعضها باع جزءًا كبيرًا منها للصهاينة على غرار عائلة سرسق وغيرها.

عرب 48: ويبدو أنّ الحرب على المشاع قد نجحت فعلا؟

عيد: مع بداية الاستعمار البريطاني كانت أراضي المشاع تشكل 70- 75% من فلسطين، وفي نهايته لم يبقَ من منها سوى 25- 30% فقط، وفي النقب كانت نفس النسبة، أيضًا، إلّا أن مشكلة النقب هي أنّ الدولة في فترة الانتداب البريطاني وبعد قيام إسرائيل ضغطت باتجاه تسجيل الأراضي، إلّا أن الأهالي لم يريدوا ذلك ولم يريدوا الانتقال إلى مفهوم الملكية الخاصة، ولأن الدولة هي الأقوى ولأنها استعمارية، استغلت ذلك للاستحواذ على الأراضي، بادعاء أنّها أعطت فرصة للتسجيل ولم يفعل السكان ذلك.

هذا علما أنّه في بعض الدول، مثل سويسرا، اعترفت الدولة بهذا النمط من الملكية الجماعية – المشاع - وهذا النظام التشاركي ما زال قائما في العديد من القرى السويسرية إلى اليوم.

عرب 48: الفرق أنّنا أمام دولة استعمارية تريد حجة لمصادرة الأرض؟

عيد: إسرائيل سعت إلى التخلص مما تبقى من المشاع واستعملت لهذا الغرض بعض المخاتير والمتعاونين لتسجيل الأراضي، وبعد إلغاء المشاع، صار شراء الأرض أو الاستيلاء عليها أكثر سهولة ممّا سبق.

ونلاحظ أنّه في المناطق الذي كانت بغالبيتها مشاعًا، مثل الضفة الغربية، لم تستطع المنظمات الصهيونية الحصول على موطئ قدم، ولذلك بقيت في نطاق الدولة الفلسطينية وفق قرار التقسيم الذي عكس بشكل أو بآخر الواقع الذي نشأ على الأرض.

عرب 48: ماذا تريد أن تقول من خلال استحضار هذا النموذج من تاريخنا القريب؟

عيد: هذا النموذج يفترض أن نتعلم منه قضية التعاون وتشارك القرار في المساحات العامة والحيز العام الخاضع للمسؤولية الجماعية، وأن نبدأ من الشارع الذي أمام البيت إلى الحارة والبلدة والأراضي المحيطة بالبلدة، فالمشاع كان يربي نوعًا من المسؤولية المشتركة لكل واحد يشعر أنّه ينتمي لهذه الأرض.

هذه واحدة من القضايا التي يجب أن نعاود اكتشافها من جديد لنطوّر طريقة لتعاملنا مع بعضنا البعض في إطار سياسة محليّة، تكون فيها أكثر مشاركة واشتراكية باتخاذ القرارات وإدارة الحيز العام.


رامز عيد: أنهى شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاقتصادية السياسية في جامعة بيرن بسويسرا سنة 2015، وأجرى البحث الميداني للدكتوراه في جزيرة مايوركا بإسبانيا وفي منطقة جبال الكرمل- بحث مقارن. مهتم بالبحث في مجالات الديموقراطية الشعبية المحلية على المؤسسات الاجتماعية المحلية، البيئة والمجتمع، البحث الإثنوغرافي، ويعمل محاضرًا في الكلية الأكاديمية كنيرت.

التعليقات