حين اختار أحمد صيام العودة إلى أم الفحم.. مشاهد من هبة القدس والأقصى

بدا الفتى في حيرة من أمره، لكنه واثقا بذاته وإن كان مترددا بعض الشيء، متقدما نحو ذلك المفرق، لمحته من بعيد، تقدمت نحوه وسألته عن مبتغاه، وجوابه لم يتأخر: "أنا من قرية معاوية وأريد أن أعبر الشارع للعودة إلى البيت"،

حين اختار أحمد صيام العودة إلى أم الفحم.. مشاهد من هبة القدس والأقصى

عند ضريح ابنهم الشهيد، عائلة صيام (عرب 48)

عندما أسافر بالقرب من مفرق عين إبراهيم في أم الفحم، دائما ما تستوقفني عند الإشارة الضوئية مشاهد هبة القدس والأقصى وأحداث الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 2000، إذ استعيد بشريط الذكريات ملامح ذاك الفتى الذي حوصر بين عناصر قوات الوحدات الخاصة الذين انتشروا على جانبي شارع وادي عارة.

بدا الفتى في حيرة من أمره، لكنه واثقا بذاته وإن كان مترددا بعض الشيء، متقدما نحو ذلك المفرق، لمحته من بعيد، تقدمت نحوه وسألته عن مبتغاه، وجوابه لم يتأخر: "أنا من قرية معاوية وأريد أن أعبر الشارع للعودة إلى البيت"، أبرزت بطاقة الصحافة لعناصر الشرطة، ورافقت الفتى إلى ما بعد مفرق عين إبراهيم.

عائلة الشهيد أحمد صيام من معاوية، الشهيد أحمد يقف بجانب والدته وسط الصورة

سار الفتى عشرات الأمتار صوب مسقط رأسه معاوية، وعدت أدراجي إلى ساحة المعركة في مفرق عين إبراهيم، راقبته وإذ به يتجاوز قوات الشرطة ويعبر الشارع ويتسلق جبل قحاوش عائدا إلى أم الفحم، تعالت صرخاتي نحوه وطالبته بالعودة، لكنه التفت إلى الوراء دون أن يرد، واختفى بين الشجيرات وأغصان الخريف التي أحاطت المنزل الأحمر الذي أعتلاه قناصة الشرطة الإسرائيلية.

وسط حالة من الخوف والترقب، أصوات الرصاص وقنابل الغاز تخترق الصمت الذي خيم قرابة نصف ساعة على مفرق عين إبراهيم، قوات مدججة بالأسلحة تساندها الجيبات الشرطية تحاول عبور المدخل الرئيسي لأم الفحم، تجددت المواجهات؛ الآلاف من أهالي المدنية والبلدات المجاورة اعتلوا قمم التلال على جانبي الشارع الذي يصعد نحو الأحياء السكنية للمدينة، متاريس وحجارة وإطارات مشتعلة حالت دون تقدم قوات الشرطة والتوغل داخل الأحياء السكنية.

المنزل الأحمر

فجأة يُطلق رصاص من جهة المنزل الأحمر الذي اعتلاه القناصة وكانت الأوامر من قائد شرطة الشمال، إليك رون، "أريد قتلى.."، الطلقات الأولى خلفت جرحى بصفوف الشبان... مزيدا من أصوات الرصاص... تعالت الأصوات... المزيد من الجرحى... ومع أول صرخة أنبأت بسقوط شهداء برصاص القناصة، حتى انسحبت قوات الشرطة والوحدات الخاصة من أم الفحم ومنطقة عين إبراهيم، بعد استشهاد أحمد صيام، ومحمد جبارين، ومصلح أبو جراد من دير البلح.

امتدت شرارة الانتفاضة واشتعلت الهبة في مدن وقرى المثلث والجليل والنقب ومدن الساحل، في مشهد وحد الجماهير العربية بالداخل.

إلى قرية معاوية سافرت، حيث منزل الشهيد، وكم كانت اللحظات صادمة بالنسبة لي عندما رأيت صور الشهيد تزين مدخل منزل العائلة، تذكرت ملامح الفتى من يومين عند مفرق عين إبراهيم حيث قال إنه كان بطريق العودة لمسقط رأسه، وهو ذاته الذي أختار العودة مقدمًا إلى أم الفحم، حيث استشهد برصاص القناصة. 

أحمد البطل

كان أحمد صيام، على موعد مع الشهادة، ففي الليلة الأخيرة قبل استشهاده، وفيما كان والده ووالدته في رحلة إلى الأردن، أختار أن يدعو جميع أصدقائه ومعارفه وأبناء جيله من الجيران والأقارب في سهرة وداع زينتها الفرحة احتفالا بقبوله لدراسة إدارة الأعمال، وكان أسوة بالجميع، يرقب تطورات الأحداث في ساحات المسجد الأقصى عقب اقتحام رئيس الحكومة الأسبق، أريئيل شارون، لساحات الحرم.

وعلى بعد مئات الأمتار من منزل العائلة، يرقد الشهيد أحمد في مقبرة القرية، إذ تعيش العائلة إلى يومنا هذا على ذكراه وذكرياته، ويسترجع والده حب وشغف أحمد بالمسرح والتمثيل، إذ تألق بالمرحلة الإعدادية في مسرح المدرسة بعرض مسرحية لتخليد شهداء مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل، وكان أحمد يؤدي دور البطل الذي استشهد، ورفع على الأكتاف في مشهد مسرحي تحول إلى حقيقة مع اندلاع الانتفاضة الثانية.

باستشهاده ترك تفاصيل بدت للوهلة الأولى صغيرة، لكنها، كما يقول والده إبراهيم أبو صيام لـ"عرب 48": "تركت إرثا وموروثا في سيرة ومسيرة العائلة التي عثرت بين كتب ومستندات ومذكرات أحمد على وصيته بنيل الشهادة فداء للقدس والأقصى وفلسطين، كما كان حلمه بطرق عالم الإدارة والأعمال والنهوض بالاقتصاد العربي، حيث تم قبوله، قبل استشهاده بأيام، للدراسة في كلية إدارة الأعمال في روبين".

قضايا الوطن

"بدت على أحمد ملامح الرجولة والجدية"، يسرد والده بلوعة وحسرة، "عيناه واسعتان ملونتان كتراب الأرض كما لون بشرته، وعندما اندلعت الشرارة الأولى للانتفاضة الثانية كان عمره 18 ربيعا، أنهى تعليمه الثانوي، وكان على موعد للالتحاق بالتعليم الأكاديمي، ومشغوف بالحياة والسياسية وقضايا الوطن وقضية شعبه".

والد الشهيد وحفيدته سارة التي ولدت عشية الذكرى الـ19 للهبة 

ما كانت عائلة أبو صيام تخاف على بكرها أحمد، الذي عاش وعايش قضايا شعبه ومجتمعه، ودائما كان يشارك في الفعاليات الوطنية والسياسية والاجتماعية في بلدته معاوية وفي منطقة أم الفحم، ففي الأول من تشرين الأول/أكتوبر عام 2000، لبى نداء لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، واتجه إلى أم الفحم للتظاهر ضد اقتحام شارون للأقصى.

قبيل أيام من الذكرى الـ19 لهبة القدس والأقصى والانتفاضة الفلسطينية الثانية، ترزق عائلة صيام بحفيدة جديدة اسموها سارة، يقول جدها، والد الشهيد صيام: "أدخلت البهجة والسرور لقلوبنا وبعثت الأمل من جديد في حياتنا، ولكن تبقى في القلب غصة وفي العين دمعة على فقدان أحمد؛ فكل أب وأم ينتظرون بشغف مستقبل أبنائهم وبناتهم، ولكم أن تتخيلوا ماذا كان يمكن لأحمد أن يكونه بعد مرور 19 عاما".

رفاق الشهيد

يستحضر والد الشهيد ووالدته، أحمد الذي من المفروض أن يكون اليوم بعمر الـ37، عندما يجلس كل منهم مع ذاته يرقب جيل ابنهم وأبناء صفه ورفاقه، فمنهم المهندس والدكتور والعامل والحرفي ورب الأسرة، وأصحاب الرتب والشهادات الأكاديمية والجامعية، يرون من خلالهم أحمد يرتقي بمثل هذه الشهادات والإنجازات ويكون أسرة، تقول العائلة: "ما خسرنا شيئا، أحمد لم يخسر بل فاز ونال شهادة الاستشهاد، وهي فخر واعتزاز لنا لكل الحياة".

لم تكن كلمة شهيد مجرد أحرف تطلق، بل يقول صيام: "تحولت إلى تاريخ سطرته دماء الشهداء الـ13 لنصرة القدس والأقصى ولإبقاء القضية الفلسطينية في الذاكرة الجماعية"، يتابع "نحن كأهالي شهداء، نفتخر ونعتز بهذا التاريخ ودماء أولادنا التي روت ثرى الوطن، نعيش فرحة ممزوجة بالألم لفقدان أولادنا لكنها تبعث على الأمل، أولادنا قدموا أنفسهم ليعيش أبناء شعبهم، وضحوا بدمائهم دفاعا عن القدس والأقصى، وسطروا التاريخ في مسيرة حرية الشعب الفلسطيني".

والدة الشهيد أحمد صيام تقرأ الفاتحة على ضريح نجلها (عرب 48)

يتجدد الأمل لدى والد الشهيد أحمد بإحياء مراسيم ذكرى الشهداء، ويعتقد أن المراسيم مهما كانت رمزية، إلا أنها تبقى في غاية الأهمية لترسيخ معاني وقيم ودلالات الاستشهاد والنضال من أجل الوطن والمقدسات، ويولي أهمية بالغة لأي نشاطات وفعاليات لتخليد ذكرى الشهداء والمناسبات الوطنية وتناقل الروايات وكتابة التاريخ المعاصر، لترسيخ ذاكرة أبناء الشبيبة وتحصين الهوية العربية للأجيال المقبلة.

الذاكرة الجماعية

ولتخليد ذكرى شهداء الداخل الفلسطيني منذ يوم الأرض مرورا بالانتفاضة الأولى وهبة القدس والأقصى، يقترح صيام إطلاق أسماء الشهداء على مؤسسات ومشاريع وشوارع في البلدات العربية، كي لا تغب التفاصيل والأحداث عن الذاكرة الجماعية وبغية التأكيد للنشء أن الشبان قتلوا ظلما وبدم بارد على أيدي قوات الشرطة الإسرائيلية التي قتلت العشرات أيضا من أبناء المجتمع العربي بعد أحداث أكتوبر 2000.

أسر الشهداء يتقدمون مراسيم إحياء انتفاضة القدس والأقصى

وأكد والد الشهيد أحمد، أن المجتمع العربي لم ولن ينسى الشهداء، ولكن الأحداث اليومية والتحديات التي تضعها المؤسسة الإسرائيلية أمامه، خاصة في قضايا الأرض والمسكن وهدم المنازل وشلال الدماء المتواصل في القرى والمدن العربية وعشرات ضحايا العنف والجريمة سنويا، تشكل تحديات فورية وعاجلة؛ يقول صيام: "ساهمت بانشغال الناس وتفكك المجتمع، إذ تحاربنا الدولة بإشاعة السلاح والفوضى والاقتتال الداخلي لحرفنا عن القضايا المصيرية".

التعليقات